طالمؤتمر الذي عقده المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة إحياء للذكرى العشرين لرحيل الشاعر أمل دنقل بدا أشبه بالاحتفال التكريمي الذي أعاد شاعر "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" الى واجهة السجال الشعريّ الراهن. فالحضور العربيّ الشعري والنقدي، الذي كاد يطغى على الاحتفال رسّخ المكانة التي يحتلّها أمل دنقل في الذاكرة العربية، والموقع الذي يتفرّد به في حركة الشعر الحرّ والمعاصر. ولم تكن مشاركة أكثر من ستين ناقداً وشاعراً من مصر والعالم العربيّ في المؤتمر إلا اصراراً من المجلس الأعلى للثقافة على إرساء حال من الاجماع الشامل على فرادة التجربة التي خاضها أمل دنقل والتي اعتراها بعض الالتباس الشعري والسياسيّ، مصرياً وعربياً. فبعض شعراء جيل السبعينات في مصر كانت لهم مآخذ نقدية على شعره السياسي وعلى بعض مواقفه وآرائه ضمن صراعهم مع جيل الستينات الذي ينتمي هو اليه. وفيما أعاد النقاد قراءة نتاجه الشعريّ عبر مقاربات ومنهجيات مختلفة باحثين عن خصائصه الشعريّة المميزة التأم شمل الشعراء في أمسيات شعرية رفعوا خلالها تحياتهم اليه، قارئين بعضاً من جديدهم وقديمهم. شعراء من أجيال مختلفة ومواقع مختلفة اعترفوا بالأثر الذي حفره أمل دنقل في جسد القصيدة الحرّة الجديدة وأزاحوا بعض الظلم الذي لحق به من جراء سوء الفهم الذي ساد علاقته ب"الآخرين" سواء كانوا شعراء أم نقاداً أم مثقفين مسيّسين... لم يخل المؤتمر في جلساته النقدية وأمسياته الشعرية من بضع "مفاجآت" وأولاها اطلالة الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي الذي تحيّن فرصة المؤتمر ليكيل التهم كعادته الى شعراء قصيدة النثر معتبراً نتاجهم بمثابة "فقاقيع" نثرية قياساً الى نتاج شعراء الستينات ومنهم أمل دنقل وصلاح عبدالصبور وهو نفسه. وكان من الطبيعي أن يثير كلامه حفيظة مناصري قصيدة النثر فجرى سجال وضعت فيه النقاط على "حروف" أحمد عبدالمعطي حجازي الذي لم يملّ مثل هذا الموقف المجاني ضدّ قصيدة النثر. أمّا المفاجأة الثانية فكانت في مشاركة الشاعر محمود درويش قارئاً قصيدة جديدة مهداة الى أمل دنقل وفيها يسترجع صورته المأسويّة. وقرأ محمود درويش قصائد أخرى من جديده الشعري الذي يحمل نفساً جديداً ويخيّم عليه مناخ من الألفة والذاتية والنزعة الشخصية. وحمل شعراء آخرون مفاجآت أخرى عبر قصائدهم الجديدة ولا سيما شعراء قصيدة النثر. وشارك في الأمسيات شعراء من مدارس متنوّعة: نزيه أبو عفش، عباس بيضون، أمجد ناصر، هاشم شفيق، لينا الطيبي، حسن طلب، فاروق شوشة، حلمي سالم، قاسم حداد، زهرة يسري، محمد ابراهيم أبو سنة، مريد البرغوثي، ابراهيم نصرالله، فاطمة قنديل، مرام المصري... ابراهيم داوود وأسامة الديناصوري... وشاء بعض الشعراء أن يلقوا شهادات عن أمل دنقل سيف الرحبي وكاتب هذا المقال وآثر شعراء آخرون أن يكتبوا مداخلات نقدية بول شاوول، محمد بدوي، حسين درويش.... على أن الجلسات النقدية لم تخل بدورها من بعض النقاشات "الساخنة" والمتوترة، ولا سيما تلك التي شارك فيها نقاد من أمثال كمال أبو ديب وصبحي الحديدي وفيصل درّاج وفخري صالح وشربل داغر وعبير سلامة وسواهم. واللافت أن أمين عام المجلس الأعلى جابر عصفور تدخّل في أكثر من جلسة إمّا ليحسم النقاش ويهدّئ من حدّته أو ليطرح بعض القضايا ويثير السجال حولها. وقد يكون الكتاب الذي سيجمع المداخلات النقدية لاحقاً أهمّ مرجع عن أمل دنقل، نظراً الى أنّ النقاد تناولوا معظم القضايا والجوانب والمواقف التي يحفل بها عالم شاعر قصيدة "لا تصالح". قد يستحق أمل دنقل أن يسمى شاعر "لا تصالح". فهذه القصيدة صنعت جزءاً كبيراً من شهرته وساهمت في الحين نفسه في اجتزاء صورته كشاعر وفي اضفاء حال من الالتباس أو سوء الفهم حيال شعرّيته. تُرى، هل يمكن حصر تجربة أمل دنقل في بعدها السياسي؟ أليست في هذا الأمر جناية على شاعر هو أبعد من أن يُحدّ في اتجاه أو اطار أو تيّار؟ مثل هذه الأسئلة كان لا بدّ من طرحها خلال الاحتفال بالذكرى العشرين لغياب أمل دنقل بغية البحث عن الوجه الحقيقي لإحدى التجارب الفريدة في الشعر المصري والعربي المعاصر. قصيدة "لا تصالح" التي سبقت شعر أمل دنقل الآخر كانت حصيلة المرحلة التي كتبت فيها، وبدت ردَّ فعلٍ واضحاً على الحال التي آلت اليها الظروف السياسية المصريّة في الثمانينات. ولم يكن رواجها الشعبي مصرياً وعربياً إلا دليلاً بيّناً على مدى تعبيرها عن الواقع السلبيّ الذي عرفته تلك المرحلة. قصيدة هي أشبه ببيان سياسيّ عام يختصر حالاً شعبية عامّة، يشوبها الغضب مقدار ما يشوبها الاعتراض والألم والتململ... قصيدة سياسية ولكن خلوٌ من أي جعجعة أو زعيق ومن أي بطولات وهمية أو لفظية. فالصوت الخفيض الذي يعتريها، على رغم مباشرتها، منحها طابعاً احتجاجياً وحرّرها بعض التحرّر من حمأة الموقف النضاليّ. وقد يكون الصوت الخفيض هذا هو ما يسم شعر أمل دنقل السياسي عموماً، علاوة على بعض الخصائص الأخرى كالاستيحاء التراثي والبعد الدرامي والترميز وسواهما. كان يستحيل على أمل دنقل - كما أظن - ألاّ يكتب قصيدة مثل "لا تصالح" في مرحلة كان بدأ يواجه الملامح الأولى لموته الشخصيّ. فالشاعر الذي طالما جعل الشعر سلاحاً أبى إلاّ أن يشهره في وجه الواقع السياسي المتفاقم سلباً. كان أمل دنقل كتب الكثير من القصائد الشخصية أو لأقل الذاتية، عندما انصرف الى الشعر السياسيّ. وكم بدا واضحاً تنقله بين هذين القطبين الشعريين: الذات والسياسة. الذات في ما تعني من هموم شخصانية ممعنة في المأساة والألم والصمت والغياب، والسياسةُ في ما تعني من حضور في العالم والتزام بشؤون الناس وتطلّع الى مستقبل أقلّ بؤساً، ما دام القدر يحول دون الحلم ب"عالم سعيد" كما يعبّر في قصيدته الشهيرة "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" قائلاً: "لا تحلموا بعالم سعيد/ فخلف كلّ قيصر يموت: قيصر جديد/ وخلف كلّ ثائر يموت/ أحزان بلا جدوى/ ودمعة سدى". أمل دنقل، الشاعر الذي أضحى صوتُه صوتَ الناس البسطاء والذي بات ايقاع شعره هو ايقاع الحياة نفسها، في تناقضاتها وفي آمالها وخيباتها، كان يصعب عليه ألاّ يعبّر عن حركة الجماعة وحركة الحياة، وإذا بالشعر السياسي لديه يحتل الواجهة ولكن لا ليخفي ما يحصل وراءها من مآسٍ شخصية وآلام... أكثر من شاعر سياسي قد لا يُقرأ شعر أمل دنقل السياسيّ إلا انطلاقاً من المشروع الشعريّ الكامل الذي هيّأ الشاعر نفسه له: مشروع طوباوي يعيد الى الكلمة فعلها، والى الحياة رونقها المفقود والى العالم براءته الضائعة، لكنّ "طوباوية" هذا المشروع سرعان ما اصطدمت بجدار الخيبة، الجدار الذي ينهض "في وجه الشروق" كما يعبّر أمل في احدى قصائد، والخيبة التي تؤول اليها الحماسة المتمثلة أبداً كنهاية قدرية. قد يُظلم أمل دنقل لو هو اعتبر شاعراً سياسياً فقط وشاعر القومية العربية فقط وشاعر الالتزام والوطنية وسواها من مقولات حوّلتها المأساة العربية العامة الى شعارات مجرّد شعارات. وقد يُظلم كثيراً إن قيل عنه شاعر النكسة والهزيمة أو شاعر الثورة والتمرّد السياسيّ... أمل دنقل شاعر يتخطّى حدود التصنيف الموضوعيّ أو الموضوعاتي كونه جعل شعره سليل الحياة نفسها في ما تضمّ من متناقضات وفي ما تحوي من ظواهر والتباسات ومفارقات. أمل دنقل شاعر الحياة في معنييها: الإيجابي والسلبي، الأرقى والأدنى، المأسوي والعبثي. وشاعر متعدّد الوجوه كالحياة نفسها، يجمع بين نثر الواقع ودرامية الحلم وتوتر اللحظة الشعريّة، شاعر مجدد ومحافظ، سليل المقلب الثاني من عصر النهضة والمقلب الأوّل من الثورة الحداثية، يكتب الشعر الحرّ أو التفعيليّ ولكن بروحٍ نثرية خفية أو مضمرة، ينحاز الى الفصحى ولكن بحنين مستعر الى العاميّة المصريّة، ويحمّل قصائده تقنيات حديثة منفتحاً على المشهدية والسرد والأشياء والتفاصيل اليومية التي تحافظ على واقعيتها وعلى هويّتها الحيادية. أجمل ما في أمل دنقل وربّما أغرب ما فيه، كونه نذر حياته للشعر. كان الشعر حياته كلّها ونافذته للإطلالة على الحياة. لم يمتهن فعلاً آخر ولم يصنع حياة أخرى على هامش حياة الشعر. لكنه لم يعش في برج عاجيّ أو برج صوفي. شاء أمل دنقل أن يكون حضوره الشعري في قلب العالم لا على تخومه، في أحشاء الواقع لا على مشارفه وفي أوحال الحياة لا على سفوحها. ولم تكن مأساته الشخصية إلا حافزاً له على مواجهة مآسي العالم وليس حافزاً على الهروب أو التخلّي أو التصوّف والانعزال. يخاطب أمل دنقل في إحدى قصائده "أبانا الذي في المباحث وكأنه يؤدّي صلاة سلبية بسخرية هادفة لا عبثية، غايتها فضح التسلّط السياسيّ الأعمى الذي يجعل من المباحث هاجساً "وجودياً" وإنسانياً في عالمنا العربيّ المعاصر. وعندما كان ممدّداً على سرير المرض في "الغرفة رقم ثمانية" كتب قصيدة هي من أجرأ ما يمكن أن يُكتب في مواجهة الاحتضار جاعلاً من اللون الأبيض الذي يرمز الى رمزِ الحياة ظاهراً، لون الموت المتمثلِ في "الكفن". قد يخطئ الذين ينحازون الى شعر أمل دنقل السياسيّ فقط أو الذين يقرأونه قراءة سياسية صرفاً. فهذا الشاعر الذي احتج كثيراً ورفض كثيراً وأطلق بعض الشعارات، كان صاحب صوت خفيض هو صوت الذات والمأساة الشخصية والألم الذي يخترق ظاهر الأشياء الى سرّها. فالشعر ظلّ في نظره "الفرح المختلس" كما يعبّر والالتزام لديه ظل بعيداً عن الخطابية والانفعالية والتصنع البطولي. ولعلّ الوضوح الذي اتسم به شعره وانفتاحه على الحياة اليومية ومصطلحاتها وعلى الواقع الشعبي ومفرداته، ساهما في جعل شعره في متناول القراء على اختلاف نزعاتهم وطبقاتهم. وقد تكون طواعية التفاعيل بين يديه، هو الشاعر الماهر الذي لم يستسلم لإغراء الشكل ومجانيته، وكذلك حيوية اللغة البعيدة من جفاف الافتعال من ميزات صنيعه الشعري، الذي استطاع فعلاً أن يُمدّ الشعر المصري والعربي الجديد بما يمكن تسميته نسغاً جديداً. أما فرادته فتكمن في طبيعة نسيجه الشعري، شكلاً ومضموناً، لغة وبناء، وهو نسيج لا يقوم إلا على ذاكرته، مهما تقاطعت فيها ذاكرات أخرى ولغات لا بدّ من مقاربتها أصلاً من أجل صهرها وصهر القصيدة الجديدة التي تنهض على أسس شعرية راسخة وليس على بقعة من الخواء أو الفراغ الشعري. لم يقتصر الاحتفال التكريمي الذي أعاد أمل دنقل الى المعترك الشعري العربي على الشعر والمداخلات النقدية، بل شمل أيضاً الفنّ التشكيلي والموسيقى. وأقيم طوال الأيام الأربعة للاحتفال معرض للفنان المصري حامد العويضي عنوانه "فوق جدارية أمل دنقل" ضمّ لوحات مرسومة بالخطّ والألوان انطلاقاً من أبيات وجمل اختارها الرسام من شعر أمل دنقل. ولم يسعَ الرسام إلى أن يخطّ تلك الجمل والأبيات فقط، بل عمد الى تأسيس فضاء تشكيليّ يحتفي باللحظة الشعرية احتفاءه باللحظة البصريّة. وإذا اللوحات المخطوطة فسحات يتجلى فيها الخطّ والشعر واللون تجلّياً هندسياً وفنياً وشعرياً. أمسية الختام كانت موسيقية وغنائية أحياها الفنان العراقي نصير شمة وفرقة "عيون". وكان شمّة لحّن عدداً من قصائد أمل دنقل وأدّاها في الأمسية مغنون مصريون. أما ما يجدر ذكره فهو صدور ديوان أمل دنقل كاملاً عن المجلس الأعلى في طبعة مزيدة ومنقحة وخلوٍ من الأخطار الكثيرة التي اعترت الطبعات السابقة. وضمّ الديوان مقدمة كتبها جابر عصفور هي بمثابة دراسة عميقة في شعر دنقل وعالمه.