ينبغي ألا يخيفنا النهج التساؤلي "الديكارتي" في شأن البحث في أبعاد "الهوية" العربية، فنحن لو استبعدنا التعبيرات الوجدانية والايديولوجية في شأن الهوية - كالقومية العربية والوحدة العربية وما إليهما - فإننا علمياً وموضوعياً وتاريخياً نبقى أمام "ظاهرة عربية" حية لا يستطيع أن ينكرها أحد. ظاهرة عربية بشرية وجغرافية تنطق بلغة واحدة، وبالتالي ذات ثقافة مشتركة، لم تستطع أشد عصور التسلط في الحقب المملوكية والعثمانية، أن تقضي عليها، على رغم سيادة اللغة التركية والثقافة التركية وانجذاب النخب الارستقراطية "العربية" اليها طوال زمن غير قصير، كما أسهم استعمار شمولي كالاستعمار الفرنسي في الجزائر في محاربتها بقوة السلاح، فلم يتمكن من اجتثاث جذورها. واللغة الواحدة ليست مجرد لغة. إنها ثقافة وفكر ووجدان. بل يرى كثير من علماء اللسانيات أن اللغة تمثل تصوراً للوجود وللعالم. وقد أصبحت اللغة في عصر العولمة والتكتلات الكبرى رصيداً اقتصادياً هائلاً إن لم توجد فلا بد من ايجادها كوسيلة اتصال موحد. وينفق الأوروبيون اليوم مبالغ طائلة على الترجمة الفورية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي وعلى رأسها شركاتهم التجارية ومؤسساتهم الاقتصادية لتجاوز تعدديتهم اللغوية. ويتمنى بعضهم لو حافظت أوروبا على لغتها اللاتينية القديمة الموحدة، إذاً لأصبحت أقوى مدماك للوحدة الأوروبية في عصرنا. والذين يتمنون للعربية مصير اللغة اللاتينية عليهم أن يتأملوا جيداً التجربة الأوربية في وحدة اللغة وتعدديتها بين الأمس واليوم. وفي تقديرنا فإن اللغة العربية - مدعومة برصيدها القرآني من ناحية، وبإخلاص الناطقين بها سواء كانوا مسلمين، أو مسيحيين - ولعلماء المسيحيين العرب جهد لا ينكر في أحيائها، بل انه جهد ريادي يذكر فيشكر - نقول ان العربية بهذا الرصيد ستبقى وستتطور نحو المزيد من التبسيط والانتشار، ولنا رأي طرحناه في مجال آخر، وهو أننا نشهد في المرحلة الراهنة ولادة محكية عربية مشتركة، بفعل التفاعل الجاري بين العرب بمختلف لهجاتهم عبر الفضائيات والمعاملات الاقتصادية وغيرها، وانتقال العمالة العربية الوافدة، والمسلسلات التلفزيونية التي تجذب جمهوراً عربياً واسعاً في مختلف الأقطار العربية، أياً كانت لهجة الحوار فيها، إضافة الى انتشار التعليم باللغة العربية الفصحى أياً كان مستواه، حيث يمر العرب اليوم بمصهر لغوي تتشكل من خلاله هذه المحكية العربية الواحدة المتولدة من مختلف اللهجات المحلية في الوطن العربي بأصولها الفصيحة وبخاصة ما اشتهر منها منذ مراحل سابقة كاللهجات المصرية واللبنانية، إضافة الى الاستقاء من الفصحى مباشرة في تخليق هذه المحكية العربية الجديدة التي نعتقد بأنها ستكون اللهجة المحكية الموحدة الشائعة في الحياة العربية المقبلة، وذلك بما يؤدي الى تقليص الفروق بين اللهجات المحلية القديمة وتخفيف ضغطها على العربية الفصحى التي ستكون المحكية الجديدة الموحدة أقرب إليها، مفردات وتراكيب، وأقوى دافع لساني حي ومُعاش لتطورها، وعلى باحثينا اللغويين وعلماء اللسانيات التأمل في هذا المؤشر اللغوي الجديد - ميدانياً - في حياة العرب المعاصرين، فسيكون له شأن جدير بالرصد والمتابعة. وعلى ما يتخوف منه الغيورون على مستقبل اللغة العربية - كما فعل الدكتور أحمد الضبيب في بحثه القيم اللغة العربية في عصر العولمة، مكتبة العبيكان، الرياض، سنة 2001 - من كثرة دخول المفردات الأجنبية، وانخفاض المستوى اللغوي للناشئة العرب في المدارس والجامعات، وتعدد المصطلحات المترجمة والمستخدمة بين بلد عربي وآخر، بل تضاربها... على رغم هذا كله، ومن دون تقليل من خطره، فإنا نعتقد ان "المقاومة" اللغوية العربية - ونعتقد أنها أخطر من أية مقاومة مسلحة!! - هي التي ستتغلب مستقبلاً على ما يواجهها من تحديات و"احتلالات" أو بالأحرى اختلالات لسانية. فتلك "هوية" لغوية جديدة وموحدة تتولد للعرب قريباً من لغتهم الفصحى في غمرة تفاعلهم الذي يفرضه عليهم العصر، وهو ما يوجب عليهم استكشافه وتجاوز "المُسلمات" الشائعة التي عفا عليها الزمن، كالمسارعة الى "هجاء" اللغة المحكية التي هي تعبير الملايين عن أنفسهم، خصوصاً اذا كانت تقترب من الموروث اللغوي المشترك، أي الفصحى، التي ستبقى لغة الكتابة العلمية والفلسفية أو بتعبير آخر "اللغة العالمة". *** واللغة في تحولاتها الجديدة ليست العامل الوحيد في إعادة تشكيل "الهوية" العربية المستقبلية. ان هذا الفضاء الجغرافي المتصل من المحيط الى الخليج والذي يجمع بين العرب أرضاً وبحراً وسماء يمثل سوقاً اقتصادية تنادي العرب وتستصرخهم في عصر العولمة غصباً عنهم، وعلى رغم أنوفهم وصغائرهم وحزازاتها، بل على رغم حدودهم وجماركهم وأجهزتهم الاستخبارية، وزعاماتهم وكياناتهم المتقزمة...! وإذ كان البعض قد وصل الى طور "العربي الكاره لنفسيه" وتعب ويئس من العروبة السياسية والايديولوجية، فلا مفر له من العروبة الاقتصادية... هنا "مربط الفرس" للفكر القومي المتجدد اذا أراد أن يبقى قومياً ويصبح متجدداً. يكتب د. جورج قرم، وهو أكاديمي متمرس وخبير اقتصادي من لبنان: ".... الغريب في أمرنا... اننا لم نفكر يوماً في ضرورة تطوير وتطبيق ما يسمى بالقومية الاقتصادية، كما فعلت ذلك كل من اليابان والصين والهند ودول شرق آسيا. فقد ضاعت قدراتنا الفكرية واستنزفت في تأكيد شتى أنواع القومية السياسية وتأكيد الهوية الدينية أو العرقية أو الثقافية... حين لم نتطرق الى فتح آفاق القومية وتأكيد الهوية عبر العمل المثابر والمتواصل في المجال الاقتصادي والعلمي والتكنولوجي". وعلى أهمية البناء الاقتصادي المشترك، فإنه ليس مقصوداً في حد ذاته. فهو كما يقرر جورج قرم: "الركيزة الأساسية للوصول الى الثقة بالنفس، وبالتالي الثقة بالهوية الجماعية". مجلة العربي، عدد آب/ أغسطس 2003، ص 24 -29. هكذا فلا مفر للعروبة، في هذا العصر، من بعدها الاقتصادي، إذا أرادت البقاء، وتمردت على سجنها القديم القائل الشعر ديوان العرب!. وقد يبدو غريباً طرح موضوع الشعر في هذا السياق. لكن الشعر ظل ولا يزال "الهوية" الغالبة للعرب تفكيراً وشعوراً وسلوكاً. وبلا ريب فالشعر جميل، ومريح، ومسكّن.. لكنه لم يعد ديوان العالم ولا ديوان العصر اذا تواضع العرب وقبلوا دخول هذا الديوان العالمي! العالم الحديث دخل عصر النثر منذ دخل عصر العقل، كما أعلن هيغل قبل أزمان، ومنذ بدأت أوروبا تشكيل العصور الحديثة لنفسها وللعالم. والاقتصاد حليف العقل ورديف النثر، ومن أراد التعامل معه شعراً فالافضل أن يتركه لغيره! وأكبر إعاقات الخطاب العربي السائد أنه خطاب شعري في المضمون واللغة، أي في المعنى والمبنى على السواء حتى ولو اتخذ صيغة النثر. والتعامل مع واقع العالم شعراً يلخص كوارث العرب السياسية والقومية من فلسطين الى العراق: لا مراعاة للحقائق والوقائع والعوامل الموضوعية فأعذب الشعر أكذبه!... والأنا الجمعية المضطربة والمجروحة، تغالط نفسها وواقعها وحاجتها للتشخيص والعلاج، بالمكابرة والانكار والرفض من أجل الرفض، والعناد الذي لا يؤدي الا الى تنفيس موهوم ومضلل شعراً بالمعنى الذي أشرنا اليه، من دون البحث العلمي اللازم عن وسائل البقاء والتقدم والصمود، ان معظم المحاورات "الفكرية" في المنابر العربية الى يومنا هي صرخات واندفاعات شعرية لتأكيد الذات كلاماً ضد تحديات الواقع. وربما كان عبدالله القصيمي مبالغاً في كتابه العرب ظاهرة صوتية لكنه ان قصد العرب المعاصرين تحديداً فربما كان أقرب الى الموضوعية. وكان من رحمة الله به أن اختاره الى جواره قبل أن يشهد "صراع الديكة" في بعض الفضائيات العربية! فالكلام يخلق الواقع، وليس العكس كما هو عليه منطق الأشياء، ومنطق العالم، ومنطق الأمم المؤثرة في هذا العالم. لا نستطيع الإنكار ان مقولة الشعر ديوان العرب تدخل في تشكيل معطيات "الهوية" العربية المتوارثة... ولكن هل ذلك ما ينبغي أن نحافظ عليه من معطيات "الهوية"؟؟ هذا موقف ليس ضد الشعر والشعور، لكنه ضد انعدام الشعور بحقيقة العالم! وهي مجرد "نماذج" من البنى الذهنية الفوقية التي تمثل بعض العناصر المؤثرة والمقيمة حتى الآن في "الهوية العربية"، بما يكاد أن يندرج في توابيت التاريخ المنقضي! * مفكر وأكاديمي من البحرين[email protected]. والبحث في الأصل بتكليف من "شؤون عربية" الصادرة عن جامعة الدول العربية، وينشر بالتزامن مع أحدث إصداراتها - خريف 2003.