يواجه لبنان حالياً عاصفة إرهابية، تتمثل بالمجموعة التي اعتدت على الجيش في نهر البارد، والخلايا التي تمكنت قوى الأمن من اكتشاف بعضها في الشمال والبقاع. ولكن الإرهاب لن يستمرّ في لبنان زمناً طويلاً، بل هو حال موقتة، وترجمة"فورية"لقرار سياسي بدفع لبنان إلى عدم الاستقرار. فالمجتمع اللبناني يلفظ بطبيعته الاتجاهات الظلامية المنغلقة، المتسترة زوراً بالشعارات الدينية، لأن لبنان بلد الحرية والثقافة والتنوّع والانفتاح. واللبنانيون عموماً هم شعب متديّن، ولكن الدين عندهم تسامح وتعايش وحوار. أما المشكلات الطائفية التي أثقلت تاريخ لبنان بأوزارها فهي، في جوهرها، مشكلات سياسية واجتماعية، ولا تتصّل بالدين أو الإيمان من قريب أو بعيد. والاقتصاد اللبناني بدوره سيصمد أمام موجة الإرهاب الراهنة، والزائلة، كما صمد أمام الحروب التي دارت على أرض لبنان منذ أكثر من أربعين سنة. إن سرّ نجاح الاقتصاد اللبناني يكمن في انفتاح اللبنانيين وثقافتهم وديناميكيتهم، وفي الاحترام الصارم للملكية الفردية، وحرية النشاط الاقتصادي، وانعدام القيود على تحويل الرساميل والعملات وانسياب السلع، في ظل نظام مالي ومصرفي عصري ومتطوّر، وكلها عناصر ثابتة لا تهدّدها الأحداث المستجدّة في البلاد على رغم خطورتها. ولكن ذلك لا يمنع الإقرار بأن الأحداث الراهنة تزيد الأعباء والتحدّيات على كاهل الاقتصاد اللبناني، المثقل أساساً بمشكلات المالية العامّة والاختناقات التي تعيق النموّ، والتي تفاقمت بفعل التدمير الذي ألحقته الحرب الإسرائيلية على لبنان في الصيف الماضي. في النصف الثاني من أيار مايو الماضي زارت لبنان بعثة من صندوق النقد الدولي، ودرست أوضاع الاقتصاد اللبناني لنهاية الفصل الأوّل من السنة، أي قبل بداية الأحداث الراهنة، وبحثت الأمور المتصلة ببرنامج المساعدات الذي تقرّر في أعقاب حرب الصيف الماضي. وفي نظر البعثة، فإن سنة 2007 هي سنة انتقالية صعبة بسبب استمرار الأزمة السياسية، في وقت تحتاج فيه البلاد إلى الاستقرار والتضامن السياسي لدعم الخطوات الإصلاحية التي اعتمدتها الحكومة في مشروعها المقدّم إلى"مؤتمر باريس 3". وأحداث نهر البارد تزيد من صعوبة الطريق إلى الإصلاح، ومن قدرة الدولة على اتخاذ القرارات الضرورية لإعادة توليد النمو الذي كان صفراً نهاية سنة 2006. بفضل الجدارة التي اتسم بها سلوك السلطات اللبنانية، لاسيما مصرف لبنان المركزي، حيال نتائج حرب الصيف، تم احتواء الكثير من الأضرار التي نتجت من الحرب. لذلك، توقعت البعثة أن يبلغ النمو الفعلي للناتج المحلي القائم في لبنان اثنين في المئة أحداً أدنى، وهو رقم دون الطموحات إذ كان معدل النمو المتوقع للسنة السابقة يقارب ستة في المئة لولا الحرب الأخيرة مع إسرائيل. ولا بد من التوقف أمام هذه المسألة المحورية لأن النمو الاقتصادي يعكس النشاط العام في كل القطاعات ويختزل العديد من المؤشرات الاقتصادية الجوهرية. ان رقم اثنين في المئة هو معدل متواضع مقارنة بإمكانات لبنان وقدراته. ولكن بعثة صندوق النقد الدولي توصلت إلى هذا التقدير آخذة في الاعتبار الأزمة السياسية القائمة قبل انفجار معركة نهر البارد، أي خلال الفصل الأول من السنة. ما يعني أن الحرب الدائرة مع المجوعات الإرهابية، إذا طالت أو تفرّعت، فإنها قد تقضي على الأمل بهذه النسبة المتواضعة من النمو، وقد تدفع الاقتصاد إلى تسجيل نمو سلبي هذه السنة، بعد نمو معدوم في السنة السابقة. بتعبير آخر، فإن الأضرار التي قد تسببها المجموعات الإرهابية، المصدّرة إلى لبنان، توازي أو تفوق تلك التي أحدثها التدمير الإسرائيلي للبلاد في الصيف الماضي. ومن المؤسف ألا يتمكن لبنان، صاحب الإمكانات الكبيرة، من مواكبة النمو الذي تشهده المنطقة، وهو البلد الرائد في قطف ثمار الفورات الاقتصادية فيها. تحدث موشن خان عن التقدم الاقتصادي في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، وهو المدير المسؤول عن المنطقة في صندوق النقد الدولي. وكان حديثه بمناسبة نشر التقرير السنوي الأخير للصندوق عن النتائج التي حققتها بلدان الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، فأشار إلى أن هذا التقدم يعود إلى استمرار النمو العالمي، والبيئة المالية العالمية الملائمة، واستمرار ارتفاع أسعار النفط والسلع الأخرى، والسياسات السلمية التي تتبعها الحكومات. وتوقع أن يستمر النمو الإجمالي في المنطقة بحدود ستة في المئة، وأن يتجاوز 10 في المئة في بعض البلدان. بالعودة إلى أحداث لبنان ونتائجها، فهي ستؤثر حكماً في المالية العامّة، التي تجهد حكومة الرئيس فؤاد السنيورة لتخليصها من مشكلاتها السابقة. فالأحداث ستؤدّي إلى خفض الواردات الحكومية، وزيادة الإنفاق الاجتماعي لتعويض المتضرّرين من سكان مخيم نهر البارد، كما ستدفع الدولة من الآن وصاعداً إلى زيادة الإنفاق الأمني والعسكري، بعدما تبيّن أن الجيش هو ضمانة الأمن والاستقرار، ويجب أن يبقى أقوى من كل الجيوش المنتشرة على أرض لبنان. إن الردّ اللبناني المناسب على الأزمة ومفاعيلها هو في تضامن لبناني شامل لدعم التدابير الاقتصادية، بمعزل عن الأزمة السياسية المحلية، لحماية الاقتصاد الوطني من التراجع أكثر. مع العلم أن الاختناقات التي ستنجم عن الأحداث الأمنية هي مرحلية وموقتة، مهما طال الصراع مع الإرهابيين. فهؤلاء سيبقون فئة معزولة في لبنان، أضعف من أن تحدث تغييراً جوهرياً في طبيعة الاقتصاد اللبناني ودوره والمبادئ التي يرتكز إليها. * خبير مالي لبناني