في وقت تواصلت فيه تداعيات وارتدادات الزلزال الاسرئيلي على خلفية هزيمة وفشل عدوان تموز يوليو في تحقيق الأهداف الأميركية الإسرائيلية، عادت القضية الفلسطينية الى صدارة الاهتمامات، حيث اصبح هاجس تساقط صواريخ المقاومة على المستوطنات الاسرائيلية القريبة من قطاع غزة في الأراضي المحتلة عام 48 يقض مضاجع قادة اسرائيل لما تسببه من عدم استقرار وهجرة عن هذه المستوطنات، وبالتالي مشكلة اسرائيلية تتفاقم يوما بعد يوم، فيما شكل تفجر الاقتتال بين حركتي"حماس"و"فتح"في هذا التوقيت مؤشرا الى التحدي الذي يواجه حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية، وبالتالي اتفاق مكة، وطرح بقوة الدور الاسرائيلي في تغذية هذا الاقتتال بصورة مباشرة وغير مباشرة، وعلاقته بارتباط البعض فلسطينيا بالمشروع الأميركي الاسرائيلي، والصراع على سلطة في كنف الاحتلال، وتزامن كل ذلك مع ذكرى نكبة فلسطين التاسعة والخمسين، ما زاد من حجم المعاناة والألم الفلسطينيين. مهما يكن مصير حكومة ايهود اولمرت، بعد صدو تقرير لجنة فينوغراد، الاستقالة أم البقاء فترة أخرى من الزمن، أم اجراء انتخابات مبكرة، فان إسرائيل اصيبت بزلزال، ادخلها في أزمة مستمرة، لم يسبق لها مثيل منذ نشأتها، زلزال لا يهز فقط الحكومة ويجعل استمرارها لفترة طويلة غير ممكن، بل وايضا يدفع إسرائيل إلى مرحلة من اللا استقرار السياسي والتخبط في أزمة كبيرة ليس معروفا بعد كيف سوف تتجاوزها وبأية طريقة. ان الأزمة العاصفة بإسرائيل ليست نابعة فقط من مسألة استمرار أو عدم استمرار الحكومة، فحتى ولو استقالة الحكومة فأن الأزمة ستستمر لأنها أزمة عميقة ومتشعبة، فهي أزمة فقدان إسرائيل قوتها الردعية، وعدم القدرة على مواصلة التقدم وتحقيق الانتصارات، ودخولها مرحلة التراجع والهزائم التي تؤسس إلى مزيد من الانقسام والتفكك والخلخة في بنية الكيان الإسرائيلي وتضعف الاسس التي شكلت قاعدة نشأته وتقدمه وازدهاره. وما يفاقم ويسعر من الأزمة انكشاف إسرائيل بانها مجرد أداة بيد الإدارة الأميركية التي تتحكم بقراراتها، وحتى في سقوط أو عدم سقوط الحكومات فيها، وبالتالي فان أزمة إدارة بوش ادخلت إسرائيل في أزمة أشدة وطأة عندما دفعتها لشن الحرب ضد لبنان في تموز 2006 من اجل انقاذ أميركا من مأزقها المتفاقم في العراق فكانت النتيجة تعميق المأزق الأميركي وهزيمة إسرائيل وانكشاف عجزها وشيخوختها، فهي باتت ليس فقط دولة هرمة لم تعد تقوى على الانتصار في الحرب، رغم ما تملكه من ترسانة اسلحة متطورة ومدمرة، بل ايضا غير قادرة على توليد زعامات جديدة قادرة على قيادتها واخراجها من أزمتها المتستفحلة، حيث لا توجد بدائل لم تجرب إسرائيلياً افضل من أولمرت، وكل ما يطرح من بدائل جرى تجريبه وفشل مثل بنيامين نتانياهو زعيم تكتل ليكود اليميني، وايهود باراك. ولكن ما هي العوامل التي حالت دون سقوط حكومة أولمرت بعد صدور التقرير؟ وما هي الآفاق، تفاهمات مع حزب العمل تبقى على الحكومة بضعة اشهر حتى اجراء انتخابات بشروط افضل للطرفين؟ أم خروج حزب العمل وسقوط الحكومة؟. أولاً: العوامل التي حالت دون سقوط حكومة اولمرت حتى الآن: عامل أول: موقف ادارة بوش في دعم أولمرت ومكافأته على تنفيذ الأمر بشن عدوان تموز والشعور بتحمل التبعات عن ذلك، ثم ان سقوط حكومة أولمرت على خلفية فشل حرب تموز سوف يؤدي إلى تداعيات ليست في صالح إدارة بوش التي تتحمل ايضا المسؤولية عن هذه الحرب وفشلها بالشراكة مع أولمرت، وهذا الأمر اسهم في لجم مواقف البعض ممن طالب بداية باستقالة الحكومة، لما لواشنطن من تأثير ونفوذ في داخل إسرائيل. عامل ثان: موقف حزب العمل الذي لم يحسم خياراته في أي اتجاه سيسير، وادى هذا الموقف إلى عدم مشاركة التيارات والأحزاب القريبة من حزب العمل في تظاهرة تل ابيب الداعية لاستقالة حكومة اولمرت، مثل حركة السلام الآن، بل ان عددا من الحركات نددت بالدعوات لاقالة الحكومة قبل اختيار بديل، وفي هذا الاطار يمكن ادراج المعلومات التي تتحدث عن وجود ما يشبه الاتفاق بين اولمرت ورئيس الحكومة الأسبق ايهود باراك بان يبقى الأمر على ما هو عليه حتى تنتهي انتخابات حزب العمل، ويتم بعدها الاعلان عن موعد لانتخابات مبكرة. وهذا يعني بالحساب العملي ان تعمر حكومة اولمرت عدة اشهر. عامل ثالث: عدم وجود مصلحة لمعظم نواب الكنيست باجراء انتخابات الآن، خاصة نواب حزب كاديما الذي يرأسه أولمرت، لأن حجب الثقة عن أولمرت في الكنيست يعني انفراط عقد كاديما لصالح نتانياهو، ما يجعل أولمرت يصر على عدم الاستقالة ولا يوجد أحد يريد اقالته. ثانياً: الظاهر ان المصالح الانتخابية هي التي باتت تتحكم ببقاء الحكومة الإسرائيلية الأمر الذي يخدم اولمرت ويجعله قادراً على الاستمرار وعدم الاستقالة. لكن هذا الأمر إلى حين، أي لا يمكن ان يستمر طويلا، وهو بات مرتبطا باستحقاق انتخابات حزب العمل ورئيسه الجديد الذي سيحل مكان عمير بيرتس. غير أنه في مطلق الأحوال فان الأزمة الإسرائيلية كشفت عن اهتزاز القواعد التي بنيت عليها دولة إسرائيل، وسقوط ما يسمى الديمقراطية الإسرائيلية، حيث اعتبر عدم استقالة الحكومة بعد تقرير فينوغراد علامة على انحطاط النظام السياسي والقيمي وانضمام إسرائيل إلى قائمة الدول المصنفة عالم ثالث، لكنه يكشف إلى جانب ذلك غياب القيادة البديلة وحالة التذمر والانقسام التي تطبع الواقع السياسي الإسرائيلي. وكل ذلك ما كان ليحصل لولا هزيمة إسرائيل في حرب تموز التي اكدت دخولها عصر التراجع والانكفاء، والذي يصاحبه انحلال وتفكك وضياع كأي مشروع استعماري عندما يفقد قدرته على التقدم والتوسع وتحقيق الانتصارات فانه يبدأ مرحلة التراجع. ذلك أن المشروع الاستعماري الصهيوني لا يمكنه ان يستمر ويعيش ويحافظ على قوته إلا إذا ظل في موقع القوة التي تحقق الانتصارات التي تولد بدورها عوامل ازدهار وتقدم المشروع. من هنا فان الزلزال الذي يصيب إسرائيل ليس أزمة عابرة يمكن تطويقها لمجرد استقالة حكومة أولمرت أو بقائها أو حتى اجراء انتخابات نيابية مبكرة، بل هي أزمة المشروع المأزوم الذي فقد عناصر قوته الردعية التي تظهر المعطيات أنه غير قادر على استعادتها بسبب التطورات الحاصلة في البيئة السياسية والعسكرية المحيطة بإسرائيل. وفي محاولة للهروب من هذا المأزق عمد أولمرت وبالتعاون مع الادارة الأميركية الى الدفع باتجاه التركيز على الساحة الفلسطينية عبر طرح الخطة الأميركية من أجل تحقيق ثلاثة أهداف: الأول، محاولة محاصرة المقاومة وتكبيلها واعادة تعويم الاتجاه المؤيد للتفاوض على قاعدة شروط اللجنة الرباعية. والثاني، تفجير حكومة الوحدة الوطنية الفلسطينية التي شرعت المقاومة وجاء تشكيلها من خارج الاستجابة للشروط الاسرائيلية الأميركية. والثالث، تقزيم القضية الفلسطينية بتصويرها عبارة عن مشكلة أمنية وبالتالي فانه بمجرد ازالة الحواجز الاسرائيلية، وتخفيف القيود على الفلسطينيين، مقابل وقف المقاومة، يتحقق الاستقرار والأمن. في هذا السياق جاء اندلاع الاشتباكات في قطاع غزة بين حركتي"حماس"و"فتح"، بالتزامن مع طرح الخطة الأميركية التي سارعت الى رفضها حركات المقاومة، ووافق عليها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. واذا كان من المسلم به بأنه ليس هناك من صراع أو اقتتال داخلي بمعزل عن الخلاف السياسي، انما الصراع ترجمة له، فلا يجب فصل ما جرى ويجري عن الخطة الأميركية الاسرائيلية لتفجير الساحة الفلسطينية من أجل ضرب تجربة حكومة الوحدة، وتحويل الانظار عن الأزمة الاسرائيلية، ومحاولة النيل من المقاومة ووقف اطلاق صواريخها لحماية الأمن الاسرائيلي وتمكن اسرائيل من الاستمرار في عدم الاقرار بحقوق الشعب الفلسطيني. على ان الأهم السعي الى تدمير فكرة وامكانية نجاح الشعب الفلسطيني بالمزاوجة بين سلطة ومقاومة وبالتالي القدرة على اخراج السلطة من قيود الاحتلال وشروطه، وامتلاك دفة الأمور. ولأن العدوان والاحتلال والحصار فشل في فرض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، يتم حبك الخطط لإدخاله في أتون حرب أهلية يشكل الغرق فيها السبيل الوحيد للقضاء على المقاومة وتحقيق الأمن لإسرائيل وخلق حالة من الاحباط واليأس فلسطينيا من امكانية ان يكون هناك أمل أو أفق في نهاية النفق عدا عن افقاده الايمان بمقاومته في أن تشكل نموذجا في إدارة شؤونه وصولا الى جعله يستسلم لشروط المحتل. غير ان مثل هذه الاشتباكات لا يمكن أن تعزى فقط الى وجود دور أميركي اسرائيلي فمثل هذا الدور لا يمكنه النفاذ لتحقيق أهدافه بدون وجود عوامل داخلية تساعده على ذلك أو تشكل أرضية خصبة له. وتكمن هذه العوامل في استمرار الصراع على السلطة رغم تشكيل حكومة الوحدة والاتفاق الذي تم في مكة لتوزيع الحقائب فيها، ومواصلة فريق في قلب حركة"فتح"في المراهنة على التسوية وخط التفاوض مع اسرائيل بعيدا عن المقاومة، ذلك ان الاتفاق لم يحصل نتيجة قناعة من هذا الفريق انما بفعل الضغط الداخلي وموازين القوى الداخلية التي أجبرت كل من"فتح"وكذلك"حماس"على التوصل اليه، وان كانت المحصلة في صالح"حماس"، لهذا فان التيار اليميني داخل"فتح"الذي يريد اعادة النظر بالاتفاق مع"حماس"له دور اساسي في افتعال الاشتباكات، ويقف على رأس هذا التيار محمد دحلان المعروف بعلاقاته الجيدة مع واشنطن وبعض المسؤولين الاسرائيليين. لكن كل ذلك يجب أن لا يلغي مسؤولية حركة"حماس"عما وصلت اليه الأمور، والمسؤولية هنا تكمن في ان"حماس"انجرت الى لعبة السلطة التي أوجدها اصلا الاحتلال لتكون ملهاة للفلسطينيين يتصاعون عليها بدلا من مواجهة الاحتلال، واستطالة أمنية له. ولهذا لا يمكنه ان يقبل بسيطرة المقاومة على هذه السلطة، فيما التيار المستفيد من هذه السلطة، والذي بنى وجوده وحقق امتيازاته من خلالها، لا يريد التسليم بخسارته لها. ولذلك فان مصلحته تلتقي مع الأميركي والاسرائيلي من اسقاط حكومة الوحدة واخراج"حماس"من السلطة واعادة الأمور الى سابق عهدها. ومن هنا فان حركة"حماس"، ومعها حركات المقاومة الأخرى، رأت ان السبيل للخروج من أتون هذا الاقتتال، المدمر للقضية والشعب، يكون من خلال العودة الى تصعيد المواجهة والمقاومة ضد الاحتلال، الذي دخل على خط الصراع الداخلي بشكل علني، عبر قصف مواقع لحركة"حماس"من أجل تغليب طرف على طرف. وتبين ان هذا الخيار قد نجح في وقف الاقتتال وتغيير وجهته باتجاه العدو الحقيقي، ما يؤشر الى ان تراجع المقاومة في الفترة الماضية، وعدم العمل على ايلاء اهمية لاعادة بناء حركة تحرر وطنية فلسطينية على قواعد ورؤية برنامجية، تجمع عليها كل القوى وتشكل ميزان قوى يمنع تفجير صراعات داخلية، كان عاملا ساعد على الانجرار الى فخ الصراع على السلطة، وهذا ما يجب الانتباه اليه بعد هدوء الأوضاع. وظهر مدى انزعاج حكومة أولمرت من حصول هذا التوجه لدى المقاومة وبالتالي خلق مشكلة أمنية في داخل الأراضي المحتلة عام 48 ما يحشر أولمرت اكثر ويزيد من أزمته المتفاقمة، لذلك عمد الى وضع خطة العدوان على غزة موضع التطبيق، مع الحذر من التورط في الدخول في حرب استنزاف أو تكرار أخطاء الجيش الاسرائيلي في جنوبلبنان، عبر المزاوجة بين القصف الجوي والبري والقيام بعمليات محدودة في تخوم غزة، واعلان حالة الطوارىء في المستوطنات المحاذية للقطاع وخصوصا في سيديروت وعسقلان، التي تشهد حالى نزوح الى العمق الاسرائيلي لتجنب صواريخ المقاومة. لكن يبدو من الواضح وفي ضوء التجربة الماضية ان اسرائيل تواجه مأزقا في مواجهة المقاومة التي تكيفت مع الحصار وتمكنت من ايجاد وسائل ذاتية تساعدها على تطوير قدراتها العسكرية في مواجهة الآلة العسكرية الاسرائيلية، ولذلك فان قدرة الجيش الاسرائيلي على وقف المقاومة مستحيلة، ما يعني انه لن يكون قادرا ايضا على تجنب عملياتها وان يكون هو والمستوطنين عرضة لعمليات وصواريخ المقاومة، الأمر الذي سيعيد انتاج ذات المأزق الاسرائيلي قبيل الانسحاب من جانب واحد من قطاع غزة بعد ان اختبرت كل انواع الاجتياحات وفشلت. * كاتب فلسطيني.