من السهل جداً القاء اللوم، في وصول الاحوال في قطاع غزة الى هذا الدرك الدموي الوحشي المدمر، على الولاياتالمتحدة واسرائيل والاتحاد الاوروبي الذي سايرهما في فرض العقوبات على الشعب الفلسطيني وسد الآفاق امام تسوية سياسية تبدأ بقبول هذه الاطراف بمحاورة حكومة "حماس" المنتخبة. وبالفعل لا بد من ادانة هذه الاطراف والقاء جزء كبير من كارثة غزة عليها كونها رفضت عملياً القبول بنتائج انتخابات فلسطينية ديموقراطية وفضلت دق الاسافين بين حركة "فتح" التي ينتمي اليها ويقودها رئيس السلطة المنتخب ديموقراطياً وشرعياً محمود عباس وحركة "حماس" الفائزة لكن المنبوذة من جانب اسرائيل والرباعية الدولية الى ان تعترف بحق اسرائيل في الوجود وبالاتفاقات السابقة معها وتنبذ العنف. وكان رد"حماس"على هذه المطالب - الشروط وما زال رداً صائباً ومنطقياً اذ ان اسرائيل، قوة الاحتلال المستمر منذ 40 عاماً في حساب المجتمع الدولي عموماً ومنذ 1948 في حسابات"حماس"واطراف فلسطينية اخرى، هي التي ينبغي ان تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، خصوصاً حقه في التحرر من الاحتلال واقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس وحق لاجئيه في العودة الى ديارهم. ولكن بعد انتخابات الرئاسة الفلسطينية في كانون الاول ديسمبر 2005 والانتخابات التشريعية التي قررت"حماس"فجأة خوضها في كانون الثاني يناير 2006 دب الصراع على السلطة بين"شرعيتين"وبين حركتين لهما برنامجان سياسيان بدا من الصعب التوفيق بينهما. وقبل ذلك، عندما اعلن رئيس الحكومة الاسرائيلية السابق ارييل شارون نيته سحب جيش الاحتلال الاسرائيلي من قطاع غزة فعل ذلك احادياً في ايلول سبتمبر 2005 كمسألة امر واقع. وعلى رغم الانسحاب وهدم المستوطنات اليهودية في القطاع فإن اسرائيل تتحمل قانونياً الى الآن مسؤوليات دولة الاحتلال في ما يتصل بقطاع غزة الذي ما زالت تحاصره وتتحكم في معابر الدخول اليه والخروج منه جواً وبحراً وبراً. صحيح ان اعمال المقاومة في قطاع غزة فرضت عبئاً على اسرائيل وجيشها وكان هذا ابرز دوافع الانسحاب الاسرائيلي، ولكن شارون اعلن سبباً آخر بقحة وعنصرية هو خوفه من الغلبة الديموغرافية للفلسطينيين على اي تهويد محتمل مهما كانت كثافته. وقد رأى شارون ان يقلل خسائره في غزة ويعزز"مكاسبه"في الضفة الغربية بتركيز الجهود على نهب اراضيها وتكثيف الاستيطان وتوطيد الاحتلال فيها. ومنذ ذلك الحين، وكما اكد مبعوث الاممالمتحدة لعملية السلام في المنطقة الفارو دي سوتو في تقرير سري كتبه قبل تقاعده الشهر الماضي، ألحقت المقاطعة الواسعة ضد حكومة"حماس"اضراراً بالغة بالشعب الفلسطيني وفرضت اسرائيل شروطاً للتفاوض مع الفلسطينيين لا يمكن تحقيقها وتحولت اللجنة الرباعية الدولية، كما يقول،"من هيئة للتفاوض وفقاً لخريطة الطريق الى منظمة تعمل على فرض عقوبات على حكومة منتخبة بطريقة حرة من جانب شعب يخضع للاحتلال". لكن الآن وقد سيطرت حركة"حماس"عسكرياً على قطاع غزة، ماذا ستفعل الحركة بعد ان باتت حكومة الوحدة الوطنية اطاراً خاوياً لا معنى له دمره الاقتتال الجنوني؟ ان خيارات الرئيس عباس محدودة بعدما عمد الجناح المتشدد في"حماس"الى الاستيلاء على السلطة بالقوة اذ لم يعد امامه خيار سوى اقالة حكومة الوحدة وعدم الاعتراف بحكومة"حمساوية"خالصة. وباتت خيارات حركة"حماس"محدودة ايضاً في سجن غزة الكبير حيث تعاني غالبية الناس الفقر والفاقة وحيث صار طموح الآلاف منهم الرحيل عن جحيم الاقتتال والبؤس. وسيسأل الفلسطينيون"حماس"قريباً عن"فتوحاتها"المقبلة بعد"فتوحاتها"داخل القطاع باقتحام مقار الاجهزة الامنية. سيكون مخزياً ان يتجسد طموح"حماس"في دويلة هزيلة يرجح ان تبقى مهملة. ولكن ثمة فرصة اخيرة تشكل بديلاً للجنون الحالي هي العودة الراشدة الى برنامج وطني مشترك يعطي الفلسطينيين صوتاً موحداً امام العالم ويقنع المجتمع الدولي بأن الشعب الفلسطيني جدير بالاحترام والتمتع بالاستقلال. فهل هذا مستحيل؟