يضم كتاب "وعي الكتابة والحياة" - قراءات في أعمال غالب هلسا دار أزمنة/ عمان - 2004 أوراق الندوة التي كانت عقدتها "رابطة الكتاب الأردنيين"، في مناسبة اختيار "عمان عاصمة للثقافة العربية"، وشارك في هذه القراءات نقاد ودارسون من أقطار عدة في الوطن العربي، أبرزهم يمنى العيد من لبنان، وإدوار الخراط من مصر، وخيري الذهبي من سورية، وسعيد الغانمي من العراق، إضافة إلى عدد كبير من الكتاب الأردنيين. واللافت في هذه القراءات، أنها تؤكد على أن غالب هلسا واحد من أهم الروائيين العرب، الذين جعلوا من الكتابة الروائية سؤالاً مربكاً ومتجدداً، وبخاصة وهو يؤسس لكتابة روائية تلتبس فيها السيرة الذاتية مع الواقع المجازي في النص... وشكلت روايته "الروائيون" مادة أساسية للكثير من الدراسات، فتناولها بشمولية كل من إدوار الخراط، وخيري الذهبي، وموفق محادين، إضافة إلى الدراسات التي أتت على هذه الرواية في سياقات أعم، كما فعلت يمنى العيد ووليد أبو بكر وعمر شبانة وسعيد الغانمي. ويبدو لي أن هذه الرواية تشكل مادة خصبة للخوض في العلاقة بين السيرة الذاتية والرواية! تشترك مجمل القراءات في التركيز على المكونات الأساسية للبنية الروائية في أعمال هلسا، ومن أهمها على الإطلاق، أحلام اليقظة، والجسد، والتماهي العجيب بين الراوي والروائي وأبطاله. وقد برزت من بين القراءات، دراسة يمنى العيد تحت عنوان "مفهوم الجسد في أعمال غالب هلسا السردية" ودراسة أحمد خريس تحت عنوان "ما بعد الحداثي في رواية البكاء على الأطلال"، ودراسة إدوار الخراط تحت عنوان "الواقع المجازي في رواية الروائيون"، ودراسة موفق محادين تحت عنوان "الروائيون... موت الراوي"، ودراسة خيري الذهبي تحت عنوان "قراءة في "الروائيون" لغالب هلسا". وهذا لا يعني التقليل من قيمة الدراسات الأخرى في هذا الكتاب، بمقدار ما يعني تميز الدراسات بالكشف عن رؤية غالب هلسا للكتابة الروائية، والتركيز على مفاهيمه للحياة والفرد والمجتمع والعلاقات الإنسانية، إضافة إلى مفهوم الخصاء السيكولوجي والسوسيولوجي!! تؤكد يمنى العيد على أن مفهوم الجسد عند غالب هلسا يتعدى حدود الجنس ليصبح الجسد هو الإنسان كفرد يعي ذاته... يعي جسده في مواجهة موقف نظري يرى في الجسد خطيئة، ويعي نفسه كإنسان منفرد مستقل!! وهو مفهوم تستعيره العيد من الباحث موفق محادين في إحدى دراساته السابقة... وعلى قاعدة هذا الفهم للجسد - كما تقول العيد - تبدو المسافة، أو المسار الذي يسلكه الزمن الروائي في أعمال هلسا السردية، مساراً غائباً يتحدد بفعل تحرر لهذا الجسدة... وهو بصفته الروائية لا يتشكل في خطاب وعظي، بل في سرد يبني عالماً تتنوع شخصياته وتتفاوت في الوعي والبراءة والتشوه، وتتناقض على أساس هذا المفهوم للجسد وما يضمره المنظور الروائي من رؤية نقدية لعالم هذه الشخصيات وواقعها المرجعي... وتختتم الدكتورة يمنى العيد دراستها بالوصول إلى نتيجة مفادها أن الجسد عند هلسا هو الأصل، هو العلاقة المادية للحب، والحب هو أبعد من الجنس، إنه عبور إلى الحرية والحياة، وليس تحول الجسد إلى جنس سوى تشوه مرجعه السلطة القمعية في تجلياتها الذكورية! يشير أحمد خريس إلى أن ما يميز هلسا عن كثير من الروائيين ويقربه في الوقت ذاته من بعضهم، مشكلاً السمة الأساس لكينونته الروائية، أن رواياته لم تتوقف عن إبراز ذات مركزية حصينة، تحاول أن تتحلل من مركزيتها. وفي الوقت الذي يجهد الآخرون للتأكيد على أن شخصيات غالب هلسا ليست سوى شخصيته هو، نجد خريس يشير إلى أن هلسا لم يرسم شخصية واحدة في كل ما كتب من روايات، على رغم الخطوط العامة المشتركة. فهو اعتنى بإضافة فروق دقيقة إلى شخصياته الرئيسية في كل عمل روائي، فضلاً عن اختلافات أخرى تخص تفاوت المراحل المتحدث عنها تاريخياً وتعدد البيئات... ولا نظن أن هذه الفروق تشكل ضربة قاصمة لحضور شخصية واحدة رئيسة في أعمال هلسا الروائية، فهي فروق ضرورية، طالما اختلفت المراحل والبيئات... أي طالما اختلفت الثقافات السائدة المؤثرة، وطالما يعني التقدم في المراحل اختلافاً في الوعي... وعي الذات والعالم، إضافة إلى وعي الكتابة. وبينما يؤكد خريس على أن عودة هلسا إلى الماضي ليست نوستالجية ساذجة، بل هي عودة تنظر إلى الماضي بنوع من النقد والأسى، نجد آخرين يؤكدون عكس ذلك. فالباحث نزيه أبو نضال يقول: "ولأن شخصيات غالب هلسا كافكوية بامتياز مفزع، فإن ما يظهر من أمانيها الداخلية المقموعة، يتجلى على هيئة كوابيس مرعبة وهذيانات عصابية، فتندفع باحثة عن الأمان المطلق في العودة إلى الرحم الأول أو بحثاً عن الحضن المخلص في الفردوس المفقود". وهي النتيجة ذاتها التي خلص إليها عادل الأسطة حين يقول في خلاصة ورقته: "إن أكثر شخصياته يحن إلى ماض مفقود ويبكي عليه، كما يحدث لخالد في رواية "البكاء على الأطلال"...". وبعد أن يغوص أحمد خريس في رواية "البكاء على الأطلال"، يؤكد أن ما خرجت به الدراسة هو بالتحديد ما أراده لجهة اعتبارها تجسد مفهوم ما بعد الحداثي في الرواية في شكل عام... ولعلنا نشير هنا إلى بعض الغموض والارتباك في هذا المفهوم، بل والى شيء من التداخل مع مفهوم الرواية الحديثة نفسه، كالقول بالمنظور المتعدد، وتيار الوعي، والابتعاد عن التزمت أو الانكفاء على وعي الشخصية بصورة كلية. إضافة إلى أن رواية ما بعد الحداثة لا تسعى إلى إضافة تماسك ووحدة على الحدث، بمقدار ما تبث لدى قارئها مشاعر التنافر واللاإتساق، بتجاور جماليات ولغات متنافرة أو متضاربة، كما أن العودة فيها إلى الماضي ليست سوى معاودة نقدية! حداثة روائية وبمقدار ما يعنى خريس بالتوكيد على سمة ما بعد الحداثي في رواية غالب هلسا، يؤكد الروائي إدوار الخراط على حداثية غالب، وبالتحديد في آخر أعماله الروائية، وهي "الروائيون"!! وفي غوصه إلى أعماق "الروائيون"، يركز الخراط على الإروسية، ويبين أن هنالك مستويات لها، فهي ميتافيزيقية عند إيهاب، وفجة وغليظة عند تركي. ويشير إلى مفهوم المرأة الأنيما في الرواية، ولكنها أيضاً "الواحدة المتنوعة"، المتعددة العلاقات والتي تتمثل في زينب، وعلاقاتها مع إيهاب وتركي وحمادة... ولكن أهم ما يميز ورقة الخراط، هو ما خلص إليه، من أن الكتابة عند غالب هلسا هي الحياة الحقيقية، بينما الحياة مجرد بروفة. ففي الكتابة يعيش الروائي نشوة امتلاء الوجود، ذلك الإحساس الذي يجيء عندما يكتشف الإنسان أن كل تفاصيل الحياة المجانية والمهملة تحولت ثمرة حقيقية، عندما تصبح هذه التفاصيل أجزاء من كلية ذات معنى، أي أن العقيدة هنا أن الحياة خارج الكتابة - خارج الفن - ليس لها معنى، وأن الفن هو المعنى. لكن الخراط يرى من خلال الرواية أن الخلاص من طريق الكتابة غدا طريقاً مسدودة، فهل ثمة غرابة في أن الخلاص - إن كان ذلك اسمه حقاً - هو الموت؟ ولعل اللافت في هذه النتيجة، هو أنها تتفق تماماً مع ما توصل إليه الباحث موفق محادين في ورقته. فهو عنون الورقة: "الروائيون لغالب هلسا... موت الراوي". يقول محادين بالحرف الواحد: "شيئاً فشيئاً تأخذ الرواية في تحديد شروط الحياة، ولا تكتفي بذلك، بل تصبح هي الحياة نفسها". وهو بذلك يتفق مع الخراط في كون الكتابة عند هلسا واقعاً مجازياً بديلاً للواقع الموضوعي... والسبب في ذلك كما تشير معظم الدراسات عن غالب هلسا، هو هذا التشوه الهائل الذي أصاب الحياة والإنسان في ظل السلطة الأبوية القمعية في الوطن العربي، المسؤولة عن كل هذه الهزائم والانكسارات، إلى الحد الذي يصبح فيه الجسد معادلاً للخطيئة! أما سعيد الغانمي فيقترب من هذا المفهوم بوسيلة أخرى، فهو يتكئ على ما سماها الشخصية الظلية في عالم غالب هلسا! أي خلق شخصية بديلة تمتاز بالفحولة في محاولة الخلاص من الخصاء الرمزي، وهو بذلك يقترب من الخراط في تشخيصه للكتابة عند هلسا باعتبارها واقعاً مجازياً! وأخيراً، فإننا لا نستطيع الإحاطة بالدراسات كلها في هذا الكتاب القيم، ولكننا نود الإشارة إلى بعض الملاحظات. أولاً: ثمة غياب واضح لغالب هلسا قاصاً في هذه الأوراق، على رغم وجود ورقتين لكل من فخري صالح، ويوسف ضمرة! فخري صالح تعامل مع قصص غالب باعتبارها مشاريع روائية. بينما قدم ضمرة مقارنة بين إحدى قصص غالب هلسا ورواية "وقائع موت معلن" لماركيز! ثانياً: تتجاهل هذه الأوراق كلها واحدة من أهم الروايات لغالب هلسا، وهي رواية "الضحك" التي شكلت انطلاقة غالب الروائية في الوطن العربي، وهو أمر لا نجد له تفسيراً مباشراً أو صريحاً، ونكتفي بالقول إن هذه الرواية - ربما - كانت من أكثر الروايات صعوبة في حال القراءة النقدية! ثالثاً: اتكأ كثير من القراءات على الإفادة من المعرفة الكاملة أو شبه الكاملة لتفاصيل الحياة الشخصية لغالب هلسا، وهو أمر ربما ينطوي على كثير من المخاطرة، حيث الكتابة الروائية ليست بوحاً ذاتياً، وإن صرح غالب في غير مناسبة أنه هو البطل الرئيس في رواياته كلها. فهذا التصريح لا يعني أن هلسا كان يدون مذكراته الشخصية حرفياً! رابعاً: ضم الكتاب عدداً من الشهادات الشخصية، لبعض أصدقاء غالب وأقاربه، ولم نر ضرورة للتوقف عندها، نظراً الى ابتعادها عن العالم الروائي لغالب هلسا.