في السياسة لا توجد ألغاز، توجد وقائع ومعلومات وأرقام. ولكن هناك وقائع ظاهرة وأخرى لا تظهر للمتابع بسهولة بسبب طبيعة عمل الأجهزة الاستخبارية وبسبب تراكم الأحداث وتسارعها كما يحصل في العراق الآن. إن خطورة التدخل الإيراني في العراق تكمن هنا في هذه النقطة: في تلك الوقائع والنشاطات الخفية والأخرى المموهة طائفياً التي دأبت عليها الأجهزة الإيرانية منذ سقوط النظام في 9/4/2003، والأهداف الخطيرة التي تنفذ بهدوء وبعيداً من الأنظار ووفقاً للقاعدة العلمية: التراكم الكمي يؤدي إلى تغير نوعي. ومن الضروري أن نعرف بداية أن السلطات الإيرانية تتبع في العراق سياسة"أقول لك ما تريد وأفعلُ ما أُريد"، وهي سياسة ذات وجهين، أي مبتذلة، ويتّبعها عادة طرف"قوي"ضد طرف"مُستضعف"هو هنا العراقيون حكومة وشعباً. فايران أول من اعترف ب"مجلس الحكم"وبالحكومات اللاحقة المعينة والمنتخبة، كما أعلنت مراراً تأييدها للعراق الجديد وللنظام الديموقراطي، لكن في نفس الوقت باشرت أجهزتها الإستخبارية عملها المتعدد الجوانب لتخريب كل ما يمكن تخريبه سياسياً وأمنياً واقتصادياً، وهذا ما سنبينه لاحقاً. لقد أصبح من المعروف وعلى لسان مسؤولين إيرانيين، أن الاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان لم يكن له أن يحدث بتلك السهولة لولا التواطؤ الإيراني. أما المعلومات التي تم تداولها، بُعيد سقوط النظام وتفكك أجهزة الدولة، والتي تقول بأن المرشد الأعلى علي خامنئي اجتمع بمسؤولي أجهزته الأمنية ليقول لهم"إذا أستطعتم أن تتركوا العراق مفككاً ومن دون دولة لمدة عشرين سنة فافعلوا..."، فهي معلومات تؤكدها وقائع السنوات الأربع الماضية. فوقائع التدخل الإيراني أصبحت أكثر من أن تحصى، حيث نشرت الصحف ووكالات الأنباء مئات الصفحات حول تفاصيلها، بدءاً بإدخال العملات المزورة والمخدرات والبضائع المزورة والتالفة، وليس انتهاءً بالتدخل في شؤون الأحزاب الإسلامية واستغلال ظروفها ومستجدات الاحتلال وضغوط الإرهاب المتصاعد، لربطها بالسياسة الإيرانية بطريقة يصعب انفكاك هذه الأحزاب من ربقتها وخططها الجهنمية بقصد الهيمنة على منطقتي الفرات الأوسط والجنوب. والتدخل يعني تورط دولة في شؤون دولة أخرى، وهذا بما ينطوي عليه من عواقب ومضاعفات، لا يمكن أن يحدث اعتباطاً، بل ان هناك أهدافاً محددةً وراء كل ذلك، فما هي أهداف إيران في العراق وما هي خلفياتها؟! نستطيع أن نحدد هنا هدفين رئيسيين. أولاً: تفكيك مرجعية المسلمين الشيعة في النجف الأشرف وتهميشها لمصلحة المرجعية الإيرانية. ولكن لماذا تتحمل الدولة الإيرانية عواقب التدخل من أجل مؤسسة دينية لا جيوش لديها ولا أجهزة؟! السبب يعود إلى طبيعة الدولة الثيوقراطية في إيران، وإلى نظرية ولاية الفقيه تحديداً. فإذا كانت هذه النظرية هي التي تحكم الدولة الإيرانية وتحدد توجهات النظام السياسي، فهي غير معترف بها بالنسبة للمرجعية العراقية التي تؤمن ب"ولاية الأمة"، والتي تضع بينها وبين الدولة، سياسياً وإدارياً، مسافة واضحة لا يمكن تصغيرها أو تكبيرها على ضوء مصالح شخصية أو اجتهادات خاصة، لدرجة منع معها السيد آية الله العظمى علي السيستاني رجال الدين من تحمل أية مسؤوليات إدارية أو سياسية إذا أرادوا أن يحتفظوا بموقعهم كرجال دين. وهذا المبدأ والموقف الحكيم الذي جنب العراقيين المزيد من الإلتباسات والمشاكل الجدية وفي مقدمتها منع"تسييس المؤسسة الدينية"، يُعتبر في إيران مصدر عرقلة جدية لاستمرار وصدقية الحكم الثيوقراطي المتمثلة بموقع الولي الفقيه، أي"المرجع الأعلى للمسلمين الشيعة"المفترض ومؤسسته المهيمنة على أمور الدين والدولة في إيران. فمبدأ"ولاية الأمة"يشكل بالتالي عائقاً جدياً يحول دون تعميم النظرية الإيرانية وأهدافها السياسية عبر استغلال مظلومية المسلمين الشيعة في بعض الدول الإسلامية. وهذه العرقلة ليست هينة ولا قليلة، لأن المرجعية العراقية يمتد عمرها ما يقارب الألف عام، أي أنها المرجعية التاريخية المعروفة بعراقتها الدينية وكثرة مقلديها في مختلف البلدان التي يتواجد فيها المسلمون الشيعة. ولو لم تكن المرجعية العراقية موجودة ومؤثرة لتم تعميم النظرية الإيرانية بسهولة أكبر وبمردودات سياسية أوسع لمصلحة مشاريع الهيمنة الإيرانية. لذلك فإن المطلوب إيرانياً تفكيك وإضعاف المرجعية العراقية. وإذا كان أسلوب تسريب رجال دين مسيّسين إلى حوزة النجف والتأثير على المرجعية من خلالهم قد فشل تقريباً، لأن الهيمنة الإيرانية مرفوضة أساساً عند المسلمين الشيعة العراقيين، فإن هؤلاء بقوا يعملون في الظل مؤثرين على توجهات الأحزاب الإسلامية بشكل مباشر وغير مباشر. وهذا الصراع بين المرجعيتين سيتخذ طابعاً تاريخياً بمرور الزمن، أي أنه ينبغي أن يُحسم في النهاية لمصلحة أحدهما كي تتخذ الأمور صيغتها المستقرة داخل طائفة المسلمين الشيعة، أو ربما استمر باستمرار وجود النظام الثيوقراطي في إيران. لذلك أوكل خامنئي هذه المهمة غير النبيلة لأجهزته الأمنية والمخابراتية الضاربة. وإنما لذلك تعتقد قطاعات واسعة من الرأي العام العراقي بأن هذه الأجهزة هي التي اغتالت المرحوم السيد باقر الحكيم بسبب إصراره على أرجحية مرجعية النجف منذ وصوله الى العراق، وترديده المستمر في خطبه"نعم، نعم للمرجعية"التي كانت تجد تأييداً حاسماً لدى العراقيين. أو أن الجهة التي اغتالت الحكيم إنما خدمت المصلحة الإيرانية عملياً. إن الاحتلال الأميركي وسقوط ديكتاتورية صدام، قد وفرا الفرصة للأجهزة الإيرانية لاستغلال حاجة الأحزاب الإسلامية الشيعية للدعم المادي والتبريرات السياسية، فكانت فرصة إيران الكبيرة، خاصة وأن هذه الأحزاب لم تجد من يساندها ولا حتى من يستمع إليها في البلدان العربية، لذلك دفعها شعورها بالحيف والغربة في محيطها العربي إلى قبول الإختراق الإيراني الذي استغل هذه العواطف المجروحة بكل ما يستطيع. وهذا هو الهدف الثاني، أي اختراق الأحزاب الإسلامية الشيعية، والغاية ليست دعمها وتقوية موقعها في المعادلة العراقية كما يظن البعض، بل اختراقها والسيطرة عليها من الداخل وجعلها تعمل الواحد ضد الآخر، كي تسهل الهيمنة عليها واحداً واحداً، ثم دفعها جميعاً لا للدفاع عن العراقيين في وجه الإرهاب، بل للسيطرة عليهم ومحاربة القوى الوطنية الأخرى خصوصاً في منطقتي الفرات الأوسط والجنوب، أي المنطقة الممتدة من البصرة إلى بغداد، حيث الكتلة السكانية العربية الأكبر والثروات الطبيعية والقوة السياسية الأهم في عموم العراق، ومن هنا تأتي قدرة إيران في التحكم بالمعادلة العراقية ومحاولة فرض أو تمرير شروطها السياسية على الأميركيين في عموم المعادلة السياسية الإقليمية وليس في ما يخص الملف النووي فقط. وأخيراً: أين يتجسد حرص حكام طهران على سكان الفرات الأوسط والجنوب كما يتصور البعض؟! من يعتقد بأن التدخل الإيراني يخدم مصالح المسلمين الشيعة، إنما يدير الماء في طاحونة الأجهزة الإيرانية التي دأبت على ترويج هذه الذريعة الزائفة داخل العراق، والتي سيذهب ضحيتها أهل هذه المنطقة قبل سواهم. ولو كان الإيرانيون صادقين لكان أول ما فعلوه هو أن يجمعوا الأحزاب الإسلامية ويطرحوا عليها أسئلة من قبيل: على ماذا أنتم مختلفون؟! ولماذا كل هذه الإنشقاقات بينكم؟! وعلى أية سلطة تتصارعون وبلدكم محتل والأجهزة الدولية والاقليمية والإرهابية تعيث به فساداً؟! لكن لأن الأجهزة الإيرانية جزءٌ من أسباب هذا الخراب، فهي تعمل على استمرار الاضطرابات داخل محافظات الفرات الأوسط والجنوب لتكريس الظروف الملائمة لاستمرار تواجدها، ولضعضعة وتهميش تلك الأحزاب ضمناً، والتي ستجد بعد فوات الأوان أن أخطر أعدائها هي أجهزة خامنئي، وأن استمرار التدخل الإيراني سيزيد من عزلتها السياسية داخل هذه المحافظات، ولات ساعة مندم! والخطورة عندنا تكمن في إشاعة مفاهيم سياسية مغرضة يتقبلها البعض بسهولة، وتبرر التدخل الإيراني بأريحية غريبة حقاً! وهنا سنكون أمام سذاجة سياسية خطيرة نراها عند بعض العراقيين الذين يرددون، دون تأمل وتدقيق، المقولة التي روجتها الأجهزة الإيرانية وهي ان"ما تفعله إيران في العراق يدخل ضمن منطق السياسة، والسياسة مصالح، وإيران تمتلك أطول حدود مع العراق 1200 كم، وهذا يعني أن لها مصالح سياسية واقتصادية فيه من حقها أن تدافع عنها"! وهذا كلام حق يراد به باطل، فالمصالح الدولية يجب أن تكون مشروعة. فهل تخريب الحياة العراقية والهيمنة على الأحزاب الإسلامية ودفعها كي يضرب بعضها البعض الآخر بقصد إضعافها جميعا والهيمنة عليها، يدخل ضمن باب المصالح المشروعة؟! وإذا كانت الأحزاب المتطرفة التي صنعتها أجهزة خامنئي في البصرة، لترويج الأصولية المتخلفة واغتيال الوطنيين الإسلاميين واليساريين والديموقراطيين وتوتير الأجواء الطائفية بين الشيعة والسنة وترويع المسيحيين والصابئة وتشجيع عصابات الاختطاف والمخدرات، إذا كانت هذه الأعمال تخدم مصالح الولي الفقيه فهل هي تخدم مصالح العراقيين حقاً؟! كل هذا يقودنا إلى التساؤل عن صدقية مقولة"جمهورية إيران الإسلامية"، فهل هي إسلامية حقاً؟! أي هل الإسلام يسمح بكل ما فعلته وتفعله أجهزة خامنئي بالعراقيين، أي ببلد مسلم عانى الديكتاتورية أربعين عاماً وهو أسير الاحتلال الآن؟! هل ما تفعله هذه الأجهزة ينتمي لى الإسلام في شيء؟! الأسئلة كثيرة وكثيرة جداً، لكن الحق كله والملامة كلها يقعان على عاتق السياسيين العراقيين عموماً، الذين أوغلوا في الإنشقاقات بينما مصير بلدهم تعصف به الرياح! * كاتب عراقي.