ماذا نقول ونحن نرى ونتألم ونبكي دماً على ما يجري في مشرقنا العربي من جنون دامٍ وقتال عبثي ومعارك غادرة وشلالات دم تسيل في جسد العربي فتمزقه إرباً؟ بماذا نبرر ما يجري لأولادنا وأحفادنا وللعالم؟ يا لشماتة الأعداء بنا... ويا لفرحة الصهاينة بالمذابح التي نرتكبها بحق بعضنا بعضا، ويا لاحتقار العالم لاستخفافنا بالقيم الانسانية وبروابط الدم والأخوة وكأننا نستحضر المتنبي في سخريته من أحوالنا عندما قال: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم! إنها كلمات من نار تصدر من أعماق كل انسان عربي يتابع مجريات الأحداث في فلسطينوالعراقولبنان فلا يجد لها مبرراً ولا تفسيراً ولا عذراً مهما كانت الأعذار والمبررات. ولولا بعض النقاط المضيئة التي تناثرت من هنا وهناك في موازاة مسيرة الانحدار في أماكن أخرى لاستسلمنا لليأس وفقدنا الأمل وحزمنا الحقائب ورحلنا عن"عصفورية"الأحزاب والفئات والقيادات والطوائف والمذاهب والملل وتركنا لهم الساحة ليصفوا بعضهم بعضا ويمارسوا خطاياهم وينتحروا ليرتاحوا ويريحوا! نعم، إنها صورة مأسوية لمشهد العالم العربي، والمشرق منه بالذات أو ما يسمى ببلاد الشام، حيث يمارس الساسة سياسة"لحس المبرد"والتلذذ بالدماء النازفة مع معرفتهم المسبقة بأنها دماء الجسد العربي، أو بالتشبه بجنون"كاسر مزراب العين"المقتبسة عن حكاية للأخوين رحباني التي تحكي قصة مجنون الضيعة، العاشق الخائب الذي ينتقم من القرية وأهلها بسبب رفض محبوبته الانسياق لرغباته بتدمير نبع الماء الوحيد ليموت الجميع عطشاً. فما يجري اليوم هو منهج تدميري مبرمج يطال كل عربي الى أي دولة انتمى بفعل ارتداداته وانعكاساته وامتداداته السياسية والأمنية والدينية والمذهبية... ومن أجل ماذا؟ من أجل سلطة زائلة وأمجاد زائفة وكرسي مسموم وحكم مغمس بدم الأبرياء ومهدد لمستقبل الأجيال ومصير البلاد! ففي الاراضي الفلسطينية يتقاتل الأخوة ويرتكبون المذابح ويأخذون بجريرتهم الأبرياء ويدمرون الحاضر والمستقبل والأمل بقيام دولة فلسطينية مستقلة مع معرفة الجميع بأن هذه المعركة لا نهاية لها، عرفنا كيف بدأت لكن أحداً لا يعرف كيف ستنتهي. إنها معركة لا منتصر فيها ولا مهزوم إن لم نقل ان المهزوم فيها هو الشعب الفلسطيني وقضاياه، والعرب بشكل عام، وان المنتصر هو العدو الاسرائيلي الشامت والفرح لهذه الهدية التي جاءته من الفلسطينيين ليخرج من مآزقه الكثيرة ويعيد ترميم بنيانه وصفوفه ويواصل مخططاته الجهنمية في تهويد القدس وتهديد المسجد الاقصى المبارك واتمام بناء جدار العار للفصل العنصري وإقامة المزيد من المستعمرات الاستيطانية، فيما القيادات الفلسطينية تبني جداراً آخر من عار الفصل بين الفلسطينيين أنفسهم، وتقطع أوصال دولتهم المستقلة الموعودة بين قطاع غزة البائس والضفة الغربية المنكوبة. من بيت أبينا ضربنا... وظلم ذوي القربى اشد مضاضة والعار كل العار هو ما رأيناه، وشخصناه ونحن نرى على مرأى من العالم كله هذا الكم من الغل والأحقاد والتشفي والعنف في المعارك العبثية والانتقامات الاجرامية. ويحق لنا ان نسأل هؤلاء: كيف طاوعتكم ضمائركم على القيام بمثل هذه الأعمال المنكرة؟ وكيف تنكرتم لتواقعيكم وتعهداتكم وعهودكم في رحاب مكةالمكرمة وفي ظل الكعبة المشرفة وبرعاية خادم الحرمين الشريفين وفي حفل بث على الهواء مباشرة، فهلل له الملايين من العرب والمسلمين وذرفوا دموع الفرح لتحقيق هذا الانجاز التاريخي. والسؤال الآن هو ماذا بعد؟ لو افترضنا ان حماس سيطرت على غزة وانتصرت على"فتح"وذبحت مناصريها، وان فتح انتصرت على حماس في الضفة وتفردت في حكمها؟ اي نصر هذا؟ واي حكم؟ وأي سلطة والجميع يرزح تحت نير الاحتلال ويعيش تحت وطأة الحصار ثم ماذا ينفع الانسان إذا خسر نفسه وربح العالم؟ إنها معضلة الفلسطينيين والعرب في الامس واليوم، ندعو الله ان لا تستمر الى الغد القريب والبعيد: أنانية وتفرد واستئثار ورفض للمشاركة وشهوة للسلطة واحتقار للرأي الآخر وللآخر نفسه مهما كان حجمه ومهما بلغ نفوذه. ومن دون الدخول في عملية إصدار احكام وتوزيع اتهامات وتوجيه اللوم لهذا الطرف أو ذاك نجزم بأن الخطأ يقع على عاتق جميع الأطراف وان الخطايا ارتكبت من كل حدب وصوب، ولكن المنطق يدعو الى استغراب انجرار حركة المقاومة الاسلامية حماس الى هذا الفخ وتورطها في مثل هذا الصراع وانزلاقها الى حقل الألغام والرمال المتحركة وهي التي يفترض ان تكون منزهة عن الأخطاء متسامية فوق الجراح متمسكة بتعاليم الدين الحنيف وتسامحه وتحريمه قتل النفوس البريئة. وكنت من أول المحذرين من هذا الفخ عندما قبلت حماس المشاركة في السلطة ثم في السعي للتفرد في الحكم والحكومة، لأنه كان من الأولى والأكثر تأثيراً وفعالية ان تبقى في المعارضة وتحافظ على قدسية مقاومة الاحتلال حتى يستكمل التحرير وتقوم الدولة المستقلة وبعدها لكل حادث حديث ولو من باب التشبه بالأعداء الذين يتوزعون الأدوار بين صقور وحمائم ومتطرفين ومعتدلين وهميين. وهذا ينطبق بشكل أو آخر على لبنان، وحزب الله بالذات، فقد كان عامل توحيد ووفاق يلتف حوله الجميع من دون أي استثناء عندما كان يرفع راية المقاومة ويعلن زهده بالحكم والمناصب، ولكن الأمر تغير كثيراً بعد ان جر الى فخ ما يسمى بالمشاركة في الحكم، فتحول الى فريق بين الفرقاء وطرف في بلد العجائب والطوائف والمذاهب يُهاجِم ويُهاجم ويتبادل الاتهامات ويتعرض لحملات في سجالات سياسية ودينية ومذهبية. وأذكر للمناسبة ان محطة"المنار"استضافتني مرات عدة قبل الأزمة الراهنة، اي قبل سنوات كنت اسأل فيها عن الحساسيات، فكان القيمون عليها يقولون لي"إنها غير موجودة، ولكن التعليمات التي نلتزم بها هي ان لا نكون مع فريق ضد فريق وان نقف على مسافة واحدة من جميع الأفرقاء اللبنانيين وان نمتنع عن الانحياز أو تبادل عبارات المديح أو الذم والاتهام". ولكن ما الذي تغير الآن؟ ولماذا تم الخروج من قدسية المقاومة الى دنس الحكم والسياسة وألاعيبها؟ وبغض النظر عن هذه النقطة لا يختلف اثنان على المخاطر التي تحيق بلبنان هذه الايام، فهو يقف على حافة الهاوية من الآن وحتى موعد انتخابات الرئاسة وسط تداعيات المحكمة الدولية والصراع بين المعارضة والموالاة والاعتصامات على وقع التصعيد الدموي والسياسي والدستوري بعد حرب مخيم نهر البارد وتحرك الارهاب وعمليات التفجير واغتيال النائب وليد عيدو ورفاقه. أما العراق فالحديث عنه يحتاج الى مجلدات، فالخطب جلل وشلالات الدم تنهمر والمآسي تتوالى والجنون يتعاظم والأفق يضيق ليغلق نوافذ الأمل ويهدد لا بالتفتيت والتقسيم والفيديراليات فحسب، بل بالتدمير والقضاء المبرم على الماضي والحاضر والمستقبل، وعلى الوحدة والكيان والوطن واندلاع حروب طائفية ومذهبية لن تنجو منها المنطقة أبداً، خصوصاً بعد ان وصل الإجرام الى حدود نسف المساجد والمراقد الدينية وإحراقها. هذا المشهد الدامي للمشرق العربي المهدد بالغياب والغروب يمثل اليوم ليل العرب المظلم الحالك السواد ويدعونا لليأس لولا نقاط مضيئة عدة برزت في عتمة الليل من دول شقيقة كانت في الماضي تتغنى بحضارة بلاد الشام وتنهل منها العلم والمعرفة وتسعى للتمثل بها إن لم نقل تقليدها. هذه الإضاءات أوجزها بالنقاط التالية: * التصميم على التقريب بين الاخوة وبذل الجهود لحقن الدماء والسخاء في تقديم المساعدات لنجدة الدول المنكوبة التي خسرت للمرة الثانية خلال ربع قرن جني فوائد وارباح الفورة النفطية والاستفادة من خيراتها بسبب حروبها وأزماتها وصراعات قياداتها. * استخدام أموال الفورة النفطية في مشاريع منتجة ورفع مستوى دخل الفئات الفقيرة والطبقة المتوسطة والتركيز على اقامة مراكز الابحاث والعلوم والجامعات، كما جرى في السعودية التي خصص خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عشرات بلايين الدولارات للمدن الصناعية والاقتصادية وجامعة ومعاهد العلوم والتكنولوجيا وتوفير فرص التعليم الحديث والعمل لآلاف الشبان السعوديين. * التركيز على التنمية في دول الخليج من قطر الى البحرين ومن الامارات الى عمان والكويت. واستخدام أموال الطفرة في بناء مشاريع منتجة. * التركيز على الفكر والعقل والمعرفة وتشجيع الإبداع والمبدعين ورعاية النهضة الثقافية بتخصيص جوائز خاصة مثل جائزة الشيخ زايد للكتاب وجوائز أخرى مماثلة في السعودية ودول الخليج الاخرى. * إعلان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن تخصيص 10 بلايين دولار لنشر المعرفة ودعم جهود التنمية العربية ودعم العقول والقدرات الشابة والتركيز على العطاء للبحث العلمي والتعليم والثقافة والاستثمار في البنية الاساسية للمعرفة ومواكبة التطور العلمي والمشاركة في تحديد ملامح المستقبل وتطوير الرصيد المعرفي لأبناء المنطقة وبناء قاعدة معرفية بمستويات عالية وإقامة صندوق للبحث العلمي وتشجيع الإبداع والابتكار وبناء المؤسسات الصغيرة والمتوسطة. نعم، إنها نقاط مضيئة في ليل العرب المظلم لا أدري سر انجذابي لعرضها من باب المقارنة بين نهج التدمير ونهج البناء، وثقافة الموت وثقافة الحياة، وسياسة التسامح والتفكير بمستقبل الاجيال وسياسات الاحقاد والتشفي وصد الابواب أمام الأجيال المنكوبة لحملها على اليأس أو الهجرة بدلاً من توفير الأجواء وزرع التربة الصالحة لتشبثها بأرضها وولائها لأوطانها! حقاً إنها لمأساة درامية مظلمة! * كاتب وصحافي عربي