أكثر شعوب المشرق العربي حاجة للاستقرار والوحدة هما شعبا فلسطينولبنان. فعلى رغم تفاوت نوعيّّة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية فيهما وحدّتها، يعاني البلدان مآزق اقتصادية تتطلب استقراراً على مستوى الدولة، لمواجهة تحدّيات أمنية جسيمة تؤثر في الوضع الاقتصادي والاجتماعي. ومع ذلك، يتجه البلدان إلى انقسام حاد في السلطة، يؤدّي إلى قيام حكومتين في كل منهما. فبعد أن سيطرت حركة"حماس"على قطاع غزة، وتمسكت بشرعية حكومة رئيس الوزراء إسماعيل هنية، بادر الرئيس محمود عبّاس إلى إقالة حكومة هنية وتشكيل حكومة طوارئ. وفي لبنان، ومع تعثر الوساطة العربية، تتجّه المعارضة إلى تشكيل حكومة ثانية، الأمر الذي لمّح إليه الرئيس إميل لحّود مراراً، لعدم رغبته بتسليم السلطة إلى الحكومة القائمة عندما تنتهي ولايته في الخريف المقبل. إن هذا التقسيم للسلطة التنفيذية هو بمثابة انتحار اقتصادي لفلسطينولبنان. لا تحتاج فلسطين إلى هذا الانقسام لتضاعف حدّة مشكلاتها الاقتصادية، وفقراء غزة، خصوصاً، هم أوّل ضحايا هذا الانفصال المأسوي عن الضفة الغربية. ولم ينتظر الاقتصاد الفلسطيني فصل غزة عن الضفة كي يسجل مؤشرات سلبية بالغة الخطورة، فهو يتدهور منذ ست سنوات على نحو متواصل، بفعل الحصار الإسرائيلي المعزز بجدار الفصل، وبفعل تدمير البنية التحتية ومصادرة الأراضي وجرفها، وإعاقة حركة التجارة بين شطري فلسطين، وبينها وبين العالم الخارجي. ويعاني المجتمع الفلسطيني أصلاً ارتفاع معدل الفقر، فنسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر ارتفع بصورة حادة من 21 في المئة عام 1999 إلى 60 في المئة عام 2003. وفقد مئة ألف فلسطيني وظائفهم منذ الانتفاضة الثانية، وتقدّر نسبة العاملين الذين يتقاضون أجوراً دون خط الفقر بنحو 60 في المئة، بعدما كانت 43 في المئة عام 2000. حتى أن مؤسّسة Near East Consulting NEC كشفت أن عدد العائلات الفلسطينية تحت خط الفقر ارتفع من 50 في المئة نهاية الفصل الثالث من السنة الماضية إلى 66 في المئة آخر السنة، وهذا يشير إلى تواصل وتسارع التدهور الاجتماعي الخطير، خصوصاً في غزة، حتى قبل الأحداث الأخيرة، فكيف يكون الأمر في عهد الحكومتين، وإحداها محكومة بعزلة عالمية؟ وأشار البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في آخر تقرير لهما عن الاقتصاد الفلسطيني إلى انخفاض الاستهلاك والاستثمار الحكوميين، بفعل الحصار المالي وامتناع الدول المانحة عن مساعدة السلطة الوطنية. وانخفض الاستثمار العام إلى 180 مليون دولار عام 2006، أي إلى نصف ما كان عليه في السنة السابقة. وإذا لاحظنا حجم اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على القطاع العام، والتفاوت الاقتصادي والاجتماعي بين الضفة الغربيةوغزة، ندرك الصعوبات الإضافية التي تنتظر فلسطينييغزة، نتيجة قيام حكومة في غزة مستقلة عن سلطة الرئيس محمود عباس. أمّا لبنان، فصحيح أن ظروفه الاقتصادية والاجتماعية تختلف كثيراً عن ظروف فلسطين، ولكنه، مثلها، سيتأثر اقتصاده سلباً إذا أقدم الرئيس لحّود على تشكيل حكومة ثانية. فالاقتصاد اللبناني سيشهد، في المقام الأوّل، مزيداً من الانحسار في الاستثمارات الخارجية التي لا يمكن أن ترد البلاد في ظل حكومتين متنازعتين على الشرعية. وفوق ذلك، فإن الاستثمار الداخلي سيتراجع بدوره، لأن الانقسام الدستوري إلى حدّ وجود حكومتين على أرض واحدة يجعل من الاستثمار مغامرة كبيرة لن يقدم عليها، مبدئياً، أحد. يضاف إلى ذلك، أن تنازع إدارتين سيعقِّد عمل المؤسّسات الخاصّة ويربكها، ما يجعل دخول مستثمرين جدد إلى ناديها أمراً بعيد الاحتمال. إن انحسار الاستثمار الداخلي والخارجي سيضاعف المشكلات التي تواجه النموّ الاقتصادي في لبنان منذ انفجار حرب الصيف الماضي مع إسرائيل، والتي استمرّت مع الأزمة السياسية والاعتصام المتواصل منذ سبعة أشهر في قلب الوسط التجاري لبيروت. منتصف السنة الماضية أشارت التوقعات إلى أن النموّ الاقتصادي سيصل إلى ستة في المئة نهاية السنة، ولكن الحرب والأزمة السياسة التي أعقبتها جعلتا النموّ آخر السنة صفراً. ويبدو، بسبب تعقد الأزمة السياسية، أن النموّ في الأشهر المنصرمة من السنة الجارية أصبح سلبياً، وفقاً لتقديرات"مصرف لبنان"غير المعلنة. أي أن معدّل النموّ يواصل تراجعه منذ نحو سنة تقريباً، فإلى أي حدّ سيصل تراجعه إذا شهد النصف الثاني من عام 2007 نشوء حكومة أخرى تدّعي الشرعية وتطعن بشرعية حكومة رئيس الوزراء فؤاد السنيورة؟ ولن يتوقف التريث على المستثمرين فقط، بل سيشمل أيضاً القروض والمساعدات الخارجية، التي أقرّت في مؤتمر"باريس 3"، الأمر الذي سيؤثر في القطاعين العام والخاص، ويمنع تحقيق الإصلاح المالي والإصلاحات الأخرى في برنامج الحكومة. وسيتسبّب نشوء الحكومة الثانية في ارتباك كبير في الإدارة، خصوصاً الإدارة المالية للبلاد، لأن من شأنه طرح مشكلات عديدة على صعيد تنفيذ النفقات العامّة، إذا سيطر وزراء مختلفون على الوزارات. صحيح أن"مصرف لبنان"قد يلعب دوراً توفيقياً، أو سيتحوّل إلى بديل من الحكومتين في تأدية النفقات الضرورية، لأنه قام بهذا الدور بكفاءة في مرحلة الحكومتين عام 1988، ولكن دوره أصعب هذه المرّة. ففي التجربة السابقة تمكّن البنك المركزي من الإمساك بالقرار المالي كلياً، تقريباً، لأن الإنفاق الحكومي كان يعتمد وقتها بصورة شبه كلية على قروض"مصرف لبنان"للخزينة، إذ لم تكن واردات الدولة تزيد عن تسعة في المئة من إجمالي النفقات، ولم تكن حصّة المصارف من تمويل الدين العام على ما هي عليه الآن. أمّا في الوقت الحاضر، فإن الواردات تغطي 70 في المئة من النفقات، والمصارف تموّل نصف الدين العام، ما يجعل"مصرف لبنان"أقل قدرة من الماضي على التحكم بالقرار المالي، ما دام الإنفاق العام لا يعتمد على قروضه بصورة رئيسية. الصراع السياسي مفهوم ومبرّر، ولا اعتراض عليه، لأنه من طبيعة المجتمعات، ولكونه يؤدّي دائماً إلى الأفضل إذا كانت نتائج الصراع تحسم وفقاً لما يقرّره الرأي العام بحرية ومن دون ضغوط. ولكن الذي يعصى على الفهم هو أن تستعمل في الصراع أدوات ووسائل لا ينتج منها إلا الانتحار الجماعي، مثل قيام حكومتين في بلد واحد. * خبير مالي لبناني