الأردن تدين حرق قوات الاحتلال الإسرائيلي مستشفى كمال عدوان    رئيس الشورى اليمني: نثمن الدعم السعودي المستمر لليمن    مكي آل سالم يشعل ليل مكة بأمسية أدبية استثنائية    جازان تتوج بطلات المملكة في اختراق الضاحية ضمن فعاليات الشتاء    مدرب ليفربول لا يهتم بالتوقعات العالية لفريقه في الدوري الإنجليزي    الرويلي يرأس اجتماع اللجنة العسكرية السعودية التركية المشتركة    البرلمان العربي يدين حرق كيان الاحتلال لمستشفى بقطاع غزة    رئيس هيئة الأركان العامة يلتقي وزير دفاع تركيا    لخدمة أكثر من (28) مليون هوية رقمية.. منصة «أبشر» حلول رقمية تسابق الزمن    رينارد: مباراة العراق حاسمة ومهمة للتقدم في البطولة    وزير المالية اليمني ل«عكاظ» الدعم السعودي يعزز الاستقرار المالي لبلادنا    التركي فاتح تريم يصل إلى الدوحة لبدء مهامه مع الشباب    "جلوب سوكر" .. رونالدو يحصد جائزة "الهداف التاريخي"    البيت الأبيض: المؤشرات تؤكد أن الطائرة الأذربيجانية سقطت بصاروخ روسي    القبض على أطراف مشاجرة جماعية في تبوك    مدرب قطر يفسر توديع كأس الخليج    «سلمان للإغاثة» يوزع 526 حقيبة إيوائية في أفغانستان    ضبط 3 مواطنين في نجران لترويجهم (53) كجم "حشيش"    وزير «الشؤون الإسلامية»: المملكة تواصل نشر قيم الإسلام السمحة    خطيب الحرم: التعصب مرض كريه يزدري المخالف    مدرب اليمن يستهدف فوز أول على البحرين    الذهب يستقر وسط التوترات الجيوسياسية ويتجه لتحقيق مكاسب أسبوعية    دار الملاحظة الأجتماعية بجازان تشارك في مبادرة "التنشئة التربويه بين الواقع والمأمول "    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    رفاهية الاختيار    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حلاوةُ ولاةِ الأمر    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماذا بعد رفع الحصار عن الاقتصاد الفلسطيني ؟
نشر في الحياة يوم 02 - 04 - 2007

لنفرض جدلاً أنه تم رفع الحصار المالي عن السلطة الفلسطينية، فسيظل السؤال قائماً: ثم ماذا بعد؟ هل سيظل الاقتصاد الفلسطيني رهينة في يد القوى الكبرى، فكلما رامت الضغط على القرار الفلسطيني عادت وفرضت الحصار الاقتصادي؟ نعتقد أن الإجابة على هذا السؤال تستدعي إعادة اكتشاف مفهومنا عن الاقتصاد الفلسطيني وكيف آل أمره إلى الحصار، إذ سيساعد ذلك على فهم كيفية التعامل مع الاقتصاد الفلسطيني مستقبلاً. وهذا يتأتى بطرح الأسئلة الأساسية التي يتعامل البعض معها وكأنه قد أجيب عنها وهو ما لم يحصل ومنها الأسئلة التالية: هل هناك اقتصاد فلسطيني أساساً وما ملامحه؟ وهل ثمة تصور قويم للنطاق البشري للاقتصاد الفلسطيني؟ وهل ثمة تصور قويم للنموذج الحاكم الذي يتوجب أن يستلهمه الاقتصاد الفلسطيني؟
بالنسبة للسؤال الأول فجوابه يتوقف على محددات أبرزها وجود موارد وأبنية اقتصادية وأنماط مطردة في التعاملات المالية فإن وجدت صح القول بوجود اقتصاد. ومن دون تفصيل بالنسبة لحالة الاقتصاد الفلسطيني في الماضي البعيد، نقول إجمالاً إن القرون المنصرمة شهدت تشكل شخصية واضحة الملامح للاقتصاد الفلسطيني خرجت مئات الكتب لتصويرها. فخلال تلك القرون كانت فلسطين تزرع الحمضيات وتصدرها وتعتمد على الصيد وظلت موانئ حيفا ويافا وعكا من أبرز محطات السفن المبحرة عبر المتوسط وظل الاقتصاد الفلسطيني جزءا من اقتصاد بلاد الشام.
ولو نظرنا في واقع شعب فلسطين وأبنيته الاقتصادية بعد تجاوزه زلزلة النكبة عام 1948 للاحظنا أن طبيعة اقتصاده لحقتها تحولات. فبعد أن استلب الاحتلال الأراضي الزراعية وسيطر على الموانئ وفصل اقتصاد فلسطين عن اقتصاد بلاد الشام اضطر الشعب لتشكيل اقتصاد جديدٍ وابتكار موارد جديدة. فبعد أن كان الاقتصاد الفلسطيني يقوم على شعب يوجه موارد وبعد أن كان الإنسان الفلسطيني جزءاً من الموارد الاقتصادية بالإضافة لكونه الموجه للموارد كما في البلدان الأخرى تحول الحال فأصبح الإنسان الفلسطيني هو المورد الأساسي للاقتصاد بعد أن أدرك أن بقاءه أصبح يعتمد على الارتقاء بماكينته العلمية. من هنا ارتفعت نسبة المتعلمين وبرزت ظاهرة استقطاب العقول الفلسطينية كما يحصل اليوم بالنسبة لاستقطاب العقول الهندية وقبلها العقول الألمانية. كما نتج عن هجرة فئات من الشعب مع بقاء نسبة أكبر تحت الاحتلال بلا موارد أن بات بعض أهل الداخل يعتمد جزئياً على تحويلات أهل الشتات. لكن البعض الآخر خصوصا في الضفة أسس أعمالاً مستقلةً وأعمالاً متقاطعةً تقاطعاً إجبارياً مع اقتصاد المحتل، كما اضطرت نسبة من عمالة فلسطينيي 48 للالتحاق باقتصاد المحتل.
لكن عقد الخمسينات شهد استخدام الورقة الاقتصادية للتأثير على التمثيل السياسي الفلسطيني. فقد تأسست آنذاك حكومة عموم فلسطين التي يشير اسمها إلى أن موقف مؤسسيها هو رفض التقسيم ورفض التكييف القانوني لأبناء فلسطين على أنهم لاجئون والتمسك بأن مركزهم القانوني هو مركز الشعب المنتسب لكامل أرضه حتى وإن تعرض جزء منها للاستلاب. لكن القوى الكبرى منعت وصول تمويل البلدان العربية لتلك الحكومة فانهارت وظل الجسد الفلسطيني بلا تمثيل حتى عام 1964 الذي شهد تأسيس منظمة التحرير التي يظهر من اسمها كيف جاء متأثراً بشرط القوى الكبرى للتعاطي مع أبناء فلسطين الذي مفاده إنكار صفة"الشعب"عليهم.
وعقب تأسيس المنظمة أحدثت موجة المأسسة طفرة في الاقتصاد الفلسطيني. فقد تكاثرت الأبنية الاقتصادية الرسمية وشبه الرسمية كالمصارف والشركات الاستثمارية التي صبت أنهارها جميعاً في بحر المنظمة. كما نمت النشاطات التجارية الحديثة في الداخل والخارج. وشرعت المنظمة تبني الجسور مع أبناء الداخل فزادت اللحمة الاقتصادية بين الخارج والداخل. وكان لبعض تلك الأبنية المالية دور في توجيه السياسة الفلسطينية. وهنا تبرز تارة أخرى ظاهرة استخدام الورقة الاقتصادية في التأثير على القرار الفلسطيني. فقد شهدت نهاية الستينات الضغط على بعض البنوك لحجب التمويل عن قيادة احمد الشقيري لإجباره على الاستقالة وهو الأمر الذي أعقبه بروز قيادة جديدة. يبقى المثير في هذه المرحلة كيف أنتجت جهود الشعب الذي انطلق جريحاً واقعاً أتى معاكساً لمراد سياسة القوى الكبرى. فقد عززت انطلاقة الشعب في أرجاء العالم حضور"الشخصية الفلسطينية"وحولت منظمة التحرير من مجرد منظمة إلى حكومة في المنفى وأكدت أحقية شعب فلسطين بأن يكون مركزه القانوني هو مركز الشعب وليس حفنة اللاجئين. ويمكن القول إن هذه المرحلة شهدت نشوء اقتصاد فلسطيني له ملامح"اقتصاد حكومة المنفى". لكن رغم ذلك ظل الاقتصاد الفلسطيني معتمداً على سياسة"الحقن المالي"أي الاعتماد على المعونات، وهي سياسة باتت جل اقتصادات العالم تعتمدها بما في ذلك الاقتصاد الإسرائيلي الاستلابي. غير أن الاقتصاد الفلسطيني لم يكن آنذاك يعتمد على معونات القوى الكبرى بل على معونات البلدان المليئة في الأمة.
في عام 1982 تعرض الاقتصاد الفلسطيني لهزة جديدة نتيجة إخراج قيادة المنظمة من لبنان. فمع خروجها خرجت المؤسسات الاقتصادية وبدأ نشاطها يجمد. ولما تعرض مركز الثقل في الخارج للتغييب ظهرت مراكز الثقل في الداخل، فارتفع منحنى الحيوية الاقتصادية بالداخل في أواسط الثمانينات وهو ما ظهرت آثاره خلال الانتفاضة الأولى التي شهدت مظاهر جديدة لاقتصاديات الصمود وأطر التكافل المالي وآليات الاكتفاء الذاتي. وعزز الدعم الاقتصادي لأبناء المهجر اقتصاديات صمود الداخل خلال سنوات الانتفاضة الأولى. ومع اكتمال ظهور تنظيمات جديدة في الداخل ذات صلة بتنظيمات عالمية وخصوصا في غزة وتحديداً حركة"حماس"برز مفهوم"اقتصاد التنظيم"وتسنى لهذا الاقتصاد ربط فئات من أبناء غزة بفئات من أبناء الضفة بفئات من أبناء 48.
وفي عام 1993 أبرمت اتفاقات أوسلو التي كانت أبرز غاياتها الاقتصادية: أولاً: تمكين النفوذ الخارجي من السيطرة على الاقتصاد الفلسطيني بتوظيف لافتة معونات الاتحاد الأوروبي، وثانياً: محاصرة اقتصادات الصمود وآليات الاكتفاء الذاتي الناشئة، وثالثاً: تمزيق اللحمة الاقتصادية بين أهل الداخل وأهل الشتات.
كانت وسيلةُ تحقيق الغاية الأولى جعل تمويل السلطة يعتمد على تمويل القوى الكبرى. وشهدنا تأثير ذلك على القرار الفلسطيني إذ جرى تعطيل السلطة وفرض تعديلات على بنية الفريق الذي يديرها بواسطة حجب التمويل. وكانت وسيلةُ تحقيق الغاية الثانية تضخيم فكرة الدولة الفلسطينية رغم غياب مقوماتها وفق طرح اتفاقية اوسلو وفرض بيروقراطية أخطبوطية لا تناسب طبيعة المجتمع الفلسطيني ولا غياب مقومات الدولة وفق الطرح الأوسلوي. وشهدنا كيف جرى ربط الوضع الاقتصادي لفئات بقطاع غزة والضفة ببيروقراطية السلطة بواسطة مزاياها التي جذبت الشباب وإن انطوى ارتباطهم بها على بطالة مقنعة. وشهدنا كيف أضعف ذلك المبادرات الاقتصادية الأهلية. وكانت وسيلةُ تحقيق الغاية الثالثة تعزيز الحصار والضغط على السلطة لتوجيه خطابها لفئة محدودة من النطاق البشري الجامع لمفهوم شعب فلسطين وهي فئة أبناء قطاع غزة وفئات محدودة من أبناء الضفة. فتحولت غزة إلى سجن كبير وزيدت الحواجز في الضفة ودوهمت المصارف وشركات الصرافة للاستيلاء على التحويلات القادمة من الخارج وتم توظيف تداعيات 11 سبتمبر في ترويع من تسول له نفسه بإجراء تحويلات لأهله في الداخل بمساءلته عنها بتهمة تمويل الإرهاب. إذن ظهر منذ بدء مسيرة أوسلو ما يمكن تسميته ب"اقتصاد السلطة المحاصرة". فلو صح اختصار آثار اتفاقات أوسلو في كلمة لصح اختصارها في كلمة"الحصار"الذي تجلى على مستوى الأرض والشعب والقيادة.
لكن الغريب أنه عوض أن تنطلق المنافسة بين اقتصاد التنظيم واقتصاد السلطة المحاصرة، أخذ اقتصاد التنظيم يذوب داخل"اقتصاد السلطة المحاصرة". فعوض أن يقوم اقتصاد التنظيم بابتداع آليات اقتصادية مجابهة لآليات السلطة المحاصرة اتجه نحو الدخول في السلطة المحاصرة. وهذا يعاكس ما حصل في لبنان حيث برزت المنافسة بين اقتصاد التنظيم واقتصاد الدولة الضعيفة. ولعل من بواعث ذلك الذوبان أن حقيقة الأمر هي أن اقتصاد التنظيم كان يروم التحرك داخل أي بناء سلطوي بقطع النظر عن طبيعته وبنيته المفاهيمية وأن اقتصاد التنظيم لم يشعر بوجود تناقضات جوهرية بينه وبين اقتصاد السلطة المحاصرة.
بالنسبة الى السؤال عن ماهية النطاق البشري للاقتصاد الفلسطيني فحسبما يريد مسار أوسلو وفق آخر تعديلاته التي شعارها"غزة أولاً وأخيراً"فإن النطاق البشري للاقتصاد الفلسطيني هو سكان غزة فقط. والغريب أن لسان حال القوى التي ارتضت العمل داخل أبنية السلطة الفلسطينية يوحي مسلكها إما باعتماد مفهوم مطابق لذلك المفهوم عن النطاق البشري للاقتصاد الفلسطيني أو بإضافة المجموعات السكانية الموجودة في بعض البقاع داخل الضفة التي لسلطة أوسلو وجود فيها وليس كل الضفة.
لكن هناك من يقول إن الأصل أن يشمل النطاق البشري لمفهوم الاقتصاد الفلسطيني جميع أبناء شعب فلسطين بمختلف فئاتهم في الداخل وفي المهجر. ففي الداخل يشمل أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يقدر عددهم بحوالي 3 ملايين و700 ألف نسمة وفلسطينيي 48 الذين يقدر عددهم بحوالي مليون و100 ألف نسمة وفلسطينيي المهجر الذين يقدر عددهم بحوالي 6 ملايين نسمة. ولعله من الطبيعي أن يشمل النطاق البشري المقيمين بالخارج والذين يحملون جنسيات بلدان المهجر. فالنطاق البشري لاقتصادات عدد من البلدان التي تقطن فئات كبيرة من شعوبها بالمهجر يشمل تلك الفئات كالاقتصاد اللبناني. ومعلوم حجم دور لبنانيي المهجر في دفع عجلة الاقتصاد اللبناني. ومعلوم أنه أسست أبنية اقتصادية كبرى لتتحرك على خطوط التماس بين اللبنانيين المقيمين في لبنان والمقيمين بالخارج. من هنا يبدو أن ثمة مشكلة مفهومية لدى من يصرون على عدم الاعتداد بفلسطينيي المهجر كمكون للنطاق البشري للاقتصاد الفلسطيني فيتجاهلهم في طرحه السياسي والإعلامي مرة تصريحاً وأخرى تلويحاً.
أما عن السؤال الخاص بالنموذج الحاكم للاقتصاد الفلسطيني فالمقصود بذلك أنه لا بد أن يسير الاقتصاد مستأنساً بتصور نموذجي فكري يحدد الطبيعة التي يجب أن يكون عليها الاقتصاد وأهدافه الكبرى. فمقتضى تبني نموذج اقتصادي حاكم أن الاقتصاد ليس سفينة تطير في فضاء تنعدم فيه الجاذبية تتحرك حركة عشوائية طليقة بل هو سفينة تتحرك على سطح ماء بحرٍ وتستهدي ببوصلة تمكنها من الوصول إلى شاطئ سترسو عنده انتظاراً لإبحارٍ جديد. ومن أمثلة النماذج الحاكمة للاقتصادات نموذج"اقتصاد حرب التحرير"الذي اعتمدته مصر بعد حرب 67. حتى القوى التوسعية تتخذ لنفسها نماذج حاكمة لاقتصاداتها. فالاقتصاد الأميركي سار عبر نصف القرن الماضي وفق"نموذج اقتصاد القطب العالمي". والاقتصاد الإسرائيلي سار عبر نصف القرن الماضي وفق"نموذج اقتصاد القوة الاستلابية". وأحيانا يلحظ المراقب حالة من التنافس بين نموذجين حاكمين في بلد واحد كما في لبنان حيث نرى"نموذج اقتصاد البلد المقاوم"يتنافس مع"نموذج اقتصاد البلد السياحي".
لقد شعرنا بضرورة هذا التمهيد لأنه برزت عبر العقد الماضي سياسات تشير، أولاً إلى غياب تصورات جادة في الساحة الفلسطينية والعربية عن النموذج الحاكم الذي يتوجب أن يستلهمه الاقتصاد الفلسطيني، وتشير ثانياً إلى وجود حملة من قوى الاستلاب لفرض نماذج حاكمة تنطوي على مخاطر داهمة، وتشير ثالثاً إلى رغبة البعض في اعتماد ما يشبه النماذج الحاكمة التي تناقض الحس السليم. فقد راج عند البعض أن هدف الاقتصاد الفلسطيني تحسين وضع معيشة الفلسطينيين فقط، مما يوحي بأن على الاقتصاد الفلسطيني أن يعتمد نموذجاً حاكماً أشبه بما نسميه"نموذج اقتصاد اللاجئين". وينطلق هذا الموقف من التكييف الأساسي الذي حكم النظرة الأميركية الرسمية تجاه شعب فلسطين عبر قرن والذي مفاده أنه ليس شعباً يستحق أن يعود إلى وطنه بل حفنة من اللاجئين يراد تحسين أحوال معيشتهم. وكان أحد تطبيقات هذا التكييف المفهومية اعتماد مصطلح"الفلسطينيين"و"الأراضي الفلسطينية"عوضاً عن مصطلحي"شعب فلسطين"و"فلسطين". وينطلق من يقول بوجوب استلهام هذا النموذج من تصورٍ مفاده أن أبواب التحرير أغلقت فما عاد من خيار إلا تحسين المعيشة ويفوته أن البنيان الإسرائيلي يمر بتصدع غير مسبوق وأن القرار الإسرائيلي اضطر إلى الانسحاب من جنوب لبنان وأنه خسر مواجهة كبرى مع المقاومة اللبنانية وأنه ما عاد يستطيع الحفاظ على أمنه المطلق وأن منحنى التناقض بين القرار الإسرائيلي والأميركي في ازدياد خصوصاً في ضوء أزمة هذا الأخير في العراق وأن منحنى التحرير التدريجي في تصاعد وإن كان بطيئاً. كما روج البعض ومنهم شيمون بيريس أن هدف الاقتصاد الفلسطيني الذي هو عندهم اقتصاد غزة وأحياء بالضفة فحسب هو جعل هاتين البقعتين تابعتين لتل أبيب التي يراد لها أن تكون هي ومحيطها مركز نظام الشرق الأوسط الجديد مما يوحي بأن على الاقتصاد الفلسطيني أن يعتمد نموذجاً حاكماً لاقتصاده أشبه بما يمكن تسميته"نموذج اقتصادات المثلثات الذهبية"سنغافورة، ماليزيا، تايلاند أو أبوظبي، دبي، قطر. وراجت هذه الفكرة في منتصف التسعينات قبل أن تتم إعاقة بناء نظام الشرق الأوسط الجديد، وقبل أن يعود الخطاب الإسرائيلي إلى محاولة فرض نموذج"اقتصاد اللاجئين". وراج لدى البعض أن هدف الاقتصاد الفلسطيني هو جذب الاستثمارات كما هو هدف ما يسمى بالبلدان النامية مما يوحي بأن على الاقتصاد الفلسطيني أن يعتمد نموذجاً حاكماً أشبه ب"نموذج اقتصاد البلدان النامية". ومن يقول بذلك يتعامل مع شعب فلسطين تعامله مع الشعوب التي نالت استقلالها ويتصور أن الترتيبات الأمنية التي اتخذها الاحتلال في غزة هي انسحاب حقيقي ويفوته أن هناك احتلالاً جاثماً وهذا ما يجعله ينادي بجذب الاستثمار إلى بقاع تشهدُ اجتياحاتٍ وإضرابات.
الخلاصة من كل ما سبق أن هناك شخصية متميزة للاقتصاد الفلسطيني ظهرت ملامحها عبر الأطوار التي مر بها ولا يستقيم إصلاح حال الاقتصاد الفلسطيني من دون استحضارها. فالاقتصاد الفلسطيني له جذور ضاربة في التاريخ وثمة قواسم مشتركة تجمع بينه وبين اقتصادات بلدان أمته. وقد تعرض لأعاصير كادت تجتثه اجتثاثاً لكنه استعاد ثباته وأعاد تعريف موارده. كما اتضح وجود تأثير اتخذ صوراً مختلفة للورقة الاقتصادية، أي التمويل على القرار الفلسطيني. كما ظهر أنه خلال مرحلة اعتماد الاقتصاد الفلسطيني على الأمة كان منحنى التحرير في صعود متدرج وأن محاصرة الاقتصاد الفلسطيني وفصل مكونه الداخلي عن مكونه الخارجي إنما جاءا من أجل إيقاف نموه بعد أن أصبح يتوفر على إمكانات تحريرية. كما ظهر أن شعب فلسطين اليوم على مفترق طرق في ما يتصل بمواجهة ذلك الحصار. ويظهر أنه لا مفر أن يكون النموذج الحاكم للاقتصاد الفلسطيني هو"نموذج اقتصاد المقاومة التحريرية". فماذا عن خريطة هذا النموذج؟ للإجابة عن هذا السؤال موضع آخر لكن أبرز ملامح تلك الخريطة منع تحقق الغايات الاقتصادية الثلاث المذكورة لاتفاقات أوسلو. فهذا ما سيحرر الاقتصاد الفلسطيني من الارتهان مستقبلاً.
* كاتب فلسطيني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.