إلى لميس، ورنيم، وحنين"، هكذا يهدي الشاعرُ المصريُّ حلمي سالم إلى بناته الثلاث ديوانَه الجديد "الثناء على الضعف" الصادر حديثاً في القاهرة عن دار"المحروسة"، مع غلاف للفنان مجاهد العزب. ويتأكد عبر هذا الإهداء، باعتباره إحدى عتبات الديوان، إضافةً إلى عتبته الأولى: العنوان، أن القصائد تمّجد الضعفَ وتطوّبه وتُعليه مرتبةً فوق كلِّ قوة. فالمرءُ لا يكون أضعفَ ما يكون إلا أمام أبنائه، لا سيما لو كانوا فتيات، وبالأخص إذا كان الأبُ شاعراً. ولئن كان هذا الديوان هو الثامن عشر في تجربة سالم الشعرية، إضافةً إلى سبعة كتب نقدية وفكرية، إلا أن"الثناء على الضعف"يظلُّ الديوانَ"اللعنةَ"في هذه التجربة العريضة التي جاوزت ثلاثين سنة من الإبداع. وكيف لا، والجلبةُ التي هزّت أركان مصر أخيراً ا لم تكن إلا من جراء إحدى قصائده التي كتبها الشاعرُ بين عاميْ 1995-2000 كما يشير الديوان. وسرعان ما نكتشفُ أن هذا الديوان بمثابة حِداء يمامةٍ تشكو إلى الوجود هذا العصرَ الفظَّ الخشن. قصائدُ تنعى أزمنةَ البراءة والحبّ والرهافة، والضعف أيضاً، حينما حلّتْ محلّها الصَّنعةُ والصِّناعةُ والاصطناع. في كل صفحة تقريباً سنكشف هذه"التيمة"التي لسانُ حالِها يقول: هلموا إلى زمن الطفولة وأثنوا معي على الضعف في مقابل الشراسة. ويأتي الانتصارُ للضعيف والهامشي على المستويين: المضمونيّ والجمالي:"ماسحُ الأحذيةِ حرّك الفرشاةَ ليبلغَ جارَه/ أن سعرَ الدواء الذي قرّره طبيبُ المستوصف/ كان عشرين جنيهًا/ فأرجأ الشفاءَ لفرصةٍ أخرى."أما المنحى الفنيّ الشكلاني فيتجلى في كون القصائدَ جاءت كلها قصيرةً خاطفة وهي مما نسميها قصيدة الومضة، ويسميها الإنكليز"أبيغرام"، ويسميها اليابانيون"هايكو"، وإن تمركزّت هذه الأخيرة على وصف الطبيعة. قصائدُ نثر خاطفةٌ حتى أن احداها بلغت خمسَ كلماتٍ لا غير. ولنا أن ندرك أن الضعف الذي يعنيه الشاعر لا محلّ له في الحقل السلبي كالتخاذل والتراخي، بل على العكس، إنه دعوةٌ لاكتشاف القوة الكامنة داخل الرقّة، والعمق الخبئ داخل البساطة، والسطوة الموغلة في جوهر الرهافة. أليست قطرةُ الماء هي التي فتّتِ الصخرةَ التي صمدت تحت نصل المِعوَل؟ انها الرغبةُ في العودة إلى البراءة التي اغتالتها آلةُ الصناعة والقبضةُ الأحادية التي سيطرت على العالم بعدما قصمتْ شوكةَ القوة الموازية الأخرى. وعلى رغم من السينتيمنتالية التي تطفر من جنبات الديوان، إلا أن القراءة الحصيفة تجعلنا نكشف أنه ديوانُ إليغوريا سياسية بامتياز. حتى قصائد الحب المشبعة بمناجاة الحبيبة يمكننا بسهولة تأويلُها تأويلا سياسيًا:"انتظارُكِ يعني أن تتجهّز عيناي/ للعدل/ وأن يتأهبَ ساعداي/ لنشيد الإنشاد/ ربما لو التقينا منذ عقدٍ/ ما انسابَ نبعٌ/ أنت تعرفين كيف كانت الثمانيناتُ شحيحةً/ وفخورةً بقلّة العيون/ انتظارُك يعني أن المرجئةَ/ ليسوا قبيحين طيلةَ الوقت"، فضلا عن القصائد التي صرّحت بفحواها السياسيّة على نحو يمزج السخريةَ بالمرارة:"تألمتْ لتناقض القلعةِ/ بين شهرزاد والمعتقل/ هل تقولُ شيئا عن المستبدين؟ ... نطَّ مرادُ من السور هربًا من الوليمة"، والقلعةُ هنا تحمل بعدين سياسيين، الأول يحيلنا إلى"مذبحة القلعة"التي قتل فيها محمد علي باشا المماليكَ ولم ينجُ إلا مراد بك الذي قفز بحصانه من فوق سورها، والثاني، وهو ما يعني الشاعر،"معتقل القلعة"، الذي سُجن فيه كثرٌ من مثقفي مصر، من بينهم الشاعر. ولأن الشاعر الحداثي لم يعد مبشرًّا ولا نذيرًا، فلن نجد في القصائد ثناءً حقيقيًّا على الضعف، لا تصريحًا ولا تلميحاً، بل يحرّضُ الشاعرُ على ذلك من الباب الخلفي راسماً الوجهَ القبيحَ الذي غداً عليه العالمُ الراهن في"عصر ما بعد الصناعة"كما في قصيدة"رومانسية"إذ يقول:"نقاومُ الشجنَ بعصر ما بعد الصناعة/ لكن مشهد عبدالحليم وأخيه/ في"حكاية حب"/ ينتقم للقتلى."ثم يواجهنا بالمشهد الحزين، حين يعلم الأخ الأكبر بموته الوشيك فيصارح أخاه الطفل بالأمر موصيًا إياه بأمهما الكفيفة، هذا المشهدُ، الذي أبكى جيل السبعين وما قبلهم، لو أُعيد إنتاجه الآن، هل سيُبكي الجيلَ الراهن الما-بعد صناعيّ، أم سيُضحكهم؟ أبناءُ ما بعد الحداثة الذين يفاخرون بتخلصهم من آفة الشجن ومحن القضايا الكبرى ولعنة الوطن وسواها من الهموم التي أثقلت قلوب من سبقهم، هل هم سعداءُ بتخفّفهم؟ أم تعساءُ بتخليهم تلك هي مسألةُ الديوان إذاً. لذلك:"لا ريبَ أن عصابةَ عينكِ اليسرى/ تعطي مساحةً لنصف البصيرة/ لتشاهدي ما وراء الطبائع"، من قصيدة"عوراء"، ليؤكد لنا أن الرؤيةَ لا تحتاجُ إلى عينين بل إلى حدسٍ وبصيرة وروح حرّة."كنا في الخامسة من العمر/ نلهو بالرعب/ ومرعوبين من الضحك/ المرجيحةُ غسّالةُ الأنفس/ والعكارةُ/ ليس لها ساقان."حنينٌ للطفولة الأولى، حيث العكارةُ الحزن سرعان ما تتلاشى عند الأطفال، مثلما نقول في الدارجة المصرية:"الكذب مالوش رجلين"، يعني قصير الأمد. ولن نحدد هل يحنُّ الشاعرُ إلى طفولته الخاصة، أم إلى طفولة الإنسان الأولى قبل هيمنة آلة الحرب والصناعة؟ وفي ظني أنه يقصد المعنيين. فالشاعرُ يتوقُ إلى بكارة الأرض وبراءتها، بعدما خبر زمانَنا الموحشَ الذي غدا فيه:"الجواسيسُ/ في أتمِّ صحة"، و"البلياتشو جاهزٌ للوظيفة"، وحيث"أسمهان تحمي بأسودِها/ أبيضَها"، وحيث محبوبةُ الشاعرِ علمّها المنوّرون:" أن سلامةَ القلبِ/ عارٌ على البيوتات". كل هذه الأوضاع الشاذة المقلوبة التي تشي بالانهيار الوشيك للكون ، تتوسّل شيئًا من استحضار قوة"الضعف"من دواخلنا لكي نتطهّر. لذلك:"الدموعُ/ نذرفُها لأنها الغُسْلُ/ ثم نُطلقُها لأنها طوقُ الحمامةِ/ هكذا هي الرحمةُ:/ تبدّدُ الكُحْلَ."ولذلك أيضًا:"البيوتُ تأكلُها الرطوبةُ/ لذلك يطلقون الطائراتِ الورقيةَ/ على السطوح/ ليثبّتوا بها المنازلَ/ على الأرض."فالدموع التي هي الرمز الأول للضعف، ستنجي العالمَ من الانهيار، مثلما الطائرةُ الورقية الهشّة تعمل على اتزان الأرض الهائلة. يرد كثيراً ذِكرُ الشاعر الباكستانيّ محمد إقبال في الديوان، لأن زمناً ضائعاً مثل زمننا ما أحوجه لمثل مَن شدتْ له أم كلثوم:"إذا الإيمانُ ضاعَ فلا أمانَ/ ولا دنيا لمن لم يحيى دينا"، يقول سالم:"الصبيُّ الذي تربى على إقبال/ أفتقدُه/ في الصباح أقول: صبّحه اللهُ بالخير/ وفي المساء أقول:/ مسّاه اللهُ بالخير/ وبينهما أقول: هديتُكَ في الحفظ والصّون."ألم نقل إن الشاعرَ يحنُّ إلى طفولته؟ فليس مَنْ يفتقدُه إلا الصبيَّ الصغيرَ الذي كان. ونجد ذِكراً للنفريّ، ووصفي التل، ومحمد ضياء الحق، وأكبر أحمد، ومحمود أمين العالم الذي قرأ الشاعرُ رسائلَه التي خطّها بيده على جدران سجن القلعة أثناء اعتقاله في العهد الناصري، وسواهم من الرموز الإصلاحية في الوجود. ونصادف"أيلول"ليرمي في حقل المتناقضات: أيلول الأسود الأردني الفلسطيني، وأيلول الذي اعتقل فيه السادات 1500 مصري، ثم أيلول الذي غنّت فيروز لأوراقه الصفر. أو نجد شخوصًا أسطورية مثل بغماليون الذي ربما يشير الشاعرُ بقوله:"هوّن عليّ فشل بغماليون"إلى زمن ما بعد الصناعة الراهن الذي وإن نجح في نحت التمثال إلا أنه أخفق في صوغ الروح. بيان تضامني أصدر مثقفون مصريون وعرب بياناً أعلنوا فيه تضامنهم، مع الشاعر حلمي سالم، وقّعه أكثر من أربع مئة كاتب وفنان ومثقف من العالم العربي. وجاء في البيان: في تطور مؤسف يؤكد ظلاميةَ العصر الذي نحياه، واختناق صوت الفكر والإبداع تحت مقاصل الإدارة الثقافية المرتشعة أمام التيارات المستأسدة على الإبداع والمبدعين، من ناحية، وتحت مقاصل الوصاية المتزمتة التي تفشّت اخيراً في العالم العربي، من ناحية ثانية، تحرّكت قضية مجلة"إبداع". واستمعت النيابةُ إلى أقوال الشيخ يوسف البدري الذي كان تقدم ببلاغ ضد الشاعرين المصريين أحمد عبدالمعطي حجازي وحلمي سالم. الأول بصفته رئيس تحرير مجلة"إبداع"التي نشرت قصيدةً قيل أنها تمسُّ المقدسات، والثاني باعتباره صاحب القصيدة. واستمع رئيس نيابة وسط القاهرة إلى أقوال الشيخ يوسف البدري الذي ادعى أن مجلة"إبداع"التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية نشرت قصيدة للشاعر حلمي سالم تحت عنوان"شرفة ليلى مراد"تحوي إساءة الى المقدسات، ويُنتظر أن تستدعي النيابةُ الشاعرين حجازي وسالم لسماع أقوالهما. أرسلت النيابة القصيدة إلى الأزهر لاستطلاع رأيه فيها. وإزاء هذا التطور المؤسف، نهيبُ بالمثقفين المصريين والعرب أن يتضامنوا معاً من أجل رفع حُجُب الظلامية الكثيفة التي تخيّم على المبدعين، وتربض فوق كاهل الفكر والإبداع العربيين، ومن أجل أن ترفع الدولة إرهابها الإداري والبوليسي ضد الفكر والإبداع، ومن أجل ألا يكون الأزهر حكماً على الإبداع والأدب، لأن الحكم للنقد والنقّاد. لا للمصادرة والمحاكمة والترويع، نعم للحوار والسجال النقدي والفكري والحرية للإبداع والمبدعين". ومن الموقعين: : محمود أمين العالم، فريدة النقّاش، ادوار الخراط، جابر عصفور، موسى حوامدة، قاسم حداد، وينب أحمد حفني، رجاء بن سلامة،محمد علي شمس الدين، شوقي بزيع، لينا كريدية، جوزيف عيساوي.