تشكلت صورة البصرة في أذهان كثيرين من العرب على انها قصبة إيرانية، وعلى رغم التعسف الذي تعرضت له، فالمدينة العراقية الجنوبية تحرص على هويتها العربية التي عرفت بها عبر الزمن. ولا أحد في البصرة يستطيع نفي التدخل الايراني مثلما لا أحد يستطيع تأكيده، ويكاد يجمع كل المسؤولين غير المنتفعين على تأكيد وجوده، بينما يجمع المستفيدون منه على نفيه، وبين النفي والتأكيد هناك مواطن يُسحق ويُمتهن في ابسط متطلبات حياته، وهناك مدينة يتعرض مواطنوها للطعن في انتمائهم مثلما يتعرض تاريخها للتشويه أمام أعين وكاميرات قوات التحالف. السياسيون في المدينة غير منشغلين بهموم مواطنيها فهم منشغلون في تدبير أنفسهم وفي ادارة معاركهم الخاصة مع الكتل السياسية المنافسة. والبصرة وان كانت من مدن الجنوب الهادئة نسبياً، لكنها وبحسب كثيرين"تنتظر يوماً لا تشبهه أيامها السود كلها". الأتهامات المتبادلة بين أعضاء مجلس المحافظة وكذلك القادة الأمنيين وبين صيادي الأسماك وأصحاب القطع البحرية في شأن السؤولية عن تهريب النفط المكرر والخام أحيانا، تتكرر كل يوم في الصحف المحلية، ويطالب الصيادون بحصتهم من الوقود التي تراجعت إلى 10 في المئة من النسبة التي كانت مخصصة لهم أيام النظام السابق. وبين مطالبة هؤلاء بالزيادة وموقف المجلس وشركة توزيع المنتوجات النفطية يتناقل الناس قصص ضلوع تيارات وأحزاب سياسية في عمليات التهريب، وإن بدا أصحابها خلف الصورة حيث تتقدمهم صور عصابات من المهربين المحترفين الذين ورثوا المهنة من أيام النظام السابق وفي ايام البرنامج الشهير للنفط مقابل الغذاء. وفي أكثر من مناسبة قلل المهندس جبار اللعيبي المدير العام لشركة نفط الجنوب من أهمية ما ينشر من أخبار خاصة بتهريب النفط قائلاً:"إن قطرة واحدة من النفط الخام لا يمكن تهريبها عبر منافذ التصدير في أم قصر والفاو خاصة بعد إكمال نصب العدادات من قبل الشركة الأميركية". هذه القضية تسببت بأزمة قلبية للعيبي نقل إثرها إلى المستشفى بعد تصريح للنائب جابر خليفة جابر من كتلة الفضيلة في البصرة قال فيه:"إن الشركة الأميركية لم تكمل نصب العدادات"وهكذا يتقاطع النفطي مع السياسي في أكثر من مناسبة. ويشير ضباط كبار في مفرزة خفر السواحل التابعة لشرطة حدود المنطقة الرابعة في البصرة إلى أن تهريب الوقود مازال قائما ? والمكرر منه في شكل خاص، حيث يباع في عرض البحر إلى تجار كبار لكن بسعر أقل مما كان عليه قبل عام، هذا بالاضافة الى تهريب السيارات. ويؤكد العميد حكيم جاسم حجام آمر خفر السواحل في البصرة أن رجاله أغرقوا في 26-3-2007 سفينة على متنها 30 سيارة من أصل أربع سفن كانت محملة بسيارات مهربة في منطقة رأس البيشة بالفاو عند مدخل خليج البصرة، مشيراً إلى أن المافيات تقوم بتهريب النفط واستقبال البواخر المحملة بالسيارات غير المسموح باستيرادها. وفي زمن النظام السابق كان مواطنون من مدينة الفاو يتهمون القوات الدولية التي كانت تراقب آلية عمل برنامج النفط مقابل الغذاء بتغطية مهربي النفط مقابل اتاوات. وتكررت العملية مع القوات البريطانية بعد سقوط النظام، ويبدو أن القوات الأميركية التي تبسط نفوذها على هذه البقعة لحماية ناقلات النفط لا تكترث ببواخر التهريب القادمة والمغادرة، بحسب رواية أحد ضباط الشرطة. ويقول مستشار وزير النقل في المنطقة الجنوبية تامر الفتلاوي إن ذلك"شجع المهربين على القيام بعمليات تهريب متبادلة واسعة النطاق"موضحاً أن"السلطات الأمنية العراقية ممنوعة من التدخل باعتبار أن المنطقة تحت نفوذ القوات الأجنبية". هذه المنطقة التي يبلغ عمق المياه فيها 12 ميلاً، يعمل المهربون فيها على استخدام زوارق مزودة برافعات لتفريغ حمولات البواخر في حين يجري تهريب المنتجات النفطية المكررة كالديزل بحيث صارت جماعات التهريب تسمى هنا"مافيا الديزل". ويلاقي ضباط الشرطة والجيش من غير المنتمين إلى"الأحزاب الإسلامية"صعوبة في عملهم جراء تدخل أقرانهم من الحزبيين، ويتحدث بعض المراقبين عن العميد حكيم بأنه واحد من أولئك الضباط الناشطين في مكافحة التهريب لكنه يلاقي صعوبة كبيرة حين يصطدم ببعض المهربين الذين يعملون لصالح الأحزاب، اذ ُيعتقد أن تمويل مافيات التهريب وتسليحها وبدلات إيجارات مقارها يأتي من خلال عمليات التهريب هذه. ويؤكد العميد جسام أن الموانئ في البصرة تقع تحت سيطرة قوات عراقية، وإن فصيلته التي تتقاسم الأمن مع القوة البحرية مستعدة لفرض سيطرتها على هذه المنطقة ومنع عمليات التهريب لكنه اشترط تزويدها بزوارق مدرعة مماثلة للزوارق التي يستخدمها المهربون. ويشكل تعدّد مراكز النفوذ في البصرة عقبة كبيرة في وجه تحقيق الأمن الاقتصادي والسياسي على حد سواء. ويرصد ضابط في أحد الأجهزة الأمنية حالات الفساد الإداري فيقول"إن بعض المفارز تقوم بالقبض على شاحنات وزوارق محملة بمواد مهربة أو داخلة إلى الحدود العراقية وهي تحمل مواد غذائية فاسدة أو نافذة الصلاحية أو مخالفة للتعليمات، إلا أن المتورطين سرعان ما يتم إطلاق سراحهم من قبل المتنفذين في المحافظة لأنهم يتعرضون أيضاً لضغوط كبيرة في وقت لا تتوفر فيه الحماية لموظف الدولة، ما أوصل عناصر وضباط الدوائر المعنية بمطاردة عمليات التهريب إلى قناعة بعدم جدوى حملات المكافحة والمطاردة التي قتل من جرائها عدد من المنتسبين". وكان سماسرة النفط المهرب وخاصة زيت الكاز الذي يتمتع بأسواق ساخنة في عدد من دول المنطقة قد اتخذوا من جزيرة الداكير - وسط المدينة- مركزاً لأعمالهم حيث يجري فيها التعامل العلني بصوت هادئ وأحيانا بأصوات عالية يسمع صداها في منطقة العشار التجارية. وتشكل المسافات الطويلة التي تقطعها أنابيب النفط، معضلة لدى الشرطة العراقية المكلفة بحمايتها، إضافة إلى قدمها وطرق امتدادها ما شجع البعض على إحداث ثقوب في هذه الأنابيب ونصب مضخات لتعبئة الصهاريج والسيارات المعدة للتهريب. ويقول شرطي في نقطة تفتيش على طريق أبي الخصيب 30 كيلومتراً جنوبالبصرة:"الضابط، آمر النقطة لا يتدخل في منع سائقي شاحنات النفط المهرب خشية ملاحقتهم له فيبقى داخل كابينة التفتيش ويتركنا نحسم الأمر إما بتسهيل مرورهم مقابل بعض النقود أو التصادم معهم وبالتالي نحن من يتحمل تبعات المشكلة". وكانت الحكومة المحلية أعلنت العام الماضي إنها تمكنت من إغلاق 24 مرفأ غير شرعي على شط العرب وصادرت 26 يختاً و8 سفن و17 زورقاً صغيراً، ويتم الإعلان بين فترة وأخرى عن سيطرة الشرطة على منافذ وصهاريج محملة بالوقود أو بالحيوانات يتم عرضها في مزاد علني لدى مديرية الجمارك وغالباً ما يحضر المهرب نفسه ليعاود شراءها ثانية بأسعار مناسبة جداً، بسبب عدم تدخل مضاربين آخرين خشية إنتقامه منهم. ويخشى المواطنون في البصرة من تعقد الأزمة بين الإيرانيين والبريطانيين لاعتقادهم بان البصرة ستكون مسرحاً لرصاص الطرفين، فقد تقدم إيران على ضرب مقرات الجيش البريطاني في المدينة بأسلحتها البعيدة وقد تكتفي بعملائها المحليين من الذين مازالوا يتقاضون رواتب من الحرس الثوري، والذين يتوقع السكان انتشارهم في شوارع البصرة حال حدوث المواجهة بحسب بعض التقديرات، فيما يتحدث مراقبون عن مجموعات عراقية من قوات"بدر"و"جيش المهدي"تتلقى تدريبات في إيران استعداداً لحرب شوارع محتملة اذا قامت أميركا بضرب مدن في العمق الإيراني. فالبصرة تعتبر عمقاً إيرانياً إضافياً في نظر هؤلاء. وتؤكد مصادر مقربة من المحافظ انه كان على يقين من وقوع المواجهة بين تيار الفضيلة حزبه وبين"جيش المهدي"قبل حدوثها الشهر الماضي، وان إيران هي التي تقف وراء ذلك وليس"التيار الصدري"وهذا ما يفسر إقدامه المحافظ على تشكيل قوة من أفراد العشائر لا يتمتع أعضاؤها بولاء لحزب معين، بعد أن نجح بتغيير قائد الفرقة العاشرة اللواء عبد اللطيف ثعبان ،وهو في طريقه إلى تغيير اللواء محمد الموسوي قائد الشرطة الحالي لاتهامهما بالتقصير والتحزب. المواطن ينظر بعينه الى تقصير الحكومة المحلية وهو يرى بيوت أعضائها محاطة بالعشرات من الجنود والأسلحة الحديثة ما رفع سعر رشاش ال BKC في المدينة إلى خمسة ملايين دينار عراقي، بينما هو لا يستطيع تأمين خبزه الذي غالبا ما يتعثر وصوله من مينائي أم قصر وخور الزبير. وفي الوقت الذي يتحدث فيه مجلس المحافظة عن الخطة الاعمارية والموازنة السنوية عام 2007 يقول المهندس رافد عبد الأمير أحمد مدير وحدة الأعمار في البصرة"أن الموازنة لهذه السنة غير مناسبة، فقد قدمنا مشاريع بقيمة 1،8 تريليون دينار لم نحصل منها إلا على 246 مليار دينار فقط، علماً أن موازنة عام 2006 كانت 258 ملياراً". ويبقى الهاجس السياسي وتداعياته الشغل الشاغل للمواطن البصراوي إذ من خلاله يمكنه التطلع إلى اقتصاد يعول عليه، ففي الوقت الذي يتطلع فيه إلى هزيمة القوى والتيارات الإسلامية في الانتخابات المحلية القادمة التي يسعى أعضاء المجلس إلى تأخيرها، يزداد يقين المواطن بأن إيران تستخدم بعض القوى المحلية لصالح مشاريعها ووسيلة لضرب قوات الاحتلال داخل البصرة وإشغالها عن التفكير بضربها مستقبلاً. وتؤكد مصادر مقربة من المسلحين أن إيران تدفع 250 ألف دينار عراقي مقابل كل عبوة تنفجر أو قذيفة تطلق على مقرات الجيش البريطاني. وذكر حامد الظالمي عضو مجلس محافظة البصرة ورئيس لجنة الأعمار والاستثمار"عن القائمة العراقية"أن مجموعة الدول المانحة خصصت للبصرة مبلغ بليون و600 مليون دولار لإقامة مشاريع في المدينة، وهي المنحة المقدمة من ثماني دول بينها الولاياتالمتحدة وبريطانيا والدانمرك واستراليا واليابان وغيرها، وهذا مبلغ سيسهم في تطوير المدينة بشكل كبير بحسب رأي الظالمي. وكانت خطط محافظ البصرة الرامية إلى الحد من نفوذ المليشيات المسلحة أفلحت في تطهير عدد من الأجهزة الأمنية منها، فقام البريطانيون بتدمير وحدة الجرائم الكبرى التي يتهمها المحافظ بالوقوف وراء أكثر من محاولة لاغتياله، ويعتقد أن بعض عناصرها تدعمهم إيران، بينما يؤكد أعضاء في مجلس المحافظة أن بعض ضباط وحدة الجرائم الكبرى من العناصر الوطنية جداً، ولهم مواقف مشرفة في مكافحة الإرهاب، وهكذا يضيع جهد المخلصين وسط عبث العناصر الفاسدة.