نعم ولكن تقارن آن تايلر مجدداً بجين أوستن مع صدور روايتها الأخيرة "الزواج الهاوي" عن دار شاتو وونيدس. حدت الكاتبة الأميركية نفسها بالعلاقة بين الرجل والمرأة كما فعلت الروائية الانكليزية، ولاحظت كلتاهما الوجه المأسوي - الهزلي فيها. "نصف العالم لا يفهم مباهج النصف الآخر" قالت أوستن، وفي "الزواج الهاوي" تتناول تايلر ارتباط نقيضين، لكنها توسع المدى الزمني والحضاري خلافاً لأوستن. تبدأ بالحرب العالمية الثانية وتتابع ثلاثة أجيال وسط التغيرات الحضارية، وترصد الحركة الداخلية في اللحظات الحاسمة التي تشكل حياة الأفراد. عندما تكتشف امرأة في الرواية ان زوجها سيتركها يدهمها شعور بالانزلاق وفقدان التوازن كشخص يجلس في قطار متوقف يرى قطاراً يتحرك قربه فلا يعرف للحظة أيهما المتوقف وأيهما المتحرك. لا تعطي آن تايلر مقابلات صحافية، ولا تجول لتروّج أحدث كتبها ولا تعلّم أو تحاضر. يقف جدار بينها وبين العالم على أن عزلتها تبقى أقل حدّة من ابتعاد سالينجر أو هاربر لي مؤلفة "قتل طائر ساخر". بعد نيلها جائزة بوليتزر في 1989 رفضت التحدث الى صحافي لأنها مشغولة بالكتابة الى درجة لا تستطيع التكلم معها. تدور معظم رواياتها في بلتيمور بشوارعها المشجرة وبيوتها العالية، وتتمسك دائماً بحياة كل يوم. تجمع شخصياتها بين المحافظة والغرابة، وتشد القارئ وتغيظه في آن. مثل أليس مونرو والراحلة كارول شيلدز، هي سيدة الفرد العادي الذي يجتاز الحياة يوماً بيوم من دون بطولات أو أرباح كبيرة. تأثرت رواياتها الأولى بالغريب والمثير في أدب الكتّاب الجنوبيين كوليم فولكنر ثم وجدت وجهها في الواقعية. "أريد أن يفهم الجميع ما أعني"، قالت في مقابلة نادرة. في الثانية والستين اليوم وتبدو قريبة من أسطورتها، على أنها لم تصنعها تماماً. يظهر اسمها مع جون ابدايك ودون ديليلو وفيليب روث من دون أن تتساوى بهم. بسيطة الأسلوب والمحتوى على أنها اختيرت في 1990 وحدها بين الكاتبات احدى أفضل كتّاب الثمانينات في مجلة "تايم". لا تربط الأحداث غالباً بحقبة محددة، ولا تثير أسئلة عصرها الثقافية، ولا تهتم بالجنس في تركيزها على الحب والكتب والانفصال والذنب. تذكّر حشمتها وبراءتها بالماضي الجميل سواء كان حقيقة أو وهماً، وهذا جزء من جاذبيتها وربما ماضيها. تنقلت طفلة مع أسرتها بين جماعات "الكويكر" الدينية، ولم تدخل المدرسة الا في الحادية عشرة. منحتها نشأتها غير التقليدية عين كاتب، أميركي خصوصاً، قادر على رؤية العالم العادي بدهشة وتجرد. كان في امكانها، كتبت، اشعال عود كبريت على قدميها العاريتين، لكنها لم تكن مخلوقاً برياً خالصاً. بدأت كتابة القصص في السابعة، ونشرت أولى رواياتها "إذا أتى الصباح" في الثالثة والعشرين. زواجها الباكر في الحادية والعشرين من الروائي والطبيب النفسي الايراني تاغي موداريسي وانجابها ابنتين لم يعرقلا اصدارها كتاباً جديداً كل بضع سنين. ولم تعرقل كتبها حياة سيدة البيت التي تكتب أربعة أيام في الأسبوع وتخصص الجمعة لملء البراد والاهتمام بالسيارة. تأتيها الأفكار وهي تجر المكنسة الكهربائية، أمر يفيد الكاتبة وست البيت معاً. جمهورها عريض بين الرجال، ورجال رواياتها ضعيفون مكبوتون عاطفياً. ناقد لئيم يرى أنها تجذب الرجل "البيتوتي" الذي يحتاج الى قراءة سهلة بعد انتهاء عمله ومهماته المنزلية. في بريطانيا يتحمس لها نيك هورنبي ورودي دويل وسيباستيان فوكس المتوسطو القامة ويساهمون بلا قصد في تكريس قامتها المتوسطة. دافئة وآسرة، لكنها سطحية أيضاً، وتبقى من الذين نقول عنهم في مجال أو آخر: "نعم ولكن". بين بابين ولدت في انكلترا لأبوين بنغاليين وعاشت في أميركا وتزوجت في الهند يونانياً مكسيكياً عاش في غواتيمالا وتايلاندا. مفاهيم العولمة و"مواطن العالم" و"العالم قرية صغيرة" لم تسهّل الأمر على زومبا لاهيري الضائعة بين حضارتين وقارتين لا تنتمي الى أي منهما. ليست هندية ولا أميركية، بل مصابة بالفصام الذي يصيب أبناء مهاجرين الى بلاد يرفضون الاندماج فيها ويعيشون في المكان الجديد كأنهم لا يزالون حاضرين في الآخر القديم. في روايتها الأولى "المسمّى باسم شخص آخر" تعالج الكاتبة الهندية الأميركية الشابة اضطراب الهوية الثقافية والانسلاخ لدى شاب يماثلها في الخلفية. سمّاه والده غوغول تيمناً بالكاتب الروسي الذي كان يحمل كتابه "المعطف" عندما نجا من حادث اصطدام القطار. رأى الشاب اسمه عبئاً ومصدر حرج لا علاقة له بحاضره الأميركي أو خلفيته البنغالية. يصادق أميركية ويتزوج بنغالية، واذ تسافر أمه الى الهند لتمضي سنينها الأخيرة، يفكر في هويته مجدداً ويغيّر اسمه الى نيكيل الأقرب الى بلده المتبنى. على ان ذلك لا يمنحه أي عزاء أو حس بالانتصار، ويبقى عالقاً بين ثقافة أهله وحياته في العالم الجديد الذي حاول أن يجعله عالمه. أتاها النجاح من دون أن تطرق بابه. كانت في الثالثة والثلاثين عندما نشرت كتابها الأول "شارح الأمراض" ونالت بوليتزر، أكبر الجوائز الأميركية. صدمت واضطربت وبكت، ورفضت فتح الباب لمصور "الاسوشيتيد برس" الذي جاء يلتقط صورة الكاتبة المغمورة. عندما خطبت الصحافي في "تايم" ألبرتو فورفولياس إثر الفوز، أحست انها تتجه الى ما هو أهم وأعمق في حياتها من الجوائز الأدبية. أطاعت الوجه الآسيوي فيها عندما تزوجت في الهند في عرس تقليدي مبهرج دامت احتفالاته أربعة أيام. إذ تتحدث عن غربتها تنتقي تعابير من أمومتها فتأتي بجديد غريب لا يقنع. "الغربة نوع من الحمل مدى الحياة! انها انتظار دائم، عبء مستمر، والاحساس انك لست على ما يرام طوال الوقت". قصة "القارة الثالثة والنهائية" في مجموعتها تبعث مسيرة والدها الطموح من الهند الى بريطانيا فأميركا حيث استقر ولم يسترح. يعود الى بلاده ليتزوج فتاة لا يعرفها جيداً ثم يتجه مجدداً الى أميركا التي منحته فرصة تحسين حياته من دون أن تنجح في جعله يحس أنها بيته الذي يعود اليه. زومبا انتقلت بعد بوليتزر الى شقة واسعة في منطقة يعيش فيها الكتاب، لكنها تكلم طفلها بالهندية في حين يخاطبه زوجها بالاسبانية. كأن بلاد الاغتراب مكان ملائم يتنبادل فيه الغريب والأصيل القول "لسنا منكم" و"لستم منا". كانت رسالة دائرتها الهندية الحافلة ب"العمات" و"الأعمام": "حذار أميركا. لن تندمجي". ولم تفعل، لكن انقسامها عاد عليها بوضع خاص ورابح. بعد زيارة الى كالكوتا في أول التسعينات قررت مصالحة ذاتيها بعدما أحست ان فصلهما يفقدها السيطرة على حياتها. ساعدتها الكتابة في فتح الأبواب المغلقة بين العالمين، والتصريح بها: "هذا ما أعرفه، هذه أنا". لم تسلك طريق الكتابة المحترفة وان كتبت وهي طالبة لتتسلى. درست الأدب الانكليزي والكتابة الابداعية، ونالت الدكتوراه في أدب النهضة وباتت حاضرة للتدريس. لكنها أدركت فجأة أنه لن يسعدها، وان الكتابة لم تكن لهواً بل مركز حياتها. تجنبت أولاً كل ما له علاقة بهنديتها والتقطت مشاهد من أميركا كل يوم، ثم واجهت حقيقتها وغرفت منها فنالت مجد بوليتزر. كانت أول فائزة من جنوب آسيا واحدى اصغر الكتّاب الذين حازوا عليها. بات لاسمها فجأة قيمة ووزن، وكان عليها أن تحارب الفيتو والتصنيف. ليست كاتبة أخرى جنوب آسيوية - غربية مثل سلمان رشدي وحنيف قريشي ومونيكا علي، بل كائن يلهمه اختلافه ويغنيه. براءة الكبار في موسم الأعياد عرض فيلم جديد ومسرحية أخرى عن بيتر بان، ويصور فيلم آخر عنه يلعب فيه جوني ديب دور الكاتب جيمس ماثيو باري. آخر هذه السنة يبلغ الولد الذي لا يكبر المئة من عمره، فمسرحية الكاتب السكوتلندي عرضت أول مرة في آخر 1904 في لندن، وان راجعها وطورها ونشرها للمرة الأولى في 1928. كان رقمه السابع بين ثمانية أولاد لعامل نسيج وانتهى باروناً حاز شهادات فخرية عدة. عرف الخسارة في السادسة عندما توفي شقيقه المفضل عند أمه وهو في الثانية عشرة، فصمم أن يعوض على أمه بالذهاب الى جامعة أدنبره والعمل صحافياً ثم كاتباً. نالت روايته "الكاهن الصغير" نجاحاً شعبياً وكذلك مسرحيتاه "كواليتي ستريت" و"كرايتون الرائع". في أواخر القرن التاسع عشر أسره ثلاثة أطفال أشقاء شاهدهم في حدائق كنزنغتون. كانوا أولاد المحامي آرثر لويلين ديفيس، فصادقهم وبدأ يروي لهم حكايات غريبة. عندما نام جورج وجاك اللذان كانا في الخامسة والرابعة، كان شقيقهما الطفل بيتر ينهض من عربته ويطير الى حدائق كنزنغتون ليجمع الأطفال الموتى الذين سقطوا من عرباتهم سهواً عن مربياتهم. انتقل بيتر بان من فم الكاتب الى الورق في 1902 في "الطير الأبيض الصغير" وكان طفلاً يطير بالأطفال الموتى الى جنة خاصة بهم. طور الشخصية وهو يحكي لأطفال المحامي وعندما توفي الأخير تكفل بهم مادياً ثم انتقلوا للعيش معه، وكان عددهم خمسة عندها، بعد طلاقه وموت أمهم بالسرطان. كان أكبرهم جورج تحول الى بيتر واعتاد باري أن يروي مغامراته بصيغة المخاطب: "ثم أتيت وقتلت القرصان"، وقبل الأولاد كل ما قاله الكاتب كأنه حقيقة. لكن جورج ملّ سماع القصص عندما كبر، وذهب الى الحرب في 1914 فصب باري اهتمامه على أشقائه. سرق التحليل النفسي البراءة في قصة ابن الثانية عشرة الذي لا يكبر، ورأى البعض باري محباً غير بريء للأطفال ووندي دارلينغ، صديقة بيتر، عاشقة لأبيها. كان الأب رجلاً ضعيفاً لكنها تتخيله شاباً جذاباً يقود الرجال ويثير الخوف في أعدائه. عندما يطير بيتر بان بها وشقيقيها الى جزيرة الأطفال نفرلاند تلعب دور الأم لهذين وكل الأطفال الضائعين فتلغي أمها في تصوير واضح لعقدة الكترا عند سيغموند فرويد. في "ج م باري والأطفال الضياع" لا يرى اندرو بركين جانباً جنسياً قاتماً لدى الكاتب بل آخر امومياً هاجسه الحماية والرعاية. كان بيتر بان شقيقه الذي توفي في الثانية عشرة فطار بسيفه وغليونه لاهياً الى الأبد، وفي الوقت نفسه كان كائناً روحياً ينقذ شقيقه المتوفى من القبر ويعتني به فيعيش صغيراً خالداً لا خطر عليه من النمو والموت. خرافة بيتر بان منحت الكاتب أغلى أمنيتين عنده: "انقاذ" شقيقه من الموت، وحياة مع أولاد لم يرزق بهم لا تنتهي عندما يبلغون أو يقتلون في الحرب. المفارقة ان جورج عاد من الحرب لكن شقيقه مايكل، المفضل عند باري، توفي غرقاً في البحيرة.