عندما أشار اورهان باموك في روايته "ثلج" الى نساء كرديات ينتحرن في تلك المدينة التركية، لم تكن إشارته ادباً متخيلاً، اذ يبدو ان انتحار النساء في البيئة الكردية امر وارد وله أحياناً شعائره وطقوسه. ولكن إذا أضيفت الى هذا المعطى الثقافي ظروف تعزز الميل الى الانتحار فنصبح حيال ظاهرة فعلية. في العاصمة الكردية أربيل شيء من هذا القبيل. الجمعيات النسائية والناشطات الكرديات يتحدثن عن ظاهرة حرق نساء أنفسهن، وعن تفشي جرائم الشرف على نحو واسع في المدينة، وأيضاً عن تداخل الظاهرتين بحيث أصبح من الممكن للأهل الذين يقتلون ابنتهم ان يحرقوها ويضموها الى أرقام المنتحرات حرقاً. الأرقام التي في حوزة الجمعيات النسائية تؤشر الى اتساع الظاهرة والى تزايد عدد"المنتحرات"عاماً بعد عام. لكن اللافت هو انضمام الرجال الى قوائم المنتحرين أو الحارقين أنفسهم، ويبدو ان وراء إقدام الرجال على ذلك أسباباً وظروفاً تتصل أيضاً بالأسباب والظروف التي تدفع النساء الى الانتحار حرقاً أو الموت في ظروف غامضة غالباً ما تكون البيئة العائلية أو العشائرية على صلة بها. ويشير إحصاء قامت به منظمة"تمكين المرأة"في كردستان العراق الى ان العام 2006 شهد قيام 545 شخصاً بحرق أنفسهم في مدينة أربيل التي يسكنها نحو مليون مواطن، 333 منهم نساء و212 من الرجال. الإحصاء لا يشير الى عدد الناجين منهم ولكن رئيسة الجمعية سوزان محمد عارف تقول ان الناجيات والناجين قلة، وان هذا الإحصاء تم بالاعتماد على سجلات المستشفيات في اربيل وهو لا يشمل جرائم شرف عادية لم يقدم مرتكبوها على حرق ضحاياهم. والإشارة الأخيرة سببها اعتقاد عارف ان الكثير من حوادث إحراق النساء أنفسهن وراءها دوافع"غسل الشرف". وفي خانة الفئات العمرية يشير الإحصاء الى ان نحو 400 من الذين اقدموا على حرق أنفسهم في العام 2006 هم من الفئة العمرية بين 14 عاماً و29 عاماً. اما في العام 2005 فيشير إحصاء قامت به مؤسسة"النجدة الشعبية"الى ان 203 أشخاص فقدوا الحياة بعد إحراق أنفسهم في مدينة أربيل 97 في المئة منهم من فئة الشباب، من دون ان يذكر الإحصاء الجنس. هذه الأرقام وان لم تخدم تحليلاً دقيقاً للظاهرة ولكنها تؤشر على الأقل الى اتساع الظاهرة بين العامين 2005 و2006 والى ان أعداد النساء من بين المنتحرين الأكراد يفوق عدد المنتحرين الرجال. وتشمل هذه الأرقام مدينة أربيل فقط التي تضم ربع سكان الإقليم الذين يبلغ عددهم نحو أربعة ملايين نسمة. لكن أربيل بحسب متابعي هذه الظاهرة هي اكثر مدينة تشهد حوادث من هذا النوع. ليست المدينة نفسها وانما تجمعات سكانية تحيط بها ويقيم فيها ضحايا عمليات الأنفال من الذين قام النظام العراقي السابق بإحراق قراهم في الجبال وقام بتجميعهم في مجمعات محيطة بالمدن في ثمانينات القرن الماضي. وتجزم سوزان عارف بحقيقة تفشي ظاهرة إحراق النفس في هذه التجمعات المحيطة بمدينة أربيل، وتشير أيضاً الى منطقة كارميان في محيط كركوك التي تضم مجمعاً كبيراً. لاتساع الظاهرة على ما يبدو علاقة بحال التبدل الكبير الذي يصيب المنطقة الكردية من العراق، فحال الازدهار الاقتصادي والعمراني تترافق مع اتساع هوامش المدن ومع نزوح كبير من الأرياف بحيث انتقلت عشائر كردية بأكملها الى مناطق في محيط المدن وخصوصاً أربيل. وتقول رئيسة لجنة المرأة في البرلمان الكردي بخشان زنكنة:"هناك تقدم كبير في وضع المرأة الكردية وفي الوقت نفسه هناك ارتداد في مجالات أخرى، فمن جهة هناك 29 امرأة أعضاء في البرلمان وثلاث وزيرات في الحكومة الإقليمية ومديرات عامات كثيرات، وعدد الطالبات يفوق عدد الطلاب في الجامعات، ومن جهة أخرى هناك ارتفاع كبير في جرائم الشرف وفي إقدام نساء على حرق أنفسهن أو إقدام عائلاتهن على إحراقهن". إشارات كثيرة يمكن التقاطها وسط تكتم الأكراد على هذه الظاهرة، فالناشطات النسائيات حذرات من الإدلاء بكل المعطيات المتعلقة بها، لأن ذلك قد يعوق عملهن في رصدها ومتابعتها، كما ان تفشيها مرتبط أيضاً بردود أفعال السلطات حيالها. فالقانون الإقليمي في كردستان لا يعطي أسباباً تخفيفية لمرتكب جريمة الشرف، ولكن غالباً ما يكون مرتكبها صاحب نفوذ وسطوة وبخاصة في الوسط العشائري، وهذا الوسط هو عصب رئيس في تركيبة السلطة والدولة، وهذا يعني سهولة تفلت المرتكب من العقاب عبر إقفال دعوى القتل وتحويلها انتحاراً. وتقول زنكنة:"بالأمس حضرت الى البرلمان ناشطات نسائيات أبلغنني أن رجلاً قتل امرأتين لدواعي الشرف، حكم عليه بالإعدام، ولكن عشيرته أجرت صلحاً عشائرياً وهو اليوم يتهيأ للخروج من السجن". وتشير سوزان عارف الى فئة أخرى من مرتكبي جرائم الشرف وهم الفتية قبل سن البلوغ الذين لا تسري عليهم القوانين وهو ما يدفع أهلهم الى تحريضهم على قتل شقيقاتهم أو أقاربهم. وتقول عارف:"المرأة تقتل بسهولة وبكل بساطة وفي احيان كثيرة يكون القاتل رجلاً عادياً ولكن النظام العشائري يحميه". حرق النفس او حرق الضحية بعد قتلها هو الوسيلة الأكثر انتشاراً في كردستان بحسب ما تؤكد جوان بابان رئيسة"جمعية بيري النسائية". وعندما تتحدث الناشطات النسائيات عن إحراق النساء أنفسهن يبدأن بتعداد وسائل الحرق وأساليبه. غالباً ما يتم ذلك في الحمام الذي تعده المنتحرة قبل ساعات لكي يكون الموقد الذي ستحرق نفسها فيه."بابور الكاز"هو إحدى الوسائل المعتمدة، وفي أحيان كثير قارورات الغاز وهي أسرع اشتعالاً وقتلاً من غيرها. المطبخ هو المكان الثاني للانتحار أو القتل لا سيما وان وسائل إشعال النار متوافرة فيه. أما سبب اللجوء الى الإحراق دون غيره من وسائل الانتحار فالأرجح ان عوامل كثيرة تضافرت لشيوعه أولها ان المجتمع الكردي هو مجتمع ريفي في الأساس، وإحراق النفس هو الوسيلة المتاحة أمام المرأة في هذا المجتمع، ومنها أيضاً ان الإحراق هو وسيلة لإخفاء جريمة محتملة وتحويلها الى عملية انتحار. علماً ان هذا لا يعني ان الانتحار منتشر في الريف الكردي، على قدر ما هو موجود في الوعي الريفي القديم والتقليدي بصفته احتمالاً للنجاة، اذ لم تسجل الناشطات في أربيل حوادث انتحار تذكر في هذا الريف. تصهر أربيل اليوم فئات غير متجانسة من السكان الأكراد، ويتولى"ازدهارها"تبديل حياتهم على نحو غير مسبوق. العشائر النازحة الى المجمعات السكنية في محيط المدينة صار أبناؤها على احتكاك بأنماط عيش وسلوك واتصال تعرض أعرافهم وتقاليدهم الى مخاطر واحتمالات يُرد عليها بشكل عنيف. شابات كثيرات في هذه المجمعات بدأن بالانتساب الى الجامعات، وأخريات أجبرتهن ظروف العيش في المدينة على العمل. بعض حارقات أنفسهن الكرديات طالبات مدارس وجامعات. وعندما تُروى حكاياتهن يُشعرك الراوي كم هو سهل وممكن ما أتين عليه. سوزان عارف تروي حكاية طالبتين ثانويتين ضبطت مديرة مدرستهما احداهن تتحدث مع شاب من خلف سور المدرسة فيما تقوم الفتاة الثانية بالمراقبة والتحقق من ان أحداً لا يرى زميلتها. أبلغت المديرة التلميذتين بأنها ستخبر أهلهما، فردت التلميذتان بأنهما ستحرقان نفسيهما في حال أبلغت المديرة الأهل، لكن الأخيرة لم تكترث لتهديداتهما وأبلغت أهلهما، فقامت التلميذتان في اليوم نفسه بإحراق نفسيهما في حمامي منزليهما وقضتا حرقاً واختناقاً. السهولة في الأقدام على الانتحار لا تشعرك بأنك حيال مأساة، كذلك لا تشعرك حوادث قتل النساء انك حيال جريمة قتل. الأمر يتطلب وقتاً من التأمل في ما تسمع حتى تتحقق من فداحته. فالروايات التي تنقلها ناشطات حقوق المرأة في كردستان متناسلة ولا حدود لوقائعها. زواج البدل وما ينجم عنه من مآسٍ، والطلاق السريع وما يثيره من شكوك. حكايات كثيرة توردها الناشطات في سياق عرضهن للظاهرة. يتحدثن مثلاً عن شابة شاء حظها ان"يهبها"والدها لشاب هو شقيق زوجة اخيها كان وعد أهله بمبادلتهم إياها بابنتهم حال بلوغها الخامسة عشرة من العمر. الشاب الذي من المفترض ان تتزوجه كان مرتبطاً بعلاقة عاطفية بشابة أخرى، وأبلغ أهله بقراره عدم الزواج منها. أهل الشاب هالهم رفض ابنهم الفتاة، وابلغوه بضرورة"إثبات رجولته"مهددينه بحرمانه بنوتهم. رضخ الشاب لضغوط أهله وتزوج من الفتاة، مخططاً لطلاق قريب. وبعد أيام من المعاملة القاسية في منزل الزوج تعرضت خلالها لأنواع من الضرب كادت تودي بحياتها، هربت الفتاة الى منزل أهلها. استقبلت بارتياب وشعرت بأن والدها يعد لها أمراً ما. في الليل لاحظت انه أشعل ناراً في الحمام معتقداً أنها نائمة. هربت من النافذة الى منزل أقاربها الذين تفهموا قصتها وتولوا حمايتها من والدها. وبعد اشهر قليلة دُبرت لها زيجة من رجل يبلغ الخامسة والسبعين هي التي لم تبلغ بعد السادسة عشرة من عمرها. تقول بخشان زنكنة:"ان الوضع الاقتصادي في كردستان صعب جداً وان المجتمع الكردي عاش في السنوات الأربع الأخيرة انطلاقة كبيرة غير مهيأ لها. وضع اقتصادي يشهد نمواً وموجة اعمار واسعة في المدن وبنية استهلاكية غير منتجة". تسوق زنكنة هذه الوقائع لتشير الى ما أصاب البنية الاجتماعية من تبدلات. وتضيف:"لدى فئة من السكان كل شيء متوافر، وشابات كثيرات غير مقتدرات يعايشن ما صار بمتناول بنات جيلهن من دون ان يستطعن بلوغه فيلجأن الى البحث عن أساليب أخرى للحصول عليه، وهي طريق تؤدي الى الانتحار او القتل في المجتمع الكردي". تجمع النساء اللواتي التقت"الحياة"بهن على الاعتقاد بدور للأوضاع الاقتصادية وما رافقها من تبدلات اجتماعية في رفع معدل انتحار النساء وقتلهن، وان كن لا يهملن عوامل ثقافية أخرى تجعل من المرأة هدفاً سهلاً وخصوصاً في البيئة العشائرية المتمدينة. ويقول الباحث العراقي فالح عبد الجبار"ان العشيرة الكردية قوية في الأرياف ونفوذ مشايخها هائل اذا ما قيس بنفوذ شيوخ العشائر العربية، والتقاليد القبلية قوية ونافذة وخصوصاً في اربيل وفي جنوب السليمانية. وهناك نوعان من العشائر الكردية: عشيرة منقسمة بين آغاوات وفلاحين وغالبيتها منتشرة في القرى، وعشيرة فلاحين وسكان". ومن الواضح ان سلطة شيخ العشيرة تتعرض لامتحانات عدة في اربيل بعد انتقال العشيرة الى المدينة وتبدل وظائفها. وتشير إحصاءات الجمعيات النسائية الى معدلات أخرى تؤكد حقيقة ارتباط تصاعد ظواهر العنف الأسري بحركة"التحديث"وپ"الازدهار"التي تعيشها المدينة منذ سنوات. فحالات الطلاق المسجلة في المحاكم الشرعية في اربيل منذ العام 2000 وحتى العام 2005 ارتفعت أعدادها من 1642 حالة عام 2000 الى 2283 حالة في العام 2005 فيما شهد العام 2003 وهو العام الذي شهد حرب إسقاط النظام السابق، تراجعاً طفيفاً في حالات الطلاق المسجلة. وتشير سوزان عارف الى عدم فاعلية القوانين في مواجهة جرائم قتل النساء في الإقليم"فمن يقتل النساء يجب ان يكون قوياً ليحمي نفسه، والقوة تستمد من العشيرة والأخيرة شريك أساسي في السلطة"، وتضيف:"اصدروا أخيراً قانوناً يمنع تعدد الزوجات، ولكن من يخرق هذا القانون تحديداً هم المسؤولون وشيوخ العشائر الذين في إمكانهم الزواج من اكثر من امرأة". وتقول عارف:"غالباً ما يقفل التحقيق في حوادث قتل النساء وتسجل على انها انتحار". اما أسباب قتل النساء فهي وقائع عادية وبسيطة، فمجرد الشك بعلاقة تربطها بشاب هو سبب لقتل الفتاة. رسالة بسيطة او محادثة هاتفية تؤديان في حالات كثيرة الى القتل. اربيل تعرض أبناءها اليوم للكثير من هذه الاحتمالات، فالمدينة مفتوحة على تغيّرات كبيرة، والنساء فيها بدأن بالظهور في الأماكن العامة ومواقع العمل والدراسة، وفي مقابل ذلك ما زالت العشيرة ركيزة الحياة المدينية كما كانت في الريف. وتضاف الى ذلك الضائقات التي تبعثها المدن الصاعدة بأبنائها، وهو أمر يجعل من الرجال ايضاً عرضة لحوادث مماثلة لتلك التي تصيب النساء. فأرقام انتحار الرجال في اربيل ليست قليلة. 212 رجلاً اقدموا على قتل أنفسهم في العام 2006. الأكلاف المرتفعة للحياة صارت عبئاً فعلياً، وهؤلاء الرجال تعدهم عشائرهم باكراً لتولي شؤونهم، وفشلهم بذلك يقارب العار، ويكاد"يجرح الشرف". في الذاكرة البعيدة علاج ناجع: الدخول الى الحمام وإشعال النار والموت احتجاجاً على صعوبة الحياة.