انا عائد من زيارة عمل الى العاصمتين البريطانية والألمانية وقد سيطر عليَّ طوال الأيام التي قضيتها في أوروبا سؤال يطرح نفسه بالحاح: لماذا هم متقدمون ونحن متراجعون؟ لماذا هم جادون ونحن في غالب الأحيان هازلون؟ لماذا هم يعيشون الحياة كما ينبغي ونحن مستغرقون في الدوران حول الحياة ولا نعيشها كما يجب أن تكون؟ لقد هبطت العاصمة البريطانية التي عشت فيها سنوات عدة قبل قرابة أربعين عاماً كانت فيها بريطانيا تعتبر نفسها الجزيرة ذات الخصوصية وكانت إشارة أهلها إلى بلدهم دائماً تقول"نحن والقارة"في تعبير عن العلاقات البريطانية الأوروبية، كما شاهدت في تلك السنوات ذلك الجدل الحاد بين الحزبين الرئيسيين المحافظين والعمال حول الانضمام وقتها الى السوق الأوروبية المشتركة إلى أن حسم المواطن البريطاني ذلك الجدل في مطلع السبعينات وانضمت الجزيرة التي حكمت أجزاء ضخمة من العالم عبر سنوات الظاهرة الاستعمارية والاكتشافات الجغرافية، انضمت إلى السوق الأوروبية المشتركة التي أصبحت"الاتحاد الأوروبي"في ما بعد. ولفت نظري كثيراً هذه المرة - ورغم ترددي المنتظم على مدينة لندن - أن الحياة في تلك العاصمة الكبرى بدت لي أكثر أوروبية من قبل وأكثر"أمركة"عما عرفتها منذ سنوات بعيدة. كما أن الثورة التكنولوجية خصوصاً في عالم الاتصالات أضحت مسيطرة إلى حد كبير، وتلك هي سمة العصر وكل من فاته قطار تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أصبح غريباً عن هذا العالم وضيفاً - غير مرغوب فيه - على عالم اليوم. وأنا واثق أنه خلال سنوات قليلة سوف تكون التجارة الالكترونية هي السائدة بل ربما يعمل الناس جميعاً من منازلهم عبر قنوات الاتصال المفتوحة ومصادر المعلومات الهائلة وإمكانات التقنية الحديثة التي تسببت في انقلاب حقيقي في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية كافة. ولا يبدو الأمر في ألمانيا مختلفاً عن بريطانيا، وهنا أطلب من القارئ أن يلاحظ أننا نتحدث عن دول أوروبية ولا نتحدث عن الولاياتالمتحدة الأميركية التي تسبق أوروبا - في ظني - بعشرات السنين. وهنا نعود إلى عالمنا العربي وما نطلق عليه بحق مأساة البحث العلمي فيه رغم كثرة ما لديه من ثروات طبيعية سخية وموارد مالية واسعة بل طاقات بشرية متنوعة، ولذلك فإننا نرصد جوانب المشكلة من خلال النقاط التالية: أولاً: إن النظام التعليمي في العالم العربي يتحمل المسؤولية الأولى عن تخلف البحث العلمي لدينا، فالتعليم هو الذي يقدم الخامات المطلوبة على المستوى البشري من أجل ظهور مراكز تميز علمية Centres of Excellence طالبنا بها كثيراً ولم نجد لذلك استجابة تتفق مع أهميتها وضرورة وجودها. ولابد أن نعترف هنا أن التعليم هو حارس بوابة المستقبل وهو - من دون غيره - الذي يشكل معيار التقدم ويحمي من إعادة انتاج التخلف، ولا يقف الأمر عند التعليم بمعناه الدراسي أو مفهومه البحثي، ولكن هناك نقطة مهمة وغائبة عن العقل العربي وهي المتصلة بعمليتي التدريب والتأهيل اللتين تفتقدهما إلى حد كبير في معظم الدول العربية، إذ توجد جيوش العاطلين من حملة المؤهلات العلمية من دون أن يكونوا مؤهلين لعمل معين أو مدربين على مهارات مطلوبة. ثانياً: إن الانقلاب الضخم الذي أشرنا إليه تحت مسمى ثورة تكنولوجيا المعلومات امتد إلى جوانب الحياة كافة، بل إن التدين أيضاً أصابه من الحب جانب، فأصبحنا نسمع عن"المصحف الالكتروني"والمسابح الرقمية وساعات جديدة تغزو الأسواق فيها تسجيل لمواعيد الشعائر الدينية، بل إنني شاهدت أيضاً في احدى الكنائس التاريخية في أوروبا بوابات الكترونية للدخول تحصي وترصد وتصور، فأين نحن هنا في العالم العربي من كل ذلك؟ إننا فرحون فقط بمئات الألوف ممن يحملون درجات علمية عليا ولكنهم في الحقيقة لا يقدمون شيئاَ ملموساً لأوطانهم فقد أصبحت الدرجة العلمية هي مظهر للوجاهة الاجتماعية ومسوغاً لدخول الحياة الزوجية بشكل مقبول! ثالثاً: إذا كنا نرى أن التعليم سبب لضعف البحث العلمي فإن البطالة تبدو هي الأخرى نتيجة طبيعية لذلك، إذ أن نظامنا التعليمي العقيم الذي لا يزال معظمه قائماً على الأساليب التقليدية يتحمل درجة كبيرة مما نحن فيه الآن. فالعالم المتقدم توقف تقريباً عن عملية حشو المعلومات وأصبح مهتماً بعلوم تنمية الذكاء وجدولة العقل ومناهج البحث العلمي، ففي بلد مثل مصر نرى الملايين من حملة المؤهلات العليا ولكنهم يحتاجون رغم ذلك إلى عملية إعادة تأهيل وفقاً لاحتياجات سوق العمل، إذ لا يمكن أن نتصور أن"العرض"لم يتغير نوعياً منذ ستينات القرن الماضي، بينما"الطلب"تغير تماماً وفقاً لمستحدثات العصر والطفرة الهائلة في التطور التكنولوجي خلال العقود الأخيرة. رابعاً: إن نقص الخبرات الإدارية والتنظيمية في العملية التعليمية انعكس سلباً على توافق عناصرها مع روح العصر، ولاحظت أن معظم الأبحاث الخاصة بتطوير التعليم في الدول العربية يهتم بالشكل من دون المضمون، كما أنها ما زالت حبيسة أطر جامدة لا تتجاوزها والعالم يجري حولها ويظل سابقاً لها لأن التعليم في النهاية ليس فقط هو الأبنية الشامخة أو القاعات الرخامية ولكنه شيء آخر يغرس"قيمة التعلم"لدى الأجيال الجديدة ويعطيها مفاتيح المعرفة ويضعها على بداية الطريق الصحيح نحو المستقبل بكل تحدياته المعقدة وروح التنافس الشديدة التي تحيط به من كل اتجاه ونحن ننبه هنا إلى أن الإدارة علم له أصوله وتطبيقاته وليس مجرد خبرة زمنية رتيبة، ولعل ذلك ينطبق أكثر ما ينطبق على حقل التعليم. خامساً: هل يتذكر القارئ ذلك الصخب العالي الذي صاحب حصول عالم مصري يعيش في الولاياتالمتحدة الأميركية على جائزة"نوبل"في الكيمياء وما أدى إليه ذلك من تفريغ الحدث من محتواه، فبدلاً من أن يكون حصول العالم الكبير على هذه المكانة الدولية الرفيعة دافعاً نحو الخروج من المحنة انصرف رد الفعل إلى لقاءات وحوارات وندوات تصاحبها استقبالات احتفالية للعالم الزائر في عدد من العواصم العربية، ولم يفكر العرب ولا الدوائر المعنية لديهم في أن يكون حصول عالم عربي فذ على جائزة"نوبل"في مجال العلوم بمثابة نقطة انطلاق للبحث العلمي العربي عن طريق حشد الموارد المادية وتأهيل القاعدة العلمية تحت مظلة ذلك الحدث الكبير لنصنع إنجازاً في مجال البحث العلمي. وأعود فأؤكد هنا أن القضية ليست قضية إمكانات مادية فلقد شرح لي العالم الكبير ولغيري - وهو بالمناسبة صديق عمر وزميل دراسة - أن كثيراً من التعديلات العلمية والاختراعات الحديثة يتم بواسطة شباب العلماء في أماكنهم من خلال تغيير معادلة رياضية أو تطوير جهاز قائم، فالعلم يرتبط بالعقل وليس شرطاً أن يكون ابناً للثروة وحدها، رغم أننا لا ننكر أهمية وجود أرصدة مادية في خدمة البحث العلمي على نطاق كبير. وأود أن أؤكد هنا أن نموذج العالم المفكر الذي يجمع بين حداثة العلم وأصالة الفكر هو النموذج المطلوب من أجل تحريك المياه الراكدة في عالمنا العربي، وأظن أن أحمد زويل وغيره من عشرات النماذج الموجودة في كل الدول العربية تقريباً ومن الجنسيات العربية كافة كفيلون إذا صدقت الإرادة السياسية وخلصت النيات القومية بتحقيق إنجازات باهرة نواجه بها مأساة البحث العلمي في العالم العربي. سادساً: هل يتذكر القارئ مرة أخرى ذلك الضجيج الذي صاحب الإعلانات المنفردة من العواصم العربية حول البرامج المزمعة للاستخدام السلمي للطاقة النووية وكيف أن الصوت علا كثيراً وشد الجماهير العربية وأيقظ لديها إحساساً بالزهو المنتظر والكبرياء المنشود ثم خفتت الأصوات وهدأت العواصم لأن الإرادة السياسية معطلة والقرار - مع الأسف - ليس عربياً خالصاً؟ وأتساءل هنا أين نحن من دولة مثل الهند أو باكستان وهما دولتان أشد فقراً وأقل إمكانات؟ ولأكتفي بالهند مثالاً لأنني عشت فيها سنوات أربع قبل عقود عدة فقد أصبحت الآن دولة صناعية كبرى ودولة فضاء ودولة اكتفاء ذاتي في الحبوب الغذائية فضلاً عن أنها دولة نووية مؤثرة في عالم اليوم. إنها الهند نفسها التي كان لها مشروع مشترك مع مصر لانتاج طائرة يتم تصنيع"المحرك"الخاص بها في القاهرة وجسم الطائرة في نيودلهي! لقد كان ذلك أثناء تلك الأيام الخوالي من عصر عبد الناصر ونهرو في ستينات القرن الماضي، ونسأل أنفسنا الآن أين هم وأين نحن؟ إن الفارق يكمن في الإرادة السياسية الواعية والتخطيط القومي السليم وإعطاء الهند أولوية للبحث العلمي داخل شبه القارة وخارجها. سابعاً: إن حجم الانفاق العربي على البحث العلمي يمثل نسبة ضئيلة من الدخل القومي العربي الإجمالي خصوصاً في الدول العربية ذات الدخول المرتفعة، وذلك مؤشر خطير لو قارناه بنسبة ما تنفقه إسرائيل في المجال نفسه، كما أن المنشور من الأبحاث العلمية لعلماء ومفكرين عرب في المجلات العلمية الدولية ذات القيمة والمكانة يبدو محدوداً للغاية وعدد الكتب العربية المنشورة سنوياً منخفض أيضاً فضلاً عن أن ما يترجم منها إلى لغات أخرى يبدو هو الآخر محدوداً تماماً، وإزاء ذلك كله لا بد أن نعترف بأننا في حاجة إلى صحوة علمية تأخذ بيدنا إلى الأمام لمواكبة روح العصر بدلاً من أن نكون عالة عليه نستهلك ولا ننتج، نكتب ولا نقرأ! إن خلاصة ما أريد أن أصل إليه من استعراض النقاط السبع السابقة هي أن أدق ناقوس الخطر وألفت النظر إلى محنة البحث العلمي المرتبطة بتدهور التعليم العربي وتأثير ذلك على مشكلاتنا الداخلية وصورتنا الخارجية، وليتذكر الجميع أن ألمانيا خرجت من الحرب مقهورة وممزقة ومنقسمة ولكنها الآن أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، كما أن بريطانيا حافظت على تقاليدها التاريخية مع انطلاقة واسعة نحو المستقبل في الوقت ذاته، أما فرنسا فقد تمكنت من إحداث توازن ملموس بين العلم والفكر تخدمه قاعدة نظرية قوية مستمدة من الثقافة اللاتينية وروافدها المتعددة. أما الولاياتالمتحدة الأميركية فقطعت أشواطاً هائلة في التفوق العلمي والتقدم الصناعي والازدهار الاقتصادي ولكنها لا تزال مكبلة بقيود وأفكار تضع حدوداً فاصلة لديها بين التقدم التكنولوجي الهائل والأصالة الحضارية المفقودة لأن الجانب الفكري لم يتقدم في العالم الجديد بالخطوات نفسها التي تقدم بها البحث العلمي، وتلك قضية أخرى ليس هذا مجال الخوض فيها. ولكن الأمر الذي لا خلاف عليه هو أن عالمنا العربي يعاني بشكل ملحوظ من غياب الإرادة السياسية الداعمة لمشروع بحثي علمي كبير يفتح الآفاق أمامنا للخروج من محنة التخلف والفكاك من أسر التبعية. نقول ذلك ونحن نعلم أن ما ننادي به لا يبتعد أبداً عن أوضاعنا السياسية الراهنة وآمالنا القومية القائمة وصراعاتنا الخارجية الباقية! * كاتب مصري.