لا أنكر أنني فوجئت في أمسية الافتتاح للمهرجان العالمي التاسع للشعراء في الضاحية الباريسية فال دو مارن من 23/5 الى 3/6/2007، وكنت مدعواً اليه وواحداً من الشعراء الأربعة المختارين لاحياء هذه الأمسية وهم: كارليتو آزيفادو من البرازيل، وجون كيلي من انكلترا، وسيرج بي من فرنسا، وأنا. أما المفاجأة فكانت في ما سمعت وشاهدت من زملائي على رغم أنني قارئ مدمن لتجارب الحداثة وأخبارها، الا أن حضور التجربة شخصياً مختلف بالتأكيد كثيراً عن مطالعة ما يكتب عنها. كانت الصالة عامرة بالحاضرين من مختلف الاعمار ومعظمهم من الفرنسيين ذوي المستوى الثقافي الرفيع كما لاحظت من حديثي مع كثير منهم اضافة لبعض العرب، والايرانيين، والأفارقة وغيرهم. كانت الصالة تواجه منصة مرتفعة بضع درجات، خلفها شاشة عرض بيضاء تملأ صدر المكان. وقد أطفئت بعض الأضواء فسادت عتمة خفيفة كان يبدو فيها منظر طاولة يجلس وراءها الشاعر البرازيلي وأمامه كومبيوتر محمول مفتوح، وفي يده ميكروفون. في هذا الجو أعلن مقدم الامسية الشاعر الفرنسي المعروف"جان بيير بالب"عن بدايتها، فماذا حدث؟ ظهرت على الشاشة مجموعة من الصور السينمائية المتلاصقة في مربعات متجاورة كانت تتغير باستمرار وسرعة في كل منها عرض لمنظر مختلف بين جانب من وجه امرأة في حالة انتشاء الحب مثلاً، أو منظر ساقين عاريين متراكبين، أو شجرة منقصفة على الارض، أو تلويحة فستان منشور.. وهكذا.. بمرافقة موسيقى لآلات منفردة مصحوبة بصوت نسائي يقرأ شعره - كما هو مفترض - بالبرتغالية غير المترجمة وكان الشاعر الرابض في الظلام يتدخل من حين لآخر بأن يهمس بالفرنسية أو لغته الأم بصوت أجش بضع كلمات أو جمل قصيرة بمعنى"الحب"أو"الحرية"أو"الغضب"الخ... واستمر المعرض أكثر من نصف ساعة وحين فهمنا أنه انتهى صفق له الجمهور بكثير من التهذيب - حتى لا نقول بكثير من الحماسة - وهذا ملحوظ عند الجمهور الفرنسي وإن لم يكن راضياً كل الرضا عما يشاهد ويسمع. وبعده قُدم الشاعر الانكليزي، فرأيناه واقفاً الى جوار الطاولة نفسها في العتمة ذاتها، أمامه الحاسوب المحمول المفتوح. وهكذا رأينا مرة أخرى عرضاً مصوّراً ولكنه يختلف من حيث انه كان يخلو من صور الأشخاص أو الطبيعة أو الأشياء عامة، مكتفياً بعرض نماذج من الحروف الابجدية - ضخمة أو صغيرة - المتداخلة من اللاتينية - الصينية خاصة مصحوبة بأصوات صارخة أو هامسة تعبر عن تشابه معين أو تداخل بين اللغات من دون أن يتدخل الشاعر بكلمة واحدة. وانتهى العرض بعد نصف ساعة، وصفق الجمهور المهذب كعادته بكل تهذيب ومن دون حماسة تذكر. وصعد بعده الشاعر الفرنسي يحمل في يد سطلاً، وفي اليد الأخرى ملفاً من الأوراق الكبيرة مع بعض العلب المعدنية الصغيرة التي نشرها على أرض المنصة متجاورة في خط مستقيم والى جوار كل منها ورقة مما يحمل، ثم نهض واقفاً، وفصل الميكروفون عن قاعدته حاملاً إياه وشرع يقرأ قصائده القصيرة من دون توقف وهو يتمايل بحركة منتظمة بين الانحناء والانتصاب قارعاً بحذائه الأيمن الأرض مع كل حركة، ثم توقف بعد فترة فركع على الأرض وراح يقرأ من الأوراق الموضوعة قرب العلب المفتوحة التي كان يصدر منها أصوات عصافير آلية تزقزق. وبعد ان انتهى من استعراض أوراقه أخذ السطل جانباً ومد يده الى داخله ورفع قطعة من الاسفنج عالياً راح يعصر منها الماء بتأنّ حتى القطرة الأخيرة، ثم نهض منحنياً للجمهور معلناً اختتام مشهديته.. وصفق له الجمهور هذه المرة بحماسة واضحة لم تظهر مع الزميلين السابقين. جاء دوري أخيراً، فطلبت من المقدم أن يقرأ قبلي الترجمة الفرنسية، وهكذا قرأ قصيدتي الأولى التي تحمل هذا العنوان:"Le silence"- الصمت"وتركت لنفسي بعده مباشرة حرية التصرف وكأنني ألقي أمام جمهور عربي مما ترك انطباعاً حسناً لدى المستمعين - كما لاحظت في ما بعد من خلال حديثي معهم - ثم ألقى قصيدتي الثانية"Quelque chose propre a l"ame"أو"شيء يخص الروح"وألقيتها بعده بالروح ذاتها، وقوبلت بعد انتهائي بتصفيق أحسست انه ليس صادراً عن مجاملة التهذيب وإنما عن شعور حقيقي بالتجاوب بين الشاعر وجمهوره الغريب عن لغته. مهما كان الأمر فلقد لاحظت من إقبال الحاضرين عليّ بعد انتهاء الأمسية وبخاصة من الفرنسيين انفسهم ومن الصحافيين الأجانب الموجودين ان دوري لم يكن نشازاً على الأمسية بل لعله كان مطلوباً في غمرة ما شاهده الحاضرون من اختراعات عجيبة في تقمص لبوس الشعر. ليست هذه الخاطرة الا لتقديم وصف خارجي لما حدث في تلك الأمسية وفي غيرها من مفاجآت، إلا أن الشعراء العرب الذين شاركوا: لقمان ديركي بحيوية ما تلهمه حياته اليومية، وعائشة أرناؤوط بعمق انفاسها العاطفية والفكرية ومرام مصري بأنوثتها الصارخة اللطيفة وعباس بيضون بتدفق مخيلته ولغته الطازجة دائماً وسميا السوسي - الفلسطينية من غزة التي وصلت متأخرة ? بأناقة أسلوبها وطرافة صورها استطاع كل هؤلاء أن يثبتوا في اعتقادي أن الجمهور الأوروبي لا يزال يميل الى الطريقة المعتادة في الالقاء من دون مبالغات مصطنعة، أما مناقشة تدخل التكنولوجيا في عملية الابداع الشعري وطقوس القائه فهي قضية تحتاج الى بحث خاص عساني أقدمه في مقالة مقبلة قريبة.