التقيت ذات مرة في بلغراد عام 1980، بالشاعر الأميركي اليهودي ألن غينسبرغ في مهرجان الشعر العالمي، وكنا في فندق واحد. سألته آنذاك: يقولون: إن شعرك سياسي بامتياز، وأن الدعاية لحركة الپ"بيت"، دعاية سياسية، لا شعرية. فأجابني: لقد جاءت حركة الاحتجاج السياسي والاجتماعي، ملائمة للزمن الشعري، خذ مثلاً: شكسبير، فهو سياسي بامتياز، لكنه عبر عن زمنه تعبيراً شعرياً ناجحاً، ولم نعد نهتم لما هو وراء هذه القصائد من القصص السياسية والاجتماعية. حسناً، سآخذ من غينسبرغ، مبدأ التلاؤم مع العصر، لأفكك المتنبي: على رغم أن المتنبي، وقف ذليلاً أمام كافور، ومارس النفاق أمام سيف الدولة، إلا أن حركته السياسية كانت تحمل مبدأ الشطب، بحسب دريدا، أي النفاق، والنرجسية الداخلية، أمام كافور، ومبدأ المديح، والعشق السري لخولة، أمام سيف الدولة. وبما أنه كان يقول الشيء ونقيضه، فقد أثارت هذه التناقضات، جدلاً واسعاً، وضعه تحت أضواء ذلك الزمان. وهكذا لعبت الإثارة السياسية، دوراً في شهرته. هو أيضاً شاعر ملخصاتي لشعراء آخرين، أي شاعر سارق، مما أثار الجدل حول أصالة شعره أو عدمها، وفي المقابل، هو شاعر ذكي موهوب، مصقول الصيغة الشعرية. هذا التناقض، جعل النقاد يهتمون بشعره. أسطورة النبوّة، في حداثته، أثارت جدلاً في عصره، أيضاً، كان ملتبساً بغموض، وساهمت في أسطرة صورة المتنبي مع أسطرة قصصه مع سيف الدولة وكافور، وحتى موته قتيلاً في سن الخمسين. وبالتالي، كسب المتنبي، شهرته في حالة التطابق مع السلطة، وفي حالة التناقض معها. لقد كان المتنبي، شاعراً انتهازياً، عرف كيف يدير شهرته، وكانت شهوته للسلطة واضحة، لكن مع كل ذلك، هناك نبع آخر لشهرته، هو النبع الصافي، فإذا كان الحدث السياسي، بتناقضاته، منحه شهرة، لا تنكر، إلا أن سر النبع الصافي، يكمن في جهة أخرى. نحن عندما نقرأ شعره، نجد فيه مستويين: مستوى قشرة الحدث السياسي، الشائع بنسبة عالية في شعره، ومستوى النبع الصافي، وهما يتجادلان ويتصارعان، ويشطب أحدهما الآخر أحياناً، بحسب عصور الأدب، وبحسب الأمكنة. فالبنية التقليدية في زماننا، لا تزال تعجب بالمستوى الأول. أما المستوى الثاني، الذي أعجب به، فهو النبع الصافي، الذي أرى أنه: - قدرته على الصوغ القوي اللافت والمبهر. - تعبيره عن العواطف البشرية التي لا تتغير: الحب، الكره، الغيرة، الحسد، شكوى الزمان، التعبير النرجسي، وهي قضايا سيكولوجية أبدية وجودية، مما يجعل بعض قصائده، أو أبياته المفردة، تناسب حالة ما عند القارئ المعاصر. مثلاً: بقيت أسبوعاً أردد بيته:"... وحالات الزمان عليك شتى... وحالك واحد في كل حال"، لأنه يناسب حالة ضيق نفسية، صاحبتني في لحظة ما. ولا تعجبني أبيات الحكمة المنظومة، والمسروقة أحياناً في شعره. أي انني كشاعر، أحب ما أسميه"شعر الحالة"في شعره. نعم، يمكن أن أشير الى نسبة 30 في المئة من شعره، تحمل مثل هذه المواصفات الشاعرية، أما شهرته السياسية، فهي نابعة من انتهازيته وتناقضاتها، بسبب الجدل حولها، لأن هذا الجدل، تلاءم مع عصره. * شاعر فلسطيني مقيم في الأردن