عندما نتحدث عن الأزمة العاصفة باسرائيل يجب النظر اليها بعمق، فهي ليست أزمة عابرة أو طارئة، بل أزمة تشير الى أي مدى بات المشروع الاسرائيلي يعيش في مأزق استراتيجي وتكتيكي في آن معاً، من جهة دخل في مرحلة الانكفاء الى الداخل، يشهد على ذلك بناء جدران الفصل العنصري والانسحاب من قطاع غزة وتفكيك المستوطنات فيها، وكذلك اندحاره عن الجنوب اللبناني، ومن جهة ثانية غير قادر على تحقيق انتصارات في الحرب، وهذا ما يجعل المشروع الصهيوني يفتقد الى قوة الدفع الاساسية التي كانت تجعله دائماً في مرحلة تقدم وتوسع وازدهار وصعود دائم، ويظهر ذلك ايضاً في فقدان الثقة والإيمان لدى مجتمع المستوطنين بقدرة الجيش الاسرائيلي على تحقيق النصر وتوفير الأمن والاستقرار لهم. وذلك يعني ان المرحلة التي كانت فيها اسرائيل محصنة وآمنة وتشكل مصدر إغراء لهجرة اليهود اليها، قد انتهت، وهذا ما عكسته المناقشات التي شهدها مؤتمر هرتسيليا السابع، حيث ساد شعور بوجود حالة انهيار استراتيجي، تضاف اليها صورة سوداوية قاتمة للأوضاع في اسرائيل، ف"ميزان المناعة والأمن القومي"الذي كان عنوان المؤتمر، أظهر ان اسرائيل تعيش أزمة قيادة وحكم وعجز عن اتخاذ القرارات وتنفيذها، وانقسام وتخبط إزاء سبل الخروج من الأزمة. ولكن ما هو السبب الأساسي للأزمة وكيف تتبدى؟ من المعروف ان الجيش الاسرائيلي هو الأساس الذي ارتكز عليه في بناء دولة اسرائيل، التي ما كان لها ان تنشأ من دون العناصر الأولى التي تكون منها هذا الجيش، وهي العصابات الصهيونية: الهاغانا وشتيرن وغيرهما، والتي دخلت فلسطين، في بدايات القرن العشرين، في إطار خطة استعمارية من أجل الاستيلاء عليها وبناء دولة اسرائيل عليها. لقد أخذ هذا الجيش، الذي تأسست نواته الأولى من هذه العصابات الصهيونية، يتحول شيئاً فشيئاً الى قوة اسطورية، خصوصاً بعد حربي عامي 1948 و1967 حيث هزمت الجيوش العربية في مواجهته، وزاد من تضخيم هذه الاسطورة ان هذا الجيش يمتلك أحدث ترسانة عسكرية في المنطقة، بفعل الدعم الاميركي غير المحدود لاسرائيل، وبالتالي تحولت اسرائيل بفعل قدرات جيشها الى قوة يخافها العرب وتشكل مصدر التهديد الدائم لهم. ان سيادة هذا الانطباع ولدت شعوراً عاماً بأنه يستحيل إلحاق الهزيمة بالجيش الاسرائيلي، وبالتالي على العرب ان يستسلموا للأمر الواقع، ويتخلوا عن جزء من حقوقهم في إطار تسوية للصراع. ولكن بالقدر الذي تولد هذا المناخ، في الواقع العربي، كان الجيش الاسرائيلي قد تحول لدى الاسرائيليين الى مصدر فخر لهم يشعرون انه يوفر لهم الأمان والاستقرار وانه ضمانة وجود اسرائيل ومستقبلها من جهة، وانه قوة لا يمكن ان تهزم من جهة ثانية، وزاد من هذا الشعور ان عمق اسرائيل خلال الحروب العربية - الاسرائيلية ظل بمنأى عن الحرب، على عكس الدول العربية التي كانت مدنها وعواصمها مسرحاً لقصف الطائرات الاسرائيلية وحتى الانزالات من قبل الكوماندوس الاسرائيلي. إلا ان هذا الجيش، الذي حصل على كل هذه الهالة الاسطورية، بدأت قوته الردعية تضعف تدريجاً، وتتآكل معها قوته الهجومية، وبالتالي قدراته على تحقيق النصر، وبرز ذلك في لبنان اثر اجتياح عام 1982 وانكفائه عام 1985 الى المنطقة الحدودية وصولاً الى هزيمته في عام الفين، وكذلك في قطاع غزة، الذي اضطر الى الانسحاب منه وتفكيك المستوطنات لأول مرة من ارض فلسطينية محتلة، وأخيراً تعرضه لهزيمة قاسية في حرب تموز 2006 التي شنها ضد المقاومة في لبنان. لم يجر أي تحد لاسرائيل في حرب شاملة منذ عام 1973، ولذلك فإن المفهوم المستند الى التفوق العسكري الاسرائيلي، هو الذي أوجد الظروف لاتفاقات السلام مع مصر والاردن واتفاق اوسلو، ومكن اسرائيل من اقامة اقتصاد سلام ومجتمع رفاه ووفرة، رغم غياب السلام، وتحولت اسرائيل، بفعل هذا التفوق العسكري، الى قوة تستند اليها الولاياتالمتحدة والغرب في تحقيق الهدف المراد من وجودها ألا وهو حماية المصالح الغربية الاميركية في اكثر المناطق حيوية من العالم، حيث النفط والغاز والثروات، والعمل على منع توحد العرب، غير ان هزيمة الجيش الاسرائيلي في حرب تموز أدت الى إصابة هذه الوظيفة لاسرائيل، كحارسة للمصالح الاميركية، أو عصا غليظة بعطب حقيقي فأظهرتها عاجزة عن تحقيق الهدف أو القيام بالدور الذي أوكل اليها. إلا أن فشل الجيش الاسرائيلي في المهمة الموكلة اليه اميركياً طرح الاسئلة حول ما إذا كانت اسرائيل قد أصبحت عالة على اميركا والغرب، فهي باتت تحتاج الى الحماية، بعد أن كانت تقوم بدور حماية المصالح الغربية الاميركية، وبالتالي بات على واشنطن الدفع بجيوشها الى المنطقة، واحتلال العراق، لتتولى هي بنفسها حماية مصالحها، وكذلك خلق ميزان قوى جديد يوفر لاسرائيل القدرة على إنهاء المقاومة الفلسطينيةواللبنانية، والخروج من مأزقها الاستراتيجي والتكتيكي. وبرز ذلك بوضوح في المحطات التالية: 1- ضغط استثنائي اسرائيلي عبر اللوبي الصهيوني في واشنطن من أجل قيام ادارة بوش باحتلال العراق، وقد لعب ذلك دوراً مرجحاً في إقدام الرئيس الاميركي جورج بوش على اتخاذ قرار الحرب، الذي عارضه العالم. 2- استعطاف رئيس الوزراء الاسرائيلي، ايهود اولمرت، خلال حرب تموز يوليو، حسب جريدة"معاريف"الاسرائيلية، وزيرة الخارجية الأميركية رايس بأن تبذل الادارة الأميركية كل ما بوسعها من أجل فرض الصيغة الفرنسية - الاميركية لقرار وقف النار في مجلس الأمن، وقالت:"إن اولمرت لفت نظر رايس الى أن الأمر يتعلق، ليس فقط بمحاولة انقاذ الدولة العبرية من هزيمة محققة، بل وايضاً انقاذ مستقبله السياسي والشخصي". 3- تصريح المستشارة الألمانية ميركل حول دور القوات الالمانية المشاركة في قوة اليونيفيل لمراقبة تنفيذ القرار 1701 حيث قالت:"مهمتنا هي لحماية اسرائيل". 4- تساؤل المعارضة البريطانية، الى متى نتحمل أعباء حماية اسرائيل؟ وإذا كان لم يتولد بعد مناخ قوي في اميركا والغرب يقول بأن اسرائيل أصبحت عبئاً علينا، ويجب العمل على التخلص من هذا العبء، فإن ما حصل أكد للادارات الغربية والاميركية بأن اسرائيل لم تعد قادرة على لعب الدور الذي وجدت من أجله، وهي باتت، حتى تستمر، بحاجة الى الحماية. كان من الطبيعي ان يؤدي عجز وفشل الجيش الاسرائيلي في تحقيق النصر في الحرب، وتهشم صورته وتحطم اسطورته في ميدان القتال، في بنت جبيل، ومارون الراس، وغيرهما من بلدات الجنوب اللبناني، الى حصول زلزال داخل اسرائيل على كل المستويات: المستوى الأول: انقلاب في بنية التفكير الاسرائيلي العام، من شعور بتفوق وقدرة اسرائيل على تحقيق اهدافها، متى أرادت وشاءت، بواسطة قوتها العسكرية، الى سيادة قناعة وشعور عام بالعجز وعدم الثقة، بعد الآن في هذه القدرة، خصوصاً أن هزيمة حرب تموز جاءت بعد توالي الهزائم الاسرائيلية في لبنان وقطاع غزة، والتي سبقها اهتزاز في قدرات الجيش الاسرائيلي في حرب 1973 فالمجتمع الاسرائيلي تعود العيش على الانتصارات، واسطورة الجيش الذي لا يقهر ولا يهزم، ولذلك فإن من الطبيعي ان تترك الهزيمة الأخيرة آثاراً عميقة على بنية التفكير هذه، وتؤدي الى اسقاط المسلمات والمفاهيم التي بني عليها وشكلت أساس تماسكه ووحدته، وفي هذا الاطار كشفت صحيفة"يديعوت احرونوت"الاسرائيلية 11-1-2007 عن مدى اهتزاز هذه الثقة وعدم الايمان بالمسلمات فقالت:"ان الجمهور في اسرائيل لم يعد يؤمن من جهته بأن الجيش الاسرائيلي أقوى جيش في العالم، وأن الاسرائيليين اليوم أقل تفاؤلاً وأكثر خوفاً، ولم يعودوا يؤمنون بالقوة العسكرية كثيراً". المستوى الثاني: سقوط نظرية الأمن والاستقرار، التي كانت تشكل الأساس الذي يوفر للحركة الصهيونية القدرة الاقناعية لجعل اليهود يهاجرون الى فلسطين والبقاء فيها، فاسرائيل انكشفت في هذه الحرب، وكذلك في ظل الانتفاضة والمقاومة الفلسطينية المستمرة، انها لم تعد مكاناً آمناً. ومثل هذا التطور يعني ان الواقع قد تغير رأساً على عقب بالنسبة للاسرائيليين الذين أخذوا يبنون لمستقبلهم بطريقة مختلفة ومغايرة، في ظل عدم وجود تسوية في المنطقة تضمن إنهاء الصراع، ولهذا حصلت هجرة معاكسة بعشرات الآلاف من قبل الكثيرين، وعلى قاعدة عدم العودة، وقد أفاد آخر استطلاع للرأي بأن 43 في المئة من الاسرائيليين باتوا يشعرون بأن أمنهم الشخصي بات أضعف مقابل 7 في المئة يشعرون بالعكس، بينما أظهر ان من بين كل أربعة اسرائيليين هناك اسرائيلي لا يثق بقدرة اسرائيل على البقاء. المستوى الثالث: كما المجتمع، ايضاً الجيش نفسه، من أعلى القمة الى القاعدة، لم يعد يملك المعنويات، ولا الإيمان، بأنه قادر على تحقيق أهدافه، مهما امتلك من القوة، وبالتالي فإن العامل الذي كان يجعله متماسكاً، ويحقق انجازات متواصلة توفر الأساس لهذا التماسك، قد سقط. ولذلك فإن تكرار الهزائم والاخفاقات انعكس بظهور وتفجر التناقضات والاختلافات داخل القيادة العسكرية خلال الحرب وبعدها، وتمظهرت بتبادل الاتهامات بالمسؤولية عن الفشل الأمر الذي أدى الى الاطاحة برأس القيادة العسكرية رئيس الأركان دان حالوتس. المستوى الرابع: ازدياد الانقسام السياسي وحالة التذرر، حيث الأحزاب السياسية التاريخية تنقسم، ومحاولات تعويمها تبوء بالفشل، يصاحبه ازدياد الشعور العام بحال الفراغ على مستوى القيادة، فاسرائيل باتت تفتقد الى قيادات قادرة على اخراجها من مأزقها، الذي تغرق فيه ويهدد المشروع الصهيوني ومستقبل الدولة العبرية التي أسسها بن غوريون، وبرز ذلك في نقاشات مؤتمر هرتسيليا الأخير عندما صب جميع المؤتمرين جام غضبهم على الحكومة ورئيسها ووزرائها، كما قالت"يديعوت احرونوت"22 -1 - 2007 ويحصل ذلك في وقت يزداد فيه عدم الرضا عن سلوك الزعامات الاسرائيلية الأمر الذي يؤدي الى خلق حالة سوداوية وظلامية في نهاية النفق عبّر عنها آخر المتبقين من الجيل القديم من القادة الصهاينة شيمون بيريز:"ان اسرائيل تمر بمرحلة خطيرة من التدمير الذاتي، وأن التدمير الذاتي وصل لكل المجالات. بل ان هناك منافسة شديدة حول من يقدم الصورة الأكثر سواداً"، مؤكدا:"ان هذه المرحلة هي أشد المراحل خطورة""يديعوت احرونوت"13 -1 - 2007. المستوى الخامس: انعكست حرب لبنان الاخيرة وكذلك الانفاق العسكري الكبير على الجيش الاسرائيلي بتدهور الوضع الاجتماعي للاسرائيليين، حيث افادت نتائج بحث خاص أجري حول آثار الحرب على الفقر، بأن حرب لبنان ستدفع الى ما دون خط الفقر حوالي 42 ألفاً آخرين كل سنة من السنوات الثلاث المقبلة". وأظهر البحث، الذي عرض في مؤتمر هرتسيليا الأخير إثر انتهاء حرب تموز، ان"عدد الفقراء سيبلغ نحو مليون و650 ألف نسمة. ان ما تقدم يشير بوضوح الى ان عصر ازدهار وتقدم المشروع الاسرائيلي المستند الى تحقيق الانتصارات المتواصل، والتفوق والشعور بالرفاه والأمن، قد انتهى، وبالتالي فإن التماسك الاجتماعي والتماسك السياسي ووحدة المجتمع تضعضعت وقوة الجيش التي تشكل الاساس في كل ذلك قد أصيبت بعطب خطير، فالجيش تكشف انه لم يعد قادراً على تحقيق النصر، وبالتالي فإن التحقيق الاسرائيلي في اسباب الهزيمة في حرب تموز، وما أظهرت الصحافة الاسرائيلية في شأنه، يعكس مدى عمق الأزمة التي لا تكمن في آلية اتخاذ القرارات أثناء الحرب وبالتالي معرفة اسباب التقصير، بل هي كامنة أصلاً في ان عناصر القوة الاسرائيلية أصيبت بأعطاب قاتلة، وأهم عطب فيها هو ان الجيش القوي الذي كان يحقق الانتصارات بات مهزوماً. * كاتب فلسطيني