الأصوات المنبعثة من قاعة الدرس في مبنى الجامعة الأميركية في القاهرة أبعد ما تكون عن تلك الأصوات المعتادة من صوت الأستاذ وهو يؤكد نظرية ما في الفيزياء، أو حدثاً مهماً في تاريخ الشرق الأوسط، أو مبدأً معروفاً في إدارة الأعمال. ولم تكن حتى أصوات الطلاب وهم يسعلون أو يعطسون كما هي العادة في المحاضرات الطويلة، بل كان الصوت أشبه بذلك الذي ينبعث من عمق مسارح الأوبرا حيث تستعد الأوركسترا للحفل الغنائي حيناً، وأحياناً أخرى أشبه بالصدى الذي يتردد على بعد مسافة من صالات الديسكو بموسيقاها الصاخبة. وفجأه سكت الصوت وفتح الباب وظهرت بشائر الطلاب والطالبات وهم يهمون بالخروج. وعلى عكس العيون الناعسة والأفواه التي تعبت من كثرة التثاؤب اللاإرادي والذي يفرضه الجو العام في معظم المحاضرات، خرج الجميع وكأنهم انتهوا للتو من جلسة سمر أو حصر رياضية وعلامات النشاط والحيوية تقفز من عيونهم. ولم لا؟ فهي محاضرة غير معتادة غذت عقولهم وقلوبهم ونفثت الأمل في نفس كل من يحلم بأن يكون فناناً موسيقياً بشكل أو بآخر. في داخل القاعة بقي شخصان. أحدهما من الشرق والثاني من الغرب. الأول يعزف على القانون والثاني يتابعه بكاميرا فيديو متناهية الصغر ويطلب منه سماع مقام نهاوند تارة ومقام راست تارة أخرى، ثم يسأله عن ضبط الأوتار وحبك الدقة عليها وأسئلة أخرى كثيرة تنم عن تخصص موسيقي وتذوق للأصوات المنبعثة من الآلة الأصيلة. وينصرف أستاذ القانون ويبقى حامل الكاميرا البالغة الصغر فيضعها في حقيبته ولا يبقى أمامه سوى جهاز كومبيوتر"لاب توب"متناهي الصغر أيضاً وعدد ضخم من الاسطوانات المدمجة. إنه الأميركي هنري بانيون الذي يحمل درجة الدكتوراة في تعليم الموسيقى والنظريات الموسيقية، والأهم من ذلك أنه يحمل إيمانا عميقاً بدور التكنولوجيا الحديثة وتقنية المعلومات في الموسيقى لا سيما بالنسبة إلى المواهب الشابة. وإضافة إلى الدرجة العلمية والإيمان العملي بالتكنولوجيا، يحمل معه كل ما يمكن أن تتخيله من برامج وأفكار قادرة على تحويل ما يقوله ويحاضر عنه إلى نغمات مسموعة. زار بانيون الجامعة الأميركية كأستاذ متميز زائر في مجال الموسيقى وفتح نافذة موسيقية جديدة تماماً أمام الطلاب المهتمين والدارسين للموسيقى. يقول بانيون إن"تكنولوجيا الموسيقى"مجال جديد نسبياً ويعني استخدام التكنولوجيا لدعم وتمكين الموسيقى والموسيقيين. التكنولوجيا، بشكل أو بآخر، موجودة منذ عقود، ولكن أكاديميات الموسيقى حول العالم تعترف هذه الأيام بأن التكنولوجيا الجديدة المتاحة لتأليف الموسيقى وتسجيلها قلبت حال صناعة الموسيقى في العالم رأساً على عقب". وما يقوم به بانيون هو إدماج هذه التكنولوجيا الحديثة كجزء لا يتجزأ ضمن مناهج تعليم الموسيقى التي يدرسها للشباب في الكليات والأكاديميات الموسيقية. يشبه بانيون هذا الدمج وكأنه"آلة موسيقية جديدة". بمعنى آخر لقد تم ابتكار"موسيقي افتراضي"في خدمة الموسيقي الإنسان من أجل تقديم نوعية أفضل من الموسيقى. كلمات بانيون أدت مفعول السحر لدى الطلاب والطالبات الذين يسمعونه ويحلمون بخوض مضمار عالم الموسيقى الذي توسع وتمدد في السنوات الأخيرة ليستوعب ليس فقط الموسيقيين التقليديين الذين يؤلفون ويوزعون ويعزفون الموسيقى، ولكنه بات يشمل مجالات لا حصر لها من موسيقى ألعاب الكومبيوتر والفيديو، للمحاضرات التقنية، لمواقع الإنترنت، لمدن الملاهي والعشرات غيرها من المجالات التي تستقطب اعداداً متزايدة من الموسيقيين الشباب وتحتاج إلى أفكارهم الإبداعية الشابة. يوضح بانيون في هذا الصدد أن المعرفة الموسيقية والإبداع والموهبة عوامل تقف على قدم المساواة مع معرفة التكنولوجيا المستخدمة لترجمتها للجماهير المختلفة، وهو ما يفعله في قاعات الدرس. وكي يقرب الفكرة أكثر إلى الأذهان يقول بانيون إنه في الماضي القريب كان أحدهم يؤلف الموسيقى ويكتب نوتاتها، ثم يقسم الأجزاء المختلفة مما ألفه لكل عازف على حدة، ثم يرسلها لدار متخصصة ليتم نشرها، أما اليوم فهو يؤلف الموسيقى التي تظهر على شاشة الكومبيوتر على هيئة علامات موسيقية وفي الوقت نفسه يسمعها بينما يؤلفها من خلال ما يعرف ب midi وهي musical instrument digital interface أي الرقمنة الحدودية للآلة الموسيقية التي تسمح للآلات الموسيقية بالتواصل مع الكومبيوتر، وكتابة الجمل الموسيقية على هيئة نوتة موسيقية، كما تتيح تسجيل الموسيقى وتحوير شكلها. يقول:"من خلال تقنية MIDI يمكنني تحويل مقطوعة موسيقية على البيانو إلى وتريات، وهكذا". ولأن بانيني لا يعتمد على خلفية أكاديمية فقط، بل يحمل معه إلى قاعة الدرس ما يعشقه الطلاب الشباب ألا وهو الخبرة الموسيقية الحقيقية فإن ما يقوله لهم يترجمه في التو واللحظة إلى نماذج حية يسمعونها على أجهزة الديسك مان وال IPod التي لا تفارقهم، فهو مؤلف وموزع ومنسق موسيقي لعدد من أبرز نجوم الغناء في الغرب. اسمه مرتبط بستيفي وندر وأريثا فرانكلين وشاكا خان وغيرهم، لذا فهو يحاضر عن التقنيات الموسيقية ثم يسمعهم Past time paradise لستيفي وندر بتوزيعاتها المختلفة. يحدثهم عن دمج الآلات الوترية ثم يستمعون إلى نموذج حي يدمجه أمامهم وهكذا. لكن هل ستؤثر هذه التقنيات البالغة التقدم سلباً على الموهبة الموسيقية؟ يقول بانيون:"هذه التقنيات صممت لتساعد الشباب الصغار الذين يحبون الموسيقى على صناعة موسيقى، وتمنحهم عدداً من الوسائل والأدوات التي تمكنهم من ذلك. إلا أن ذلك يدعو البعض للاعتقاد بأننا لم نعد في حاجة إلى وجود موسيقيين من البشر ما دامت التكنولوجيا قادرة على صنع موسيقى، وهذا ليس حقيقياً أو على الأقل لن يكون في إمكان أولئك تقديم موسيقى متميزة وتلقى قبولاً. فالموسيقى من دون عقل مبدع لها ليست موسيقى ولن تعيش". من جهة أخرى، فإن ما يعلمه بانيون للطلاب والطالبات ليس صناعة الموسيقى وتكوينها فقط، بل يعلمهم تقديرها واحترامها وتذوقها وفهمها وهو ما لا يمكن لبرامج الكومبيوتر مهما بلغت من تقدم أن تفعله. ويحرص بانيون قبل أن يطلق سراح طلابه في كل محاضرة على توجيه رسالة غير مباشرة لهم قوامها أن لا توجد تقنية تستطيع أن تحل محل معرفة موسيقية صلبة قائمة على موهبة فنية ومعرفة علمية واخيراً وليس آخراً المشاركة الفعلية في فرقة موسيقية حقيقية من العازفين والعازفات". ويقول بانيون:"رغم كل ما أحمله وأستخدمه من برامج وتقنيات، اعتمد في عملي الموسيقي على فرق أوركسترا كبيرة العدد لا يقل عددها عن مئة عازف، ولكنني أعتمد في الوقت نفسه على التقنية الحديثة في إدارتها". وبكلمات أخرى يشرح بانيون وجهة نظره في شأن الموسيقى والتكنولوجيا، وهي وجهة النظر التي يصفق لها الطلاب دائماً. يقول:"هذه التقنيات الحديثة، لا سيما المستخدمة في كتابة النوتة الموسيقية وتسجيل المقطوعات، نجحت في دمقرطة صناعة الموسيقى. ففي الماضي كان الذهاب إلى استوديو لاستخدام اجهزته لتسجيل مقطوعة موسيقية أمراً بالغ الكلفة، وكثيراً ما كان غير متاح للجميع من الأصل، أما حالياً فيمكن للموسيقي الشاب أن ينجز عمله الفني وهو جالس في غرفته أمام جهاز الكومبيوتر الخاص به والمزود بالبرامج اللازمة إضافة بالطبع إلى المعرفة والموهبة". وهكذا يتنقل بانيون مدير"أكاديمية تكنولوجيا الموسيقى"في جامعة الاباما برمنغهام الأميركية من الأوركسترا الملكية الفلهارموني إلى أوركسترا مسرح البولشوي إلى أوركسترا باريس ومنها إلى أغاني ستيفي ووندر ونجوم البوب الغربي من أريثا فرانكلين وشاكا خان إلى نيل جائزتي"غرامي"وجائزتي"دوف"وقائمة طويلة من الجوائز الموسيقية الأميركية ومن كل ذلك إلى قاعات الدرس في الغرب وفي مصر حيث ينقل خبراته الموسيقية العلمية والواقعية إلى الشباب والشابات الراغبين في خوض هذا المجال المفتوح على مصراعيه. بل انه تمكن كذلك من استغلال التكنولوجيا الحديثة في التعليم فبدأ بتدريس منهج موسيقي من خلال برنامج"التعليم من بعد"من برمنغهام ألاباما حيث يقيم إلى هاواي، وذلك"إمعاناً في المزيد من دمقرطة الموسيقى"كما يقول.