للكاتب الأميركي ويليام فولكنر قصة طويلة عنوانها "مس زلفيا غانت"، كانت قد نشرت قبلاً، كما يبدو، ضمن مجموعة من القصص المتفاوتة الطول، ثم عاد الكاتب ونشرها في شكل مستقل سنة 1932، كثر يومها، من الذين لم يكونوا عرفوا شيئاً عن هذا العمل اعتقدوه جديداً وانه ينشر للمرة الأولى. لكنهم بالتدريج أدركوا لاحقاً انه عمل قديم نسبياً. بل يبدو انه عمل مبكر من أعمال فولكنر الشاب. إذ، اضافة الى كون هذه القصة تبدو متأثرة الى حد بعيد بكتابات شروود اندرسون، نجم الكتابة الأدبية في نيو أورليانز خلال عشرينات القرن العشرين وثلاثيناته، وهو تأثر كان يلوح لدى فولكنر عند بداياته ليزول تدريجاً لاحقاً إذ أصبح هذا الأخير أكثر شهرة وأكبر أهمية من سلفه الجنوبي الكبير، اضافة الى هذا يبدو في هذه القصة واضحاً تأثر فولكنر العميق والتفصيلي بالتحليل النفسي. ومن المرجح أن صاحب"اباشالوم ابشالوم"و"ضوء في آب"و"الصخب والعنف"قرأ في مستهل شبابه بعض أهم نصوص اساتذة التحليل النفسي - وعلى رأسهم فرويد - في ما يتعلق بالهستيريا ولا سيما الهستيريا والمرأة، بحيث آلى على نفسه أن يجعل هذين موضوعاً لعمل أدبي. وهذا العمل هو بالتحديد"مس زلفيا غانت"التي تبدو، مع انعام النظر فيها، أشبه بتطبيق أدبي لذلك الشأن العلمي الخطير. وهذا الجانب في القصة - أي ظهورها كتطبيق ابداعي للتحليل النفسي للهستيريا -، هو الذي يشي أيضاً بأن"مس زلفيا غانت"عمل مبكر، حيث يبدو واضحاً فيها أن الكاتب الشاب الموهوب، في ذلك الحين، إنما استخدم موهبته الابداعية لاستعراض عضلاته العلمية. والحال أن الباحثين الذين تناولوا هذا العمل بالتحليل، غلب على كتابتهم عنه كذلك، طابع التحليل الأكاديمي البحت. ومنهم ذاك الذي قسم العمل، ميكانيكياً، الى خمسة فصول حددها، منطقياً، على الشكل الآتي: في الفصل الأول نجدنا أمام السيد غانت وهو مربي ماشية جوال في ولاية ميسيسيبي الأميركية يرسل ذات يوم الى زوجته، مساعداً ابله يعمل لديه ليبلغ الزوجة أن السيد غانت لن يعود بعد ذلك الى البيت أبداً. سيختفي من حياتها وحياة العائلة. وفي المناسبة يطالب المساعد زوجة معلمه بنقود له في ذمة هذا الأخير. غير أن السيدة غانت لا تستجيب مطلبه. بل تستعير مسدساً وتنطلق به الى مدينة ممفيس، حيث تغيب بعض الوقت لتعود من هناك، ومن دون أن نعرف ماذا فعلت، مرتاحة باردة الملامح راضية عن نفسها. في الفصل الثاني تروى لنا حكاية السيدة غانت وابنتها زلفيا. انهما تعيشان معاً في حانوت الخياطة الذي انشأته الأم في مدينة جفرسون، عاصمة مقاطعة يوكنا باتاوفا الخيالية التي اخترعها فولكنر وجعلها ميدان رواياته وأعماله جميعاً. الأم ليس لها من عمل سوى مراقبة ابنتها والخوف عليها. انها تراقبها ليلاً ونهاراً، تنتهز فرصة تغيير الصبية ملابسها حتى تتفحص أية تغييرات محتملة لديها. خوف الأم على ابنتها يبدأ باتخاذ سمات مرضية هستيرية، تصل حتى منع الأم الابنة من الذهاب الى المدرسة. لكنها، في هذه النقطة تتساهل أخيراً بناء على إلحاح واحدة من زبوناتها. تذهب الابنة الى المدرسة وترتبط بعلاقة مع صديقات من سنها، ما يزيد من رعب الأم. ثم ذات يوم تعثر هذه على زلفيا، مع شاب في حفرة، تسجنها وتجلس هي أمام منافذة في البيت.. وتبقى على تلك الحال اثنتي عشرة سنة كاملة... وقد أعياها المرض النفسي كما أعيا ابنتها. احداث الفصل الثالث لا تدوم سوى أيام قليلة، وهي تتمحور حول ما يحدث إثر سنوات السجن الطويلة: تجد زلفيا لنفسها عريساً في شخص رسام شاب يعمل في حانوت أمها. تهيم به وتقرر انه الحبيب الذي سينقذها مما هي فيه. لكن الأم في المرصاد. تخبئ المفتاح وتزداد حالها المرضية سوءاً. في اليوم الثالث تتمكن زلفيا من سرقة المفتاح وتهرب الى حيث ينتظرها الحبيب الرسام الذي ما إن يراها حتى ينتزع نظارتيها عن عينيها - في حركة رمزية طبعاً -، ثم يذهب بها الى حيث يقترنان رسمياً. وهذا الزواج الذي يبدو انه حقق أعز أمنيات زلفيا، هو الذي يقودنا الى الفصل التالي، حيث تطالعنا زلفيا هذه المرة، وبعد حصولها على حريتها، تواقة الى العودة الى أمها. وإذ تفعل وتعود مع زوجها، يجدان الأم عند عتبة البيت وبين يديها بندقية. تُشهر الأم البندقية وتأمر ابنتها بأن تدخل وحدها الى البيت. ويبقى الزوج منتظراً في الخارج طوال يومين كاملين... يرحل بعدهما. أما السيدة غانت فإنها تظل واقفة مسلحة عند الباب يومين وليلتين قبل"أن تموت جالسة على كرسيها في كامل ملابسها مستقيمة قوية صلبة"... كما يخبرنا الكاتب. أما زلفيا، فإنها أمام هذا الواقع الجديد، تقرر أن تنتظر عودة زوجها ستة أشهر لا أكثر. وإذ تمر الشهور من دون أن يظهر له أثر، تبدأ الفتاة بالغرق في جنونها الخاص: تجلس دائماً في انتظار الأرواح التي ستحمل منها. وترسل اسمها واسم زوجها الى الصحف لينشرا في صفحات طلبات الزواج... وتبدأ بالتعبير عن رغبتها في الاقتران بالزنوج، في الوقت الذي بدأت فيه الاعتياد على تلقي رسائل غريبة من تحرٍ خاص، يفصّل لها فيها ما يتعلق بالحياة الزوجية الجديدة التي يعيشها زوجها مع امرأة أخرى. وفي احدى هذه الرسائل تعلم زلفيا أن"ضرّتها"قد حملت، فيجن جنونها وتخرج بثياب النوم الى الشارع لا تلوي على شيء. وبعد ذلك تنظر تسعة أشهر كاملة تدخل بعدها الى المستشفى حيث تغيب هناك ثلاثة ايام لا نعرف، نحن القراء شيئاً عن حالها خلالها. في الفصل الخامس والأخير تبدأ الاحداث بعودة زلفيا من المستشفى ومعها طفلة وليدة، وحال عودتها نعرف ان أم الطفلة قد ماتت خلال الولادة، وكذلك مات الوالد - ويا لغرابة الصدف!-، في حادث. هل هذا صحيح أم لا؟ لسنا نعرف تماماً، بل يخيل الينا أن في هذا الخبر إسقاطاً واضحاً لرغبة زلفيا في موت زوجها الخائن. المهم أن زلفيا صارت الآن في الثانية والأربعين من عمرها... لكن كل ما حولها يسعدها ويشعرها بالرضا... وصارت كل أحلامها منصبة على الطعام اللذيذ والعيش الهنيء، مع العلم أن كل ما يحدث في الصفحات الأخيرة من القصة، يحيلنا الى حكاية أم زلفيا مع هذه الأخيرة في حركة لولبية تحل فيها زلفيا محل أمها، والطفلة محل زلفيا، بعد ان كان الزوج قد حل مكان الأب الذي كان اختفى كما نذكر، في بدايات الفصل الأول. واضح هنا، من خلال هذا العرض الذي نقلناه عن باحثين اشتغلوا على هذا العمل، اننا امام نص يبدو أقرب الى أن يكون علمياً، منه أدبياً. إذ من الواضح أن ويليام فولكنر شاء هنا أن يقدم حالة عيادية ويدرسها بالتفصيل، تتعلق كما أشرنا بالهستيريا، مع اسقاطات وراثية وما شابه. ومن هنا لن يعود غريباً أن نذكر أن علماء التحليل النفسي قد اهتموا بهذا النص أكثر من اهتمام نقاد الأدب به، ومع هذا لم يفت هؤلاء أن يشيروا الى أن فولكنر قد حقق في طريقه نوعاً من التوغل الخلاق في خفايا الروح الانسانية، ما سيتجلى أكثر فأكثر في رواياته اللاحقة. عندما كتب ويليام فولكنر 1897 - 1962 هذا النص، كان لا يزال في بداياته، ولم يكن قد عرف على نطاق واسع في العالم كله بأعماله التجديدية التي أدخلت الأدب الأميركي نفسه في خريطة الحداثة الأدبية في العالم. كما انه لم يكن طبعاً قد حاز جائزة نوبل للآداب 1949 التي كرسته واحداً من كبار أدباء العالم في القرن العشرين.