أدى الحوار الذي نشرته"أخبار الأدب"6 / 5 / 2007، إلى ردود أفعال واسعة، بلغني بعضها شفهياً، وقرأت بعضها كتابة، وذلك في مقالات من طراز رد الصديق الشاعر أمجد ناصر"شعراء كبار ولكن..."، ورد الصديق صدوق نور الدين، من المغرب، بعنوان"عن الشعر وقوة التجربة". وقد قرأت الردين في عدد"أخبار الأدب"التالي للعدد الذي نشر فيه الحوار. وأعترف أن كلا الردين أسعدني لأسباب أربعة لا بد من ذكرها لدلالتها الخاصة في هذا السياق. أولها: احترام الاختلاف، والتسليم المضمر بأن ما من أحد يمتلك الحقيقة دون غيره، وأن الحقيقة التي لها عشرات الأوجه لا تبين عما تنطوي عليه إلا بالحوار الذي يُثري الفهم، ويُغني وعي الأطراف المتحاورة. وثانيها: افتراض حسن النية في الآخر، بدل المسارعة إلى الاتهام وإساءة الظن ابتداء. وثالثها: رقي اللغة وترفعها عن السفاسف والصغائر، وهجر القول الذي هو عكاز من لا سند لديه من العقل أو الوعي أو المعرفة. ورابعها: الموضوعية التي تهيمن على محاجة الرد، فلا توقعه في الذاتية البغيضة، أو التعصب المقيت الذي شاع في خطاب الصغار الذين يتوهمون أنفسهم كباراً، وبعض الكبار الذين يتصاغرون، فلا يفارقون الصّغار في الرتبة والحضور. ويلتقي الردان حول نقاط للاتفاق أكثر من نقاط الاختلاف. وأبدأ بموافقتي التامة على أن أدونيس وسعدي يوسف ومحمود درويش والترتيب بحسب الأبجدية الشعراء الثلاثة الكبار، لأنهم قدموا، كل على حدة، منجزاً يصعب تصوّر الشعر العربي من دونه، وأحدثوا أثراً في عملية التلقي بدرجات متفاوتة، فيما يؤكد أمجد ناصر، مضيفاً أنه مثلما لا يمكن فهم مشهد الشعر العربي، اليوم، من دون أولئك الثلاثة، يصعب، كذلك، فهم هذا المشهد من دون وجود السياب، نازك الملائكة، الماغوط، صلاح عبدالصبور، نزار قباني، فدوى طوقان، البياتي، أُنسي الحاج، توفيق صايغ، محمد الخمار الكنوني، عباس بيضون، محمد علي شمس الدين، حسب الشيخ جعفر، عبدالعزيز المقالح، سركون بولص، محمد بنيس، قاسم حداد، محمد بن طلحة، نزيه أبو عفش، شوقي أبو شقرا، نوري الجراح، وديع سعادة، حلمي سالم، علاء خالد، وكثيرين غيرهم داخل هذا المشهد. وهذا كلام لا أجادل فيه، ولا حتى أختلف معه، بل أضيف إليه شعراء آخرين لم يذكرهم أمجد على سبيل السهو والاقتصار على التمثيل فيما أظن. ولذلك يمكن أن نضيف إلى القائمة أمجد ناصر نفسه، وعبده وازن، وعز الدين المناصرة، وإبراهيم نصرالله، وفاروق شوشة، ومحمد إبراهيم أبو سنة، ومحمد عفيفي مطر، وأحمد حجازي، وبول شاؤول، وشوقي بزيع، وسيف الرحبي، ومحمد الفيتوري، وبلند الحيدري، وجوزيف حرب، وأمل دنقل، وسميح القاسم، وغيرهم كثر. فما أكثر الشعراء، وتنوع تياراتهم وأجيالهم ورؤاهم على امتداد الخريطة الإبداعية العربية. ومن المؤكد أنه يمكن إضافة الكثير من الأسماء الأخرى في كل جيل أو تيار أو قطر عربي، بل إضافة المزيد من الشعراء الشباب الذين اكتفى منهم أمجد بعلاء خالد الذي هو تمثيل لأقرانه ومجايليه الذين أذكر منهم: أحمد متولي، وعماد أبو صالح، وجرجس شكري، وفاطمة قنديل، وإيمان مرسال، وأمل موسى، ولينا الطيبي، وجمانة حداد، في موازاة وفاء العمراني، وماليكة العاصي، والمهدي أخريف، ومحمد الأشعري، في السلسلة التي تصلهم بجبرا إبراهيم جبرا، وتصل أحمد دحبور بوليد خازندار وفواز طوقان، أو فاضل العزاوي بسامي مهدي وعبدالقادر الجنابي، فضلاً عن عشرات الأسماء الأخرى التي يمكن إضافتها لو مضينا في تعداد أسماء الشعراء والشاعرات في كل قطر عربي، عبر كل جيل أو تيار، بل أسماء الشعراء الأجانب الذين أسهمت قصائدهم المترجمة، من قبل مجلة"شعر"وبعدها، في صوغ ذائقة الطليعة المتلقية من جمهور الشعر، والأجيال الشابة من شعراء قصيدة النثر على السواء. وأحسب أن الأسماء التي ذكرتها توضح بجلاء أن الجدارية الهائلة للشعر العربي المعاصر أو الحديث لا يشكلها تيار واحد، أو اتجاه مهيمن على نحو متسلّط، فهناك خاصية التنوع الخلاّق التي تنبني عليها هذه الجدارية، أقصد إلى التنوع الذي يضم القصيدة العمودية والقصيدة التفعيلية، بل أضيف قصيدة العامية التي حفرت مجراها العميق، خصوصاً في الشعر المصري، ابتداء من فؤاد حداد، مروراً بصلاح جاهين، وليس انتهاء بعبدالرحمن الأبنودي ومجايليه، أو الأجيال اللاحقة. ولا أحسبني في حاجة إلى تأكيد أن لا عبرة في شكل القصيدة عمودية أو حرة أو نثرية أو عامية في الجدارية التي أتحدث عنها، فالمحك مرهون بالحضور الفاعل الذي تنجذب إليه عين الناظر إلى الجدارية، فيلتفت إلى الأبرز من عناصرها التكوينية العامة، وإلى ما يجذب انتباهه من علاقات بين هذه العناصر، بل إلى كل ما يتركّب منه كل عنصر، خصوصاً ما يبدو أكثر لفتاً للانتباه، وأعمق تأثيراً في العين الناظرة من غيره. وإذا كان التنوع الخلاّق ينطوي، بداهة، على حق الوجود المتكافئ لكل العناصر المتغايرة الخواص والتركيب، ويصل ما بينها في نوع من الوحدة التي أساسها التنوع الأفقي في الزمن الآني، والتنوع الرأسي في الزمن المتعاقب، فإن هذا التنوع لا يعني، بالضرورة، ولا يؤدي إلى التسوية بين العناصر والمكونات، وإلا فقدت الجدارية خاصية التنوع التي هي خاصية ومبدأ للقيمة في الوقت نفسه. وتلك هي النقطة التي أختلف فيها مع أمجد ناصر الذي أحبه صديقاً وأقدره حق قدره شاعراً، وأبتسم حين يداعبني بقوله إنني اختتمت مسيرة الشعر بأمل دنقل. وها هو هذه المرة يستبطن اللاوعي النقدي الذي انطوى عليه، متوهماً انني أقصّر الشعر على القصيدة الموزونة، عموداً أو تفعيلة، متجاهلاً قصيدة النثر التي لم يتضمنها وعيي المضمر الذي لا يعرف، في خيال أمجد، سوى الكتابة الشعرية الموزونة. ولو أنصف الصديق لتذكر ما كتبته عن شعر محمد الماغوط على سبيل المثال، وعرف أن المحك عندي، في مقاربة الإبداع، هو القيمة التي أحتفي بها دائماً، وذلك بما دفعني أن أطلق على واحد من كتبي عنوان"الاحتفاء بالقيمة". ولو سأل أمجد أكثر من جيل من تلامذتي لعرف منهم انني درّست لهم الكثير من قصائد النثر التي لا أزال أحتفي بها، ولو سألني - مباشرة - لأجبته بأن"رباعيات"صلاح جاهين، مثلاً، بها من صفات الشعرية ما لا تتمتع به مجموعات مطولة لشعراء من الدرجة الثانية أو الثالثة. وليس المعوّل في مدى"القيمة"على طول العمر أو قصره، أو كثرة الإنتاج أو قلّته، أو على تواصل الإنجاز أو الانقطاع عنه واحتباس صوته، فكل ذلك من قبيل المعايير الكمية التي لا معنى لها ولا دلالة إلا بما يضيف إلى المعايير الكيفية التي هي الأصل والمركز الذي ينطلق منه التحليل أو التفسير ليعود إليه بما يحدد درجة القيمة. ولا أزال أؤمن بأن للقيمة درجات، وأن هذا الإيمان ليس تعبيراً عن وعي طبقي بالمعنى الذي استنكره أمجد ناصر، ولا يتضمن دلالة بطريركية في مدى العلاقات الاجتماعية المتخلفة التي تنبني على حضور الأبوة الطاغية، ولا ينحاز إلى مفهوم النجم الواحد الأحد، كأنه الموازاة الإبداعية للزعيم أو القائد الواحد الأحد في التراتب السياسي للدولة التسلّطية. الإيمان بدرجات للقيمة نقيض ذلك كله، أولاً لأنه وسيلة لتمييز الشعر من اللاشعر. وقد تعلمنا من الناقد آي. إيه. ريتشاردز، منذ سنوات بعيدة، أن دراسة الشعر الرديء أصعب من دراسة الشعر الجيد، لكنها ضرورية وحتمية، إذ لا يعرف الجيد أو شروطه إلا من عرف الرديء وصفاته، والعكس صحيح بالقدر نفسه. والتدليل على وجود درجات للقيمة مبذول في تاريخ الشعر العربي، بل الشعر العالمي. لقد عاصر المتنبي عشرات الشعراء، لكن من الذي احتفظت به الذاكرة النقدية؟ وحتى سيف الدولة الحمداني، المعاصر للمتنبي، لن يكون في الدرجة نفسها من القيمة التي يتنزل فيها المتنبي، وقس على هذا المثال الكثير غيره. وفي الشعر الإنكليزي، حفظت الذاكرة النقدية قصيدة توماس غراي 1716 - 1771"مرثية في مقبرة ريفية"1751، وذلك في السياق الذي ضم، بعده، شعراء من طراز وليم بليك 1757 - 1827 ووردزورث 1771 - 1855 وكيتس 1795 - 1821 وشيللي 1797 - 1851 بما لا يسوِّي بينهم في درجات القيمة التي قد تختلف باختلاف المنظور النقدي، ولكن بما لا ينفي درجات القيمة نفسها. وحتى في تاريخ قصيدة النثر الفرنسية التي تدين بوجودها للشاعر ألوسيوس لويي برتران 1845 - 1891 صاحب"غاسبار الليل"1842 وشارل بودلير 1821 - 1867 صاحب"أزهار الشر"وأرتور رامبو 1845 - 1891 الذي توقف عن كتابة الشعر في سن الثامنة عشرة بعد أن كتب"الإشراقات"وپ"السفينة السكرى". وكان ذلك قبل أن تطوح به المغامرات التي انتهت بموته عن ست وأربعين سنة، ولكن بعد أن تأسست بفضل عبقريته قصيدة النثر في فرنسا، ممهدة الطريق للاحقين من أمثال بول فاليري وكلوديل، إلى سان جون بيرس وإيمي لويل وغيرهما. وكل تلك الأسماء لا يستوي إنجازها في القيمة، وإلا كان تأثير"غاسبار الليل"يوازي تأثير"الإشراقات"أو"موسم الجحيم"أو"أزهار الشر"في الحضور والاقتحام وفتح الآفاق المغلقة، أو اكتشاف القارات التي انفتحت للاحقين، وحتى المعاصرين.