كانت الصحافة يوماً جريدة الصباح وراديو حكومياً، وهي اليوم 24 ساعة سبعة أيام في الأسبوع، مع 70 مليون بلوغ، أو مدونة، ولو عاشت جاكلين كنيدي حتى اليوم لوجدت ان ما شكت منه قبل 30 سنة او نحوها من انه لا توجد حرية من الصحافة هو أصدق اليوم بكثير من تلك الأيام. رئيس وزراء بريطانيا توني بلير شكا بدوره قبل أيام، وقال إن التعامل مع الميديا يستهلك جزءاً كبيراً من الوقت والجهد، وأحياناً يطغى على العمل الأصلي. وهو قال إن هذا لا ينطبق على عمل الحكومة فقط، وإنما على رجال الأعمال والعسكر والخدمات العامة، والكل يرفض التصريح بضيقه خوفاً من العواقب. بلير انتظر حتى قرب نهاية عمله رئيساً للوزراء وهاجم الصحافة البريطانية، ووصفها بأنها تعمل كوحش كاسر في صيد الأخبار، وتفضل الإثارة والفضيحة، ولا تهتم بما تلحق من أذى بضحاياها. خطاب بلير في وكالة رويترز يستحق دراسة أوسع، خصوصاً في كليات الصحافة، إلا ان المجال هنا يضيق، واختار من الخطاب انتقاد رئيس الوزراء الخلط بين الخبر والرأي. أي طالب صحافة يعرف ان هذا لا يجوز، فهناك مكان للخبر، ومكان للرأي، إلا ان بلير اختار مثلاً جريدة"الاندبندنت"الليبرالية، فهو قال ان الفكرة وراءها كانت الفصل بين الخبر والرأي، ولهذا كان اختيار اسمها يعني"المستقل"بالعربية غير انها تحولت إلى جريدة رأي لا خبر. الجريدة ردت في اليوم التالي بتعليق يغني عنوانه عن شرح، فقد كان:"هل كنت قلت هذا الكلام، يا مستر بلير، لو اننا أيدنا حربك على العراق؟". لا حاجة إلى جواب، فحزب العمال"الجديد"طوّع الصحافة واستخدمها للترويج لأجندته السياسية، وهو كافأ وعاقب، وأعطى وحرم، حتى كانت الحرب على العراق فبدأ الانفصال والخلاف. الإدارة الأميركية والحكومة البريطانية ارتكبتا معاً جريمة حرب في العراق، وفي حين ان دور جورج بوش أكبر لأن أميركا أكبر وأقوى، فإن بلير لعب دور المحرض والشريك، ولا يزال حتى اليوم يرفض الاعتذار، ويعترف ببعض الأخطاء مرغماً. الاعتذار لا يكفي، فهو لن يعمِّر العراق، ولن يعيد إلى الحياة مليون عراقي، ولن ينهي تشريد خمسة ملايين عراقي داخل بلادهم وخارجها. وبلير لم يعتذر أيضاً لهيئة الإذاعة البريطانية، فقد شنّت حكومته حملة شعواء على أعظم مؤسسة صحافية في العالم، بسبب ملف الاستخبارات عن الحرب، وانتهى تحقيق رسمي فاشل بتبرئة الحكومة، مع ان كل المعلومات اللاحقة أثبتت صحة موقف بي بي سي وخطأ الحكومة، حتى لا نقول كذبها المتعمد. والنتيجة ان رئيس بي بي سي ومديرها العام استقالا بدل ان يستقيل رئيس الوزراء. ونستطيع ان نقول واثقين اليوم ان زعم الحكومة البريطانية ان نظام صدام حسين يستطيع إطلاق صواريخ في 45 دقيقة كان كاذباً. ونسمع الآن طلبات في أميركا بعزل جورج بوش ومحاكمة ديك تشيني، إلا اننا لا نسمع أصواتاً مثلها في بريطانيا، مع ان بعض أسوأ المعلومات الكاذبة بدأ من لندن، والرئيس بوش الآن يحمل عبء 16 كلمة بالإنكليزية في خطابه عن حالة الاتحاد سنة 2003 عن محاولة العراق شراء يورانيوم من أفريقيا. غير ان الواقع ان الرئيس الأميركي كان ينقل عن تقارير الاستخبارات البريطانية عن الموضوع. كلهم مذنب، وذنب بلير أكبر لأنه ذكي بإجماع الآراء وحسن الإطلاع، في حين ان بوش أحمق لا يعرف ولا يريد ان يعرف أو لا يستطيع، لذلك فهو ينفذ سياسة متطرفة من صنع عصابة الحرب بقيادة نائبه تشيني، وهذا كله لا ينطبق على بلير وحكومته. رئيس الوزراء البريطاني هاجم الصحافة يوماً، وأنكر في اليوم التالي ان يكون الخلاف على العراق، أو أن تكون الحرب سبب تراجع شعبيته. ولم يبق صحافي أو سياسي في لندن إلا وقال ان بلير في حالة إنكار، وهو لا يزال يكابر، وسخر الجميع من زعمه ان الناس ملّوا شكله وصوته بعد فوزه بالانتخابات ثلاث مرات وبقائه في الحكم عشر سنوات. الحرب على العراق دمرت إرث بلير، وهو يعلم هذا، لذلك اخترع في السنة الأخيرة قضية له هي الوصول إلى حل للنزاع العربي ? الإسرائيلي، وعندما وجد القضية معقّدة، انتقل إلى مكافحة الفقر في أفريقيا، غير ان قمة الثماني زادت المساعدات قليلاً، ورفع بلير قضية حماية البيئة ومنع التلوث، إلا انه لم يحقق شيئاً يذكر بعد ان خذله حليفه بوش. بأبسط كلام ممكن أقول ان بلير فقد صدقيته، وهذه مثل شرف البنت وعود الكبريت إذا ذهبت لا تعود. وبدل ان يذكر التاريخ له حسن أداء الاقتصاد البريطاني والاتفاق لإنهاء الصراع في أيرلندا الشمالية، فإنه سيذكر جريمة الحرب على العراق لأسباب ملفقة بالكامل، وما جرَّت من ويلات. الصحافة البريطانية ليست منزهة، إلا انها تظل أفضل من حكومة بلير، فهي لم تقتل 151 جندياً بريطانياً في أفغانستانوالعراق، وإنما عارضت إرسالهم إلى البلدين، ولو ان بلير عمل برأيها لكانوا أحياء اليوم. غير ان بلير هاجم رأي الصحف البريطانية لأنه يخالف رأيه، وسيكون الحكم في النهاية للمواطنين القرّاء، فجريدة"الاندبندنت"استغلّت هجومه عليها في دعاية لها على الراديو وطلبت من القرّاء ان يقفوا حكماً بينها وبين رئيس الوزراء. وسنعرف الحكم بعد نهاية الشهر عندما تصدر الأرقام لمبيعات الصحف، فهي تهبط باستمرار، غير ان توني بلير قد يكون أفادها بجعل القرّاء يلتفون حولها، بعد ان انفضّوا عنه.