يحدث كثيراً أن يصدر قائد إداري أو من هو في الصف الثاني في السلم الإداري قرار تعيين أو ترقية، مستغلاً صلاحياته لقريب أو صديق ب"المحسوبية"إلى وظيفة يستطيع من خلالها من فاز بالترقية أو التعيين أو النقل إلى وظيفة مهمة الثراء غير المشروع واستغلال سلطات الوظيفة للأغراض الشخصية و"تنفيع"من يحلو له ب"الواسطة". هذا وضع شائع في الدول النامية، وفي مقدمها بالطبع الدول العربية، ولا يعني هذا خلو الدول الغربية، فالفساد والمحسوبية شائعان فيها مثل غيرها، لكنهما ليسا بخطورة الصورة القاتمة الموجودة في الدول المتخلفة، وليس ذلك لأن الضمائر هناك أنقى وأطهر ولا لأن الناس أزهد وأورع، ولكن لأن هامش الحرية يمكّن من كشف ما يحدث من أساليب الفساد. إن السبب الذي يجعل الفساد والمحسوبية أكثر نقاءً في الدول المتقدمة هو أنهم لا يخجلون من محاربة الفساد ومعاقبة المفسدين وحاملي لواء"المحسوبية"، وهم يعترفون علناً بهذا الداء، وقد بُذِلت الجهود تلو الجهود، للتوصل إلى العلاج من خلال سن القوانين الصارمة والتطبيق العادل لها والمساواة في ذلك بين البشر مهما كان مستوى المنصب الذي يتقلده الموظف في السلم الإداري، ما دام أنه استغل سلطته لمصلحته الشخصية أو لأي كان. وأحد الذين ينتظر العقاب على فساده في الغرب - على رغم قوة دولته، وهي"صديقتنا"أميركا - رئيس البنك الدولي بول وولفوفيتز أحد المحافظين الجدد المتشددين الكارهين للسلام، المتعطشين لشن الحروب واحتلال الدول والمساندين بلا حدود لإسرائيل وأحد مهندسي الحرب على العراق"المسالم"واحتلاله، وذلك أنه استغل منصبه رئيساً للصندوق - الذي تفرض الولاياتالمتحدة أن يكون رئيسه أميركياً -"ليبيِّض وجهه"كما يقول العرب أمام صديقته شاها رضا الليبية الأصل، وليثبت لها مدى حبه وتعلقه بها، فوقع في شر أعماله، إذ أدانته لجنة التأديب بانتهاك القوانين، وبدأ العد التنازلي لمغادرته كرسي رئاسة الصندوق. وأصبح اسم شاها رضا وصديقها الحميم عنواناً لوسائل الإعلام، ومثلاً للفساد والمحسوبية في الغرب الذي علّم العرب أصول الفساد بكل فنونه"العفنة"والذي يقف إعلامه بالمرصاد"كسلطة رابعة"لكل من تسول له نفسه ركوب قافلة الفساد وولوج باب"المحسوبية"السيئة السمعة، وهذا المثل لاستغلال السلطة وقع في فخه وزير بريطاني سابق عندما منح مربية كانت تعمل عند صديقته أفضلية للإقامة في بلاد الضباب، فارغم على ترك منصبه ولحق به رئيس الصندوق الدولي قسراً، على رغم توسله إلى أعضاء مجلس الأمناء لإبقائه في منصبه. إن الفساد في الدول العربية منتشر تفوح رائحته في كل مكان وتزكم الأنوف، و"المحسوبية"ترفع رأسها في معظم جهات الإدارة، وكثيرون هم الذين تسلقوا السلم الوظيفي بالمحسوبية، وقد أثر ذلك أثراً سلبياً عميقاً في الأداء، وتسبب في إجهاض كل عمل جاد وخلاق، ذلك أن"المحسوبية"عند العرب أصبحت أمراً شائعاً، بل ومقبولاً. وإذا كان بول"المسكين"المخلص لصديقته قد زاد مرتبها حفنة من الدولارات بترقيتها وثار عليه الإعلام وتصدر وعشيقته عنوانين الإعلام المقروء والمرئي والمسموع وغيره،"ونطق"القانون لمعاقبته فإن معظم أجهزة القطاع العام والشركات المساهمة التي للدول حصص فيها نجد"المحسوبية"ضاربة أطنابها فيها وبعض المسؤولين فيها يستغلون سلطاتهم لمنفعة القريب والصديق وصديق الصديق، حتى أن التوريث في بعض الوظائف بطريقة أو أخرى أخذ ينتشر. لقد انتشرت"المحسوبية"وأصبحت واقعاً حتى أن ممارسيها ومؤيديها أصبحوا يمارسونها وكأنها عمل خير لا شبهة فيه، حتى أصبحت واضحة للعيان في الجهاز الإداري، وإن كانت في بعض الجهات أكثر وضوحاً من غيرها، حتى أنك قد تجد سكرتيراً يرضى القائد الإداري عنه وينال ثقته قد تقلد مكانة لا تقل عن مكانة من"تبناه"على رغم فقره في المؤهلات والخبرة، وكل ما في جعبته أنه محبوب من قبل من يملك القرار في تلك الجهة أو الهيئة الإدارية وقذفت به"الواسطة"إلى درجات عليا، ومثل هؤلاء يكون أسباباً في انهيار الأجهزة التي يتولى قيادتها بجهله وقلة خبرته وافتقاره الى الضمير، فيتدنى أداء الجهاز الإداري وتهدم مصلحة المواطنين وتختزل حقوقهم فيشعرون بالإحباط واليأس، ويبلغ التذمر قمته أمام اختزال العدل والمساواة والإنصاف، وتقتل الحقوق ويرفع الظلم رأسه ويتم اغتيال الحقوق الطبيعية للناس تحت راية الفساد و"المحسوبية"الظالمة وتتعطل مصالح البلاد والعباد، ويبرز التسلط على أصحاب الحاجات وابتزازهم تحت مظلة الرئيس الكبير الذي شرع الباب للمحسوبية وقرّب الأصحاب والأصدقاء وشركاء المنفعة وأبعد أهل الخبرة والكفاءة العلمية القادرين على العطاء. إن القطاع العام والشركات الكبرى التي تملك الدول حصصاً فيها أو تملكها بالكامل معظمها عرضة للفساد الإداري والمالي و"المحسوبية"والاحتمال كبير أن تكتظ إدارات تلك الأجهزة الإدارية والمالية بعديمي المؤهلات والضمائر الذين تسللوا إلى المناصب القيادية بواسطة من يستغلون صلاحياتهم وسلطاتهم الواسعة. وهؤلاء الانتهازيون المستغلون يفتقرون إلى الوازع الديني والضمير والحس الأخلاقي، لا تجدي معهم كل أنواع الضوابط الرقابية، لأنهم بلغوا شأناً كبيراً في نهج كل الأساليب والوسائل الأكثر التواءً والتفافاً على القوانين واللوائح. ومع هذا التحايل الشنيع ولي عنق القوانين، بل ووضعها في سلة المهملات، ومع ضمان عدم العقاب تضيع حقوق المواطنين وينتابهم الإحباط، بل ويحسون بالظلم وعدم الإنصاف من استغلال بعض كبار القادة الإداريين، ومنهم من هم في الصف الثاني من السلم الإداري ومن دونهم حتى قاعدة الهرم في ذلك السلم لسلطاتهم وصلاحياتهم التي تلحق أضراراً بليغة بالمجتمع والأفراد والمصلحة العامة. ومما يزيد من وطأة المحسوبية وخطورتها أن الذين يصلون إلى مراكز المسؤولية بالواسطة قد يصبحون من أصحاب النفوذ المؤثر، فيتحكمون بمصالح العباد ويتسلطون على أصحاب الحاجات ويبتزونهم، محميين ممن داس على القوانين ليفتح لهم الباب مشرعاً بعد أن هيأ لهم المنصب الذي تمر به مصالح الناس ليتحكموا في حاجاتهم على رغم أنهم متواضعو الخبرة والمؤهلات مقارنة بزملائهم في الجهاز نفسه، لكن"المحسوبية"بوجهها"القبيح"جعلت منهم رقماً لا يمكن تجاوزه في تلك الجهة الإدارية. إن الفساد والرشوة والمحسوبية كلها ترفع رؤوسها عالية مع غياب الرقابة الفعالة والقوانين الصارمة ذات الصياغة الواضحة، فمعظم الإجراءات المطبقة اليوم في البلاد العربية ضد هذه الأمراض التي أصبحت مستعصية الفساد، الرشوة، المحسوبية يمكن وصفها بأنها أصبحت بالية، وعفا عليها الزمن، ومكانها دهاليز المتاحف، في ظل هجمة العولمة وانفتاح الأسواق وبروز منظمة التجارة العالمية التي تتسابق الدول خصوصاً دول العالم الثالث للفوز بعضويتها باعتبارها عند البعض قَدَراً محتوماً لدخول أسواق العالم. إن واجب القائد الإداري والمسؤول الذي يدرك حجم المسؤولية وثقلها أن يبذل أقصى جهده لحمل الأمانة التي حمّلها الله الإنسان فحملها بعد أن أبت السموات والأرض والجبال أن يحملنها قال تعالى:"إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً"الأحزاب: 72. ولذا تبرز أهمية اختيار المسؤول الذي يتحرى الصدق والأمانة والحرص على تحمل المسؤولية، فالتعيين في مختلف المناصب يحتاج إلى عناية ودراية خاصة، بل إن الدول المتقدمة تجعل هؤلاء وعائلاتهم طبقاً للقانون تحت الرقابة، وعند ارتكاب الخطأ لا يعفيهم منصبهم من الخضوع للقانون، وإذا تخلى من اختير عن تحمل الأمانة وجبت محاسبته، لأنه خائن لأمانته، لم يحترم القوانين ولم يراعِ مصالح المجتمع، وقرّب بالمحسوبية أهله وعشيرته من أشكاله، وكما يقولون، فالطيور على أشكالها تقع، والفاسد يبحث عن الفاسدين أمثاله. إن رئيس الصندوق الدولي الذي اختير لجهاز دولي يفترض في رئيسه الشرف والنزاهة والاختيار المنصف استخدم سلطته للبر بصديقته، فسقط، لأن الرقابة ترصده، ولكن في العالم العربي"حيتان"ضخمة يصعب إحصاء عددها استغلت سلطاتها استغلالاً بشعاً! حتى شاع بين الناس اصطلاح فيتامين"واو"تعبيراً عن الواسطة. إن المفسدين والمرتشين وأهل"المحسوبية"يعيشون في أمان في البلاد العربية ولم نسمع إلا النزر القليل عن حساب واحد من هؤلاء"الهوامير"الذين حوّلوا بعض الأجهزة إلى"ضيعة"خاصة - كما يقول أهل الشام - يصولون فيها ويجولون. * مفكر سعودي - رئيس مركز الخليج العربي للطاقة والدراسات الاستراتيجية