لم تكن العلاقة بين العرب والفرس علاقة مودة منذ زمن بعيد، فقبل ظهور الإسلام كان الفرس حضارة قوية تقع تحت سطوتها مساحة كبيرة من العالم، وبعد فتح المدائن وتأسيس العرب إمبراطوريتهم في زمن الأمويين كان للعرب الكلمة العليا، لكن مع انقضاء القرن الأول للإسلام بدأ الصراع ينشأ من جديد حتى تأسست دويلات فارسية مع القرن الثالث الهجري، وعلى رغم ما لهذا الصراع الحضاري من آثار غير أنه لم يكن شراً كله، فمن خلاله ظهرت فلسفات شتى وفنون عدة، كان من بينها فن الرواية الذي يقول الغرب ان أول منتج له هو ميجيل أنخل دي سيرفانتس صاحب" دون كيشوت" لكن الراحل االدكتور محمد رجب النجار آثر أن يترك لنا مفاجأة قبل رحيله في كتابه الصادر أخيراً عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في القاهرة تحت عنوان" الأدب الملحمي في التراث الشعبي"، وتكمن المفاجأة في أن أول عمل روائي ألفه أبو الحسن علي ابن الأثير صاحب كتاب"الكامل في التاريخ"، وذلك في بداية القرن السابع الهجري? حلل المؤلف في كتابه هذا عدداً من السير الشعبية العربية موضحاً كيف عملت المخيلة الشعبية الجمعية على إنتاج العمل السيري مجهول المؤلف أو متعدد المبدعين، لكنه توقف عند سيرة" حمزة البهلوان أو حمزة العرب ليقول إنها أول عمل ملحمي أدبي معروف المؤلف، وان صاحبه ابن الأثير اختار له مصطلح قصة وليس سيرة، ربما لأن السيرة كانت ذات سمعة غير طيبة لدى طبقات المتعلمين والخاصة، وربما لأنها كانت عملاً كتابياً وليس شفاهياً يرويه الحكاؤون أو الشعراء الشعبيون في الخانات، ومن ثم فإن إدور لين صاحب كتاب" المصريون المحدثون" ذكر كل السير التي كان الحكاؤون يروونها على المقاهي ما عدا سيرة" حمزة العرب" حسبما أسماها ابن الأثير أو حمزة البهلوان حسبما أطلق عليها الفرس، ويعلل ذلك النجار بأنها عمل أدبي وليس سيرة شعبية بناء على خصائص عدة تمتعت بها مقارنة بغيرها من السير، منها وحدة الموضوع، وتناغم المستوى الأسلوبي، وعدم اعتماد السجع والقوافي والاستهلالات، توظيف الأسلوب في شكل جيد في خدمة السرد، والرؤية الذاتية، وسيادة أفكار وصراعات عصر بعينه وهو العصر الذي عاشه ابن الأثير، فضلاً عن عنونة الكتاب بمصطلح قصة الذي لا يقطع المؤلف بيقين في إن كان ابن الأثير كاتبه أم الناشر بعد أن ساد هذا المصطح في القرن التاسع عشر? ولعل هذه المبررات القوية التي قدمها النجار كواحد من كبار المتخصصين في الأدب الشعبي هي التي حدت به لنقل العمل من مجال السيرة الشعبية إلى السيرة المكتوبة بغرض محدد وبفنية معينة وبمؤلف واحد، لتتجلى فيها التقنيات الكتابية وليس الشفاهية وتنتقل من مدار الإضافة المتجددة بحسب رؤية كل راو وطريقته وأسلوبه وزمنه إلى رؤية واحدة تسجل في كتاب تتناقله الأجيال من دون تدخل أو تغيير، والمدهش أن يعترف الرواة الشعبيين أنفسهم بهذه الطريقة من الإبداع فلا يحاولون تحويلها إلى عمل شفاهي، كما تحافظ عليها طبقة النخبة الثقافية فتتداولها من جيل إلى آخر كأول حكاية مكتوبة وليست مروية، لكن يبقى السؤال الأهم وهو ما الذي دعى ابن الأثير لكتابة عمل كهذا وما الفارق بينه وبين الرواية التي قال عنها مؤرخو الأدب إنها ارتبطت في نشأتها بالإنسان العادي وليس الآلهة أو أنصاف الآلهة ؟ يقول النجار إن الصراع الشعوبي الذي نشب بين الفرس والعرب هو الذي أدّى الى ظهور هذا الفن كحيلة من المثقف العربي الغيور على ثقافته ودينه وعروبته ليرد به على نزعة العنصرية والتعالي التي سادت لدى الفرس في ذلك الوقت، وكان أعلى تجل لذلك ظهور عشرات الشاهنامات الفارسية وفي قمتها شاهنامة الفردوسي 384 ه التي ترجمها الفتح بن علي البنداري الأصفهاني العام 621 ه للملك المعظم عيسى بن الملك العادل أحمد بن أيوب نائب دمشق. هذه الترجمة الرسمية التي سبقتها ترجمة شفاهية قامت باختصار الشاهنامة الشهيرة التي تحكي تاريخ ملوك الفرس على ثلاثة أجيال في هيئة سيرة شعبية فارسية تحت عنوان فيروز شاه، هذه التي تُعلي من شأن الفرس ودياناتهم قبل الإسلام وثقافاتهم على العرب? ويرجع النجار في تحليله نشوء ملحمة حمزة العرب إلى سرد التاريخ الفارسي القومي بعد الإسلام وذلك بداية من الدولة العباسية التي كان لأبي مسلم الخرساني دور بارز فيها، ومن ثم فقد اتخذه الفرس بطلاً قومياً خصوصاً وأنه كان لا يتورع عن قتل أخلص أصدقائه أو قواده إذا تحدث بلفظة عربية في مجلسه، ثم ازداد شأن الفرس علواً مع البرامكة في زمن المهدي والرشيد، ثم جاء زمن المأمون ليكون العصر الذهبي لعلو النعرة الفارسية خصوصاً أن المأمون من أم فارسية، فبدأ الحديث عن الملوك الفرس ونظم الشاهنامات تخلد وتُعلى من قدرهم، ولم يمر القرن الثالث الهجري حتى صارت فارس لا تتحدث إلا الفارسية، وذكر الجاحظ أن بغداد كانت تعج بالفقهاء الذين كانوا يخطبون الناس باللغتين العربية والفارسية، وقامت في هذا القرن الطاهرية والصفارية والسامانية كدويلات مستقلة، ومن ثم فهذا القرن يعد قرن الاستقلال القومي الفارسي ونهضة الهوية والثقافة الفارسية، وبلغ هذا الأمر أَوجَه كما يقول النجار مع الدول المحلية في إيران مثل الزيارية والبويهية التي حكمت العراق في القرن الرابع الهجري والغزنوية، وواكب ذلك نهضة أدبية أدّت إلى انتشار الشاهنامات، وليس الفردوسي أول من نظم في تمجيد ملوك فارس ولا آخرهم لكن عمله هو الأكثر إحكاماً والأعلى صيتاً، ومن ثم قام بعض الموالي من الفرس بترجمته ترجمة شفاهية أخذت تتطور حتى صارت سيرة شهيرة باسم"فيروز شاه"وصار العامة يتداولونها في مجالسهم، مما حدا بالبلاغي الكبير فضل الدين بن الأثير أن يطلب من أخيه المؤرخ عز الدين بن الأثير أن يكتب عملاً يرد به على فيروز شاه أو الشاهنامة، ووجد عز الدين نفسه أمام عدة صعوبات فنية، أولها أن بطل ملحمته لا بد أن يكون عربياً حتى يرد به على الفارسية، ثانيها أن لا بد أن يكون قبل الإسلام لأن الإسلام يحرم التفاخر وإذكاء الشعوبية، ثالثها أن ينتمي للدولة العباسية ويعش في كنفها، ورابعها أن بحكم انتمائه إلى طبقة النخبة الثقافية يعلم ما للسيرة الشعبية من سمعة غير طيبة لدى الفقهاء والعلماء والأدباء والبلاغيين وحتى الملوك والوزراء وقادة الجند. وفي النهاية إنه بحكم عمله كمؤرخ يدرك ما يجب عليه من الالتزام بالأحداث التاريخية إذا اختار شخصية تاريخية معروفة كخالد بن الوليد أو علي بن أبي طالب أو حتى عبدالمطلب جد الرسول، ومن ثم فقد وقع اختياره على شخصية حررها من تاريخيتها ونسبتها الواقعية وأسماها حمزة بن إبراهيم، لتحمل في صيغتها حمزة بن عبدالمطلب عم الرسول صاحب الشهرة العظيمة والعروبة الشهيرة، ونسبه لإبراهيم ربما كرمزية على الخليل إبراهيم وربما تحريراً من السياق الوقائعي، وجعله رمزاً عربياً ينتصر فيه على الفرس ويبرز شهامة العرب ونجدتهم وما لديهم من حضارة وصفات تعلو على ما يتغنى به الفرس، وبدأ المكان من المدائن حيث قصر كسرى ثم انتقل إلى مكة حيث مولد حمزة ثم انفتح إلى ما بينهما، خالقاً من خلاله قصة حب بين بطله حمزة وابنة كسرى، لكن الفرس لا يقبلون بأن تتزوج ابنتهم من عربي لا يعرف معنى الحضارة فيضعون له العقبات وينكثون بوعودهم له، ويدرك حمزة الأمر فيقوم بتأسيس مملكته العربية حيث يبايع له العرب جميعاً ويتزوج حبيبته وينجب منها، لكنه لا ينجو من الضغائن والدسائس حتى يطلقها ويطردها من ملكه ويعتزل الحياة تاركاً الحكم لابنه، فتدور عليهم الدوائر وينتقص الفرس حدود مملكته فيأخذونها منه، ويظل أصحابه يحفزونه على الخروج للحياة من جديد وإنقاذ العرب من سيطرة الفرس فيخرج ليقود الجيوش وينتصر ويعرف أن حبيبته لم تخنه ولم تفارقه ولم تفضل قصور كسرى عليه بل أقامت لدى مربيه وقائده فيعترف لها بحبه ويعفو عن أبيها ويحيون في سلام. وعلى رغم الأدلة والبراهين التي قدمها النجار على أن هذه أول رواية ملحمية عربية وبالتالي أول رواية في التاريخ غير أنه يقول بضرورة نهوض المختصين بدراسة الرواية وتأريخ الأدب على الأمر? ويبدو لنا أن الفارق ليس كبيراً في منهج روايتي ابن الأثير وسيرفانتس، فالأخير لم ينج من أجواء القصص الفروسية التي كانت ذائعة في أسبانيا عقب خروج العرب من الأندلس كرد على قصص الفروسية العربية، لكنه بدا هازئاً من هذه القصص وخرافيتها ليقول أمراً بعينه، وهو أن هذه القصص فيها الكثير من الخيال والخرافة التي لو صدقها أي إنسان وحاول أن يتمثلها في الواقع سيحدث معه ما حدث لبطله، أما ابن الأثير فقد كان معنياً بالتباهي والتفاخر العربي والانتصار للعرب على الفرس. يبقى أن العملين كلاهما كتب عن قصد، وكلاهما اختار شخصاً واقعياً ووضعه في أجواء خيالية حسب الغرض المراد من العمل، وكلاهما امتثل لشروط الكتابية وليس الشفاهية، وكل منهما محمل بطرائق زمنه في الكتابة وعيوب الدخول إلى فن ليس مطروقاً ولا معروفاً، لكنه في حد ذاته يعد خروجاً إبداعياً رائداً أسس لفن يقول النقاد إننا نعيش الآن في زمنه، المدهش أن الصراع الشعوبي بين العرب والفرس من جانب والعرب والاسبان من جانب آخر كان الدافع الحقيقي وراء إنتاج كلا العملين وإن اختلفت الأحداث والأغراض.