تجري وقائع مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" في مكان القضية وزمانها. أقول القضية كي لا أقول "النكسة" تلك التسمية المموهة التي تقنّع الهزيمة. ولا أقول الهزيمة لأنها لم تدخل في القاموس السياسي ولا اسم لها في سياق المسرحية. فالاسم أعنف من المسمّى أحياناً. سعد الله ونوس يجعلها"حفلة سمر"من أجل 5 حزيران. وقد لا نكتشف العلاقة بين السمر وبين ذلك التاريخ. هل تمت برمجة السمر لمداواة الهزيمة أم للترفيه عن المنكوبين أم لتقديم الإيضاحات؟ هذه الافتراضات قائمة جميعها. في تلك الحفلة كان يفترض أن يقدم المخرج مسرحية. غير أن المؤلف غائب والنص غير مكتمل. هكذا تصبح سلطة المخرج مطلقة. وسيخترع أي شيء لملء الفراغ. حفلة موسيقية أو غنائية مثلاً. تعدد الآراء أو توالي الاعتراضات سيدفع إلى منصة الكلام موجات متوالية من جمهور الصالة ولكل منهم رأيه وحكايته التي يعتبرها أكثر صلة بقضيته. تتقدم من ثمّ مجموعة كبيرة من مشروعات الحكايات، ولا يكتمل أي منها لأن حكاية تالية تقاطعها وتسقطها، ويستمر هذا على مدى أربع وعشرين حكاية أو مشروع حكاية تترابط في مفصل سلبي أو مفصل افتراق يستدعي النقض. وهي حكايات لا يقدم أيٌّ منها ما يلقي ضوءاً على تلك الحرب. ومحاولة الحكاية التي رواها الضابط ليبين ما قام به مع صحبه"في جورة الزيتون"جاءت أقرب إلى الخرافة وقوطعت على الفور ومثلها حكاية الفلاحين عن الانقطاع في الحرب واضطرارهم إلى النزوح. هكذا ينبني مضمون جديد للمسرحية يقوم على الاحتجاج والتعليقات في صفوف المشاهدين وعلى التدخلات المختلفة من قبل شخصيات تمثل فئات من الشعب. يتم التعليق والتدخل من الصالة حيناً أو بالصعود إلى المنصة حيناً آخر. أبو فرج الفلاح، عبدالرحمن، معلم الجغرافيا، التاريخ، الضابط، النازح، ..... مضمون جديد من الآراء المتضاربة التي ينقض بعضها بعضاً ويبقى بعضها غير مفهوم من البعض الآخر. وتنبني هذه التدخلات جميعها بإيقاع سريع وبنوع من التوالي التصويري النقدي والنقضي لتقدم مشاهد هذيانية في تناقضها وانفعالها وانكسارها وغربتها، وتنكشف عبر ذلك آلام وخيبات كما تنكشف حالة عامة من الوهم والإيهام والتغييب بحيث يبقى موضوع الهزيمة بوقائعها وأسبابها غامضاً بل غائباً عن الواقع. ويقدم توالي الروايات والمواقف، عبر ذلك كله، حالة من الفصام بين من يعاني ولا يفهم السبب أو السر، ومن يملك حقائق مبدئية بلا خطط ولا وسائل كما في حالة معلم الجغرافيا مثلاً ومن"يخرج"أو يدير ولا يملك من المعرفة غير ما يفترض ويتوهّم، ومن يخشى الأسئلة وانفلات المناقشات ولا يملك الأجوبة فيسوق الجميع إلى السجن. تتحرك إذاً أحداث المسرحية في مناخ الزلزال الفكري القيمي المعرفي الذي أصاب أوساط المثقفين وهز التقويمات والنظرات التاريخية والنظريات السياسية والهيكليات الحزبية والتراتبية السلطوية وصدقية الإعلام الرسمي وقيمة التعبئة الإيديولوجية ولم يوفر المثل والقيم. وإذا كان بيرانديللو يعبر هنا عبوراً خاطفاً على مستوى هيكل العمل المكسور الناقص الذي يلغى ويعاد بناؤه على الخشبة، فإنّ برشت حاضر هنا كمبدأ عام. لكن العمل يؤسس للخط الذي بناه سعد الله ونوس وعمقه ونظّر له وأعطاه عنوان"تسييس المسرح". وتسييس المسرح هو غير المسرح السياسي. تسييس المسرح هو حركية التساؤل وتعدد الأصوات والإضاءات. إنه حركية التفكير بدل سكونية التبشير والتعبئة. لأنه إذا كانت المسرحية تبدأ من فشل المخرج وغياب المؤلف فهذا يعني سقوط المنصة أو الخشبة. ولن يتوقف ونوس في مسرحياته عن الكشف عن سقوط المنصة ولا عن تقديم الجمهور على الخشبة بوصفها حيزاً للمناقشة وطلب المعرفة وأحياناً للتهرب من المعرفة كما في مغامرة رأس المملوك جابر. لم يكن هذا العمل، بموجب هذا الوصف، مجرد ترجمة مشهدية لتساؤلات المثقفين بعد هزيمة حزيران يونيو. لكن المسرحية شديدة التعقيد متعددة الأبعاد ساخرة حيناً مريرة حيناً ملغزة ومبلبلة ونبع تساؤلات. وهي تقوم على بحث مشهدي حركي متوتر يسائل مفهوم المسرح وبناه ورسالته وبنية النص المسرحي والعرض المسرحي لتكون هذه المساءلة الفنية هي نفسها لغة وشكلاً لمساءلة التاريخ وثقافة المنبر والانقطاع بين الخطاب الرسمي والخطاب"الثقافي"ومختلف الأحوال الشعبية وخطاباتها التي يعجز بعضها عن الإصغاء أو عن فهم بعضها خطاب البعض الآخر. هذه المسرحية التي تضع الخطاب على المسرح ليست بهذا التجريد كله. فكل خطاب هو حكاية ولغة فئة وبعض من حياتها. لكن أدهى ما في هذه الفسيفساء من الخطابات أو الحكايات هو أنّ أيّاً منها لا يمسّ الواقع، لا هو يصفه، أي يعرفه، ولا هو يملك تصوراً ممكناً لمقاربته وتدبره. الواقع هنا يفلت من الوصف ومن الفهم، ويفلت بالتالي من كل تحليل أو تغيير. ومعضلة الخطاب المنفصم تماماً عن الواقع وتفتت الحطابات، تقوم أولاً في غياب التبادل والحوار وغياب الاعتراف بهذا الوضع من التبعثر والانقطاع، وفي الانطلاق من مطلقات عامة فوقية هي جوهرياً لفظية مفترضة منقطعة عن كل مضمون. إنّها مسرحة للمواجهة العبثية الهزلية للخطابات ومن ثمّ المواقف، هي مشهدياً مسرحة للفئات التي تمثلها، وللمفارقات والانقطاعات بل للصدام الخفي في ما بينها. وهنا تقوم دينامية المسرحية. ينهض السياق على توالي المواقف والحالات والأصوات والنظرات والمشاهد وكل منها يزيح الآخر بل ينقضه. وفي هذه الحركية تقوم الدرامية المتوترة في"حفلة سمر من أجل 5 حزيران". لكن هذه الحركة ذات وجه آخر. إنها أكثر من محاولة لقراءة الهزيمة أو لتسفيه الأعذار الرسمية للهزيمة، وحتى تأويلات المثقفين لها. وهي أكثر من مسرحة للمواجهات وتجاور الانقطاعات. وهذه القضية متداخلة بمواجهة من مستوى آخر: الخشبة والصالة. وهي من القضايا الرئيسية لحركة تجديد المسرح العربي ونقد المسرح المقتبس من الغرب وسلطة المخرج والمنصة. وتتداخل القضيتان بحيث تبدو السلطة التي تصادر الكلام وحكايات الناس والتأويل والتقويم، متداخلة بشخصية المخرج الذي يستأثر بالتصور ويصادر سلطة المعنى والتعبير في المسرح، بينما يقوم تناظر وتشابه في الموقف بين جمهور المواطنين وجمهور الصالة. هنا تظهر السلطة في مرآة المسرح ويظهر المسرح في مرآة السلطة. والتقابل بين المرآتين هو محور الدلالة في هذه المسرحية. وبينما تبدو هذه المسرحية أساسياً، محاكمة للسلطة السياسية يبدأ فيها ونوس محاكمة سلطة الخشبة، محاكمة لا تكشف فقط التشابه بين الخشبة والسلطة، بل تظهر هذه الخشبة رمزاً ومجسداً لسلطة الكلام أي سلطة التفكير والقرار. إذ يقوم المخرج بنفسه بدور الشرطي الذي يأتمر بأمر المسؤول ويسوق الكاتب المتمرد على نصه والمتفرجين الذين صعدوا إلى الخشبة أو شاركوا في الكلام، إلى السجن وينهي بذلك اللعبة من أساسها. النص المصادَر أو المقموع في"حفلة سمر"هو حكايات الناس. هو الحكاية التي قتلها"خطاب الراديو"، هنا"خطاب الراديو"هو كناية عن خطاب السلطة الغريب على المتكلم والمخاطبين والمنقطع عن هواجسهم. يعلّق عبدالرحمن الفلاح النازح في مسرحية"حفلة سمر.."على خطاب المسؤول،"يا سبحان الله! يتكلم مثل الراديو". ولو تأملنا في طبيعة هذه الحكاية ونوع النقد الذي أسقطها لوجدنا ضعفها، ومن ثم سقوطها، ناتجين من خرافيتها. إذ يعلق عليها أحد المتفرجين قائلاً:"ولكن أية خرافات تروي؟". واختلافها عن الواقع كما يشير إلى ذلك عبدالرحمن بالقول:"قصة تختلف عن الواقع؟ والله شيء يحيّر الأفكار"ص 73. إنها باختصار، عاجزة عن التأريخ أو تصوير منطق الأحداث. والحكايات التي ألغى بعضها بعضاً جاءت محاولات متوالية للتأريخ أو للقبض على صورة القدر أو منطق الأحداث. المتفرجون الذين أسقطوا حكاية السلطة وكشفوا الزيف والتناقض في حكايات المخرج والضابط توجب أن يدفعوا ثمن الحقيقة التي كشفوها، وتكون تلك هي الحكاية الرابعة والعشرون، الحكاية المخبوءة في آخر الرواق أو في قعر المرآة، حكاية الحكايات، أو حكاية الحكواتي سعدالله ونوس. منذ"حفلة سمر"لم يتوقف سعدالله ونوس عن طرح الظاهرة المسرحية في أعماله كإشكالية سياسية سلطوية، بقدر ما هي قضية فنية. وذلك في عملية نقد وكشف للعلاقة بين المسرح والجمهور، وإظهار الخشبة كاغتصاب للكلام وتغييب نص الجمهور وبالتالي إلغاء للاحتفال واستتباع للمحتفلين. وهو ما يقتضي من المتفرجين المبعدين عن كل كلام، احتلال الخشبة وقول حقيقتهم أو ما يرون أنه حقيقتهم. هذا الصراع على احتلال المنصة، هو ما يكشف واقع البلبلة وغياب أي فهم لما جرى وإن كان يشير إلى جذور العلل. نحن هنا بالنتيجة، بإزاء"الحكاية الغائبة"التي تقوم مقام اللغز، ما دام مخطط المسرحية هو البحث عن الحكاية القائمة في قعر الحكايات، وفي الوقت نفسه البحث عن الحكواتي. لكن من هو الحكواتي في"حفلة سمر"؟ المسرحية بكاملها بحث متواصل عن الحكواتي الذي يمثل في أعمال ونوس صوت الناس أو صوت التاريخ. ولهذا يلعب ونوس لعبة تحويل المتفرج إلى متكلم أي إلى فاعل مسرحي. وبالفعل نجد اللعب على هذه الهندسة المزدوجة القائمة على التعارض في عدد كبير من أعمال ونوس. إذ تركز جانب منها على مشكلة الفصام بين الخشبة والصالة. الخشبة كصوت سلطوي وحيد والصالة كجمهور سلبي مستمع بلا صوت أو مقموع الصوت. الخشبة كناية عن الصوت القادم من أعلى والذي يشكل الحقيقة. وقد جسد ونوس، في مسرحيته المدهشة"الملك هو الملك"مسألة العلاقة السلطوية بين الخشبة والصالة تجسيداً تصويرياً تمثيلياً. إذ كنى عن هذه العلاقة باللعب على قصة التبادل بين الملك وابن الشعب. وقد أكّد المخرج أسعد فضة لدى تقديم هذه المسرحية على ذلك الفصام وتلك الدلالة مشهدياً فجعل الخشبة منصة في المنصة. المنصة العليا لها شكل العرش والمنصة أو الخشبة الدنيا كناية عن الصالة كما أنها كناية عن موقع العامة. أما الحبكة فتقوم بكاملها على لعبة تبادل معروفة في الحكايات الشعبية. حيث يشتهي الملك، من فرط الضجر، أن يلعب لعبة مسلية تثير الضحك. فيتدبر مع حاجبه أو وزيره عملية تبادل الملابس والموقع مع أدنى الرعايا رتبة بعد تنويمه، ويجلسه منوّماً على كرسي العرش ليتفرج على ذهوله حين يقظته. ولم تكد لحظات الذهول الأول تفارق ذلك البديل حتى تعامل مع كرسي العرش بجد ونسي حياته السابقة. وانتهى إلى نبذ الملك الأصلي الذي ليس ملكاً أو ليس ما يثبت أنه ملك خارج كرسي العرش. حتى الأعوان السابقون لم يتعرفوا إلا على الجالس على العرش أي على منصّة القول والفعل. هكذا فالمسرحية، فيما ترسم التعارض بين الأصوات لا سيما صوت المخرج ممثل السلطة والحضور الشعبي المتنوع، ترسم في الوقت نفسه تعارض اللاعب والمشاهد أو المنصة والصالة. وهو تعارض يتمثل في التضاد بين المواقع والرؤى والخبرات، السلطة والقاعدة، أدب الخرافة وحكايات الناس. علاقة التعارض والغربة تولّد آلية التصحيح والنقض، هكذا كلما بدأت حكاية يجري إبطال إشكاليتها أو الاستيلاء على"اللغز"الذي تلاحقه، وهو ما ينهض بحكاية جديدة. من هنا أن صيغة الحكواتي المتعدد، الطالع من الصالة، عند سعدالله ونوس لا تُعتمَد من حيث هي شكل معماري فقط، أو من حيث هي صيغة أو مناسبة يلتقي حولها أهل الحيّ للاشتراك في سماع حكايات الماضي. صيغة الحكواتي تقتضي الحكاية أو الحكايات. الحكاية بما هي مخزن الحِكَم والتصورات الشعبية، الحكاية كمخزون للآلام والأحلام الشعبية، الصيغة التي ازدهرت في عصور انقطاع أهل الأدب والنخبة من أهل الكلام عن العامة والتحاقهم بالقصور. إلى هذه الحكايات ينتسب سعد الله ونوس. إنه نقد مبطن للمثقف العربي وارث هذا الانقطاع، والمتأثر بوضعية المثقف الغربي، المثقف - الفيلسوف. تنتمي إذاً هذه المسرحية في ما تطرحه من قضايا إلى الحركة الجديدة في المسرح العربي. فقد كانت أهم العوامل التي شجعت على نهوض هذا"المسرح"بشكله الحديث هي حاجة البحث عن لغة وأداة للفعل في الثقافة ومن ثمّ في المجتمع واختراق الثقافة بالأسئلة الجارحة الكاشفة. السؤال الفني لم يكن يقدر أن يتجاهل ذلك السؤال السياسي. ولكنه دفعه في اتجاه آخر وأفق أوسع وأبعد. أي أحال السؤال إلى البحث المتجدّد عن لحظة بدئية، عن حيوية رمزية، عن حركية توليد للإشارات والمعاني تتجاوز المنمّط المألوف أو تسائله أو تعيد انبناءه في كلٍّ جديد. هكذا ظهر مسرح يقبل الانشقاق والنقص، يقبل الجرح كسؤال دائم وتحدٍّ دائم واستجواب دائم لمنظومة الرموز التأسيسية والإشارات الأبوية ذاتها. إنه مسرح يعيد ابتكار أصله إذ يعيد تخيل صورته المكسورة وارتجاج لغته بدءاً من الذاكرة المجروحة والإثم الراهن. وهذا ما جعل مسرح ونوس يتجاوز الفرجة التذكّرية الاستعادية ويفجر في داخلها الكارثيّ والخارق ممزقاً أوهام الذاكرة المنتشية بحالها واستيهاماتها حول الانبعاث المتكرر.