كتاب ايلان بابه "التطهير العرقي في فلسطين" الذي تنشر "الحياة" فصولاً منه، يكشف المسكوت عنه حول دور التطهير العرقي في إنشاء إسرائيل. ويدحض المؤلف الأفكار الرائجة عن ان نزوح الفلسطينيين من أرضهم يعود الى اختيار طوعي أو الى وعود الجيوش العربية بأن النازحين سيعودون ما ان تكمل عملياتها ضد ما سمي آنذاك"العصابات الصهيونية". تصدر الطبعة العربية من الكتاب في أواسط الشهر المقبل عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وأنجز الترجمة أحمد خليفة. والمؤلف ايلان بابه من المؤرخين الإسرائيليين الجدد وأستاذ في جامعة حيفا وناشط في مؤسسات أبحاث من اجل السلام. "الحياة" نشرت أربع حلقات، وهنا الخامسة: في وقت مبكر من نيسان أبريل، عدّد بن غوريون بافتخار أمام أعضاء من حزبه مباي، أسماء القرى العربية التي احتلتها القوات اليهودية قبيل ذلك التاريخ. وفي مناسبة أُخرى، في 6 نيسان، نجده يوبخ أعضاء في اللجنة التنفيذية للهستدروت من ذوي الميول اليسارية تساءلوا عن الحكمة من مهاجمة الفلاحين بدلاً من مجابهة مُلاّك الأراضي، الأفندية، ويقول لواحد من كبارهم:"لا أوافقك في أننا يجب أن نجابه الأفندية وليس الفلاحين: أعداؤنا هم الفلاحون العرب". كان مدركاً في ذلك الوقت أن فلسطين باتت في قبضته، إلاّ انه لم يبالغ في الثقة، ولم يشارك في احتفالات 15 أيار 1948، لأنه كان يعي جسامة المهمة الماثلة أمامه: تطهير فلسطين عرقياً، والتأكد من أن المحاولات العربية لن تنجح في منع اليهود من الاستيلاء على البلد. وعندما وُضعت الخطة دالِتْ موضع التنفيذ، كان في تصرف الهاغاناه أكثر من 50000 جندي، نصفهم تدرب على أيدي البريطانيين خلال الحرب العالمية الثانية، وكان أوان تنفيذ الخطة قد حان. أول عملية في خطة دالِتْ المنطقة الأولى التي اختيرت لوضع الخطة دالِتْ موضع التطبيق كانت الهضاب الريفية الواقعة على المنحدرات الغربية لجبال القدس، في منتصف الطريق المفضي إلى تل أبيب. واتخذ القرار بتنفيذ عملية نَحْشون، التي ستشكل نموذجاً للحملات التالية: الطرد الجماعي المفاجئ. وإذا حكمنا بموجب المحصلة النهائية لهذه المرحلة، وأعني بها نيسان - أيار 1948، فإن المشورة كانت عدم الإبقاء ولو على قرية واحدة. وبينما كانت الخطة دالِتْ الرسمية تعرض على القرية خيار الاستسلام، فإن الأوامر العملانية لم تستثنِ أي قرية [من التدمير والطرد- المترجم] مهما يكن السبب. وبذلك تحولت الخطة الرئيسية إلى أمر عسكري بالشروع في تدمير القرى. وقد اختلفت التواريخ بحسب الجغرافيا: لواء ألكسندروني، الذي سيجتاح الساحل العامر بعشرات القرى، مخلفاً وراءه قريتين فقط، تلقى أوامره مع اقتراب نيسان من نهايته"والتعليمات بتطهير الجليل الشرقي وصلت إلى قيادة لواء غولاني في 6 أيار 1948، وفي اليوم التالي أقدم على تطهير القرية الأولى في"منطقته"، قرية الشجرة. تلقت وحدات البالماخ أوامرها بالقيام بعملية نَحْشون في اليوم الأول بالذات من نيسان 1948. وكانت الهيئة الاستشارية اجتمعت في الليلة السابقة في منزل بن- غوريون لوضع اللمسات النهائية على التعليمات للوحدات. كانت الأوامر واضحة:"الهدف الرئيسي للعملية هو تدمير القرى العربية.... [و] طرد القرويين كي يصبحوا عبئاً اقتصادياً على القوات العربية العامة". واقترنت عملية نَحْشون بتجديدات في نواحٍ أُخرى أيضاً. فقد كانت أول عملية حاولت فيها جميع المنظمات العسكرية اليهودية المتعددة أن تعمل كجيش موحد، واضعة بذلك الأساس لجيش الدفاع الإسرائيلي المرتقب. وكانت هذه أول عملية يتّحد فيها يهود أوروبا الشرقيون القدامى، الذين كانوا بحكم الطبيعة مهيمنين على المشهد العسكري، مع المجموعات الإثنية الأُخرى، مثل القادمين الجدد من العالم العربي ومن أوروبا ما بعد الهولوكوست. عبدالقادر الحسيني كتب قائد إحدى الكتائب، التي شاركت في هذه العملية، أوري بن آري، في مذكراته، أن"صَهْرَ الشتات"كان واحداً من الأهداف المهمة لعملية نَحْشون. وكان بن آري آنذاك شاباً يهودياً ألمانياً جاء فلسطين قبل بضع سنوات. واستكملت وحدته استعداداتها لعملية نَحْشون على ساحل البحر الأبيض المتوسط، بالقرب من الخضيرة. وتذكّر أنه رأى نفسه شبيهاً بالجنرالات الروس الذين حاربوا النازيين في الحرب العالمية الثانية. وكان"النازيون"في حالته عدداً كبيراً من القرى الفلسطينية المعزولة الواقعة بالقرب من طريق يافا - القدس، والمجموعات شبه العسكرية التابعة لعبد القادر الحسيني التي جاءت لنجدتها. كانت وحدات عبدالقادر الحسيني ترد على الهجمات اليهودية السابقة بإطلاق النار عشوائياً على وسائط النقل اليهودية المارة بالطرقات، موقعة عدداً من القتلى والجرحى بين المسافرين. أمّا القرويون أنفسهم، كما كانت عليه الحال في أماكن أُخرى من فلسطين، فقد كانوا يحاولون مواصلة العيش كالمعتاد، غافلين عن الصورة الشيطانية التي ينسبها إليهم بن آري ورفاقه. وخلال أيام قليلة سيطرد معظمهم إلى الأبد من البيوت والحقول التي عاشوا هم وأجدادهم فيها وزرعوها منذ قرون. وقد أبدت المجموعات الفلسطينية شبه العسكرية، بقيادة عبدالقادر الحسيني، مقاومة أشد مما توقعت كتيبة بن آري، الأمر الذي أدى إلى عدم تقدم عملية نَحْشون في البداية وفقاً للخطة. لكن مع حلول 9 نيسان كانت الحملة قد انتهت. في ذلك اليوم نفسه سقطت أول قرية من القرى الفلسطينية العديدة الموجودة حول القدس في أيدي اليهود، على رغم أن اسمها الميمون- القسطل القلعة. كانت تحصيناتها القديمة لا تزال قائمة، لكنها لم تستطع حمايتها من القوات اليهودية المتفوقة. وكانت القرية واقعة على القمة الغربية الأخيرة قبل الصعود النهائي إلى القدس. ولا يذكر النصب الذي أقامته إسرائيل في الموقع تخليداً للهاغاناه أنه كان هناك بالتحديد قرية فلسطينية. وتشكل اللوحة الموضوعة لإحياء ذكرى المعركة مثالاً نموذجياً لمدى عمق تجذّر لغة الخطة دالِتْ في التاريخ الشعبي الإسرائيلي حالياً. فكما كان الأمر في الخطة، لا تشير اللوحة إلى القسطل كقرية، وإنما ك"قاعدة للعدو": القرويون الفلسطينيون يُجردون من إنسانيتهم كي يمكن تحويلهم إلى"أهداف شرعية"يجوز استهدافها بالتدمير والطرد. في 9 نيسان، قتل عبدالقادر الحسيني في المعركة بينما كان يدافع عن القرية. وقد أدى موته إلى تدهور معنويات جنوده إلى حد أن القرى الأُخرى في القدس الكبرى سقطت كلها بسرعة في أيدي القوات اليهودية. حوصرت واحدة تلو الأُخرى، ثم هوجمت واحتُلت، وطُرد سكانها، وهُدمت بيوتهم ومبانيهم. وفي عدد منها، رافق الطرد مجازر كان أسوأها صيتاً المجزرة التي ارتكبتها القوات اليهودية، يوم سقوط القسطل نفسه، في دير ياسين. تجلت طبيعة خطة دالِتْ المنهجية والمنظمة جيداً في دير ياسين. وهي قرية هادئة ومسالمة توصلت إلى معاهدة عدم اعتداء مع الهاغاناه في القدس، لكن حُكم عليها بالهلاك لأنها كانت تقع داخل المناطق التي عينتها الخطة دالِتْ أهدافاً للتطهير. ولأن الهاغاناه كانت وقّعت اتفاقاً مع القرية، فإنها قررت أن ترسل إليها قوات الإرغون وعصابة شتيرن، كي تعفي نفسها من أي مسؤولية رسمية. ويُذكر أن في التطهيرات اللاحقة ل"القرى الصديقة"تخلت الهاغاناه حتى عن اعتبار هذه الخدعة ضرورية. في 9 نيسان 1948، احتلت القوات اليهودية قرية دير ياسين الواقعة على هضبة إلى الغرب من القدس، على ارتفاع 800 متر فوق سطح البحر بالقرب من حي غِفعات شاؤول اليهودي. وتستخدم مدرسة القرية القديمة اليوم مستشفى للأمراض العقلية يخدم الحي اليهودي الغربي الذي تمدد فوق أراضي القرية المدمرة. عندما اقتحم الجنود اليهود القرية، رشقوا البيوت بنيران المدافع الرشاشة، متسببين بقتل كثير من سكانها. ومن ثم جمعوا بقية القرويين في مكان واحد وقتلوهم بدم بارد، وانتهكوا حرمة أجسادهم، في حين اغتُصب عدد من النساء ومن ثم قُتلن. الهدف التالي كان أربع قرى مجاورة: قالونيا، ساريس، بيت سوريك، بِدّو. ولم تستغرق العملية في كل قرية أكثر من ساعة واحدة أو نحوها - دخلت وحدات الهاغاناه القرية المعنية، ونسفت البيوت، وطردت السكان. ومن المثير للاهتمام أو للسخرية، إن شئت أن ضباط الهاغاناه ادعوا أنهم اضطروا إلى بذل جهد كبير لكبح سُعار النهب الذي تملّك مرؤوسيهم في كل قرية بعد احتلالها. ويروي بن آري، الذي كان مشرفاً على وحدة زرع المتفجرات التي نسفت البيوت، في مذكراته، كيف أنه بمفرده أوقف عملية نهب القرى. لكن أقل ما يقال في ادعائه هذا أنه مبالغ فيه، علماً أن الفلاحين هربوا من دون أن يحملوا شيئاً معهم بينما وجدت مقتنياتهم طريقها إلى صالونات ومزارع الجنود والضباط، سواء بسواء، كتذكارات حرب. قريتان في المنطقة نفسها أُعفيتا من التدمير: أبو غوش والنبي صموئيل. وكان السبب في ذلك أن مختاريهما أقاما علاقات ودية مع القادة المحليين لعصابة شتيرن. ومن سخريات القدر أن هذا كان ما حال بينهما وبين الدمار والطرد، إذ أرادت الهاغاناه تدميرهما، لكن الجماعة الأكثر تطرفاً، عصابة شتيرن، سارعت إلى نجدتهما. بيد أن هذا كان استثناء نادراً، إذ لاقت مئات من القرى مصير قالونيا والقسطل نفسه. إن ثقة القيادة اليهودية في أوائل نيسان بقدرتها لا على الاستيلاء على المناطق التي منحتها الأممالمتحدة للدولة اليهودية فحسب، بل أيضاً على تطهيرها، يمكن سبرها من الطريقة التي وجهت فيها الهاغاناه، مباشرة بعد عملية نَحْشون، اهتمامها إلى المراكز الحضرية الرئيسية في فلسطين. وقد هوجمت هذه المراكز بصورة منهجية خلال بقية الشهر، بينما كان موظفو الأممالمتحدة والموظفون البريطانيون يراقبون ما يجري بلا مبالاة ومن دون أن يحركوا ساكناً. انطلق الهجوم على المراكز الحضرية ابتداء بطبرية. فما إن وصلت أخبار دير ياسين، وأخبار المجزرة التي وقعت بعد ثلاثة أيام في 12 نيسان في قرية ناصر الدين، إلى السكان الفلسطينيين في طبرية، حتى هرب كثيرون منهم. وكان السكان قد أفزعهم القصف اليومي العنيف من جانب القوات اليهودية المتمركزة على الهضاب المشرفة على هذه العاصمة التاريخية القديمة الواقعة على شاطئ بحيرة طبرية، حيث كان نحو 6000 يهودي و 5000 عربي يعيشون هم وأجدادهم معاً بسلام منذ قرون. ولم يتمكن جيش الإنقاذ، بسبب العرقلة البريطانية، من نجدة المدينة بأكثر من قوة مؤلفة من نحو ثلاثين متطوعاً. ولم يكن هؤلاء نداً لقوات الهاغاناه، التي كانت تدحرج براميل مملوءة بالمتفجرات من الهضاب إلى المدينة، وتستخدم مكبرات الصوت لإصدار أصوات مخيفة لبث الذعر في قلوب السكان - نسخة مبكرة عن اختراق الطائرات المقاتلة لجدار الصوت فوق بيروت في سنة 1982 وفوق غزة في سنة 2005، الذي دانته منظمة حقوق الإنسان بصفته عملاً إجرامياً. وسقطت طبرية في 18 نيسان. طرد أهل حيفا تمت الموافقة على العمليات التي جرت في حيفا بأثر رجعي، ورحبت الهيئة الاستشارية بها، مع أنها لم تكن بالضرورة المبادرة إلى [إصدار الأوامر- المترجم]. وكان الترويع المبكر لسكان المدينة العرب في كانون الأول [1947 - المترجم] قد دفع كثيرين من أبناء النخبة الفلسطينية إلى المغادرة إلى مساكنهم في لبنان ومصر، ريثما يعود الهدوء إلى مدينتهم. ومن الصعب تقدير عدد الذين يمكن تصنيفهم ضمن هذه الفئة: معظم المؤرخين يقدر الرقم ما بين 15000 و20000. في 12 كانون الثاني يناير 1948، أبرق زعيم محلي يدعى فريد السعد، مدير البنك العربي في حيفا وعضو اللجنة القومية المحلية، إلى الدكتور حسين الخالدي، سكرتير الهيئة العربية العليا، قائلاً بيأس:"من حسن الحظ أن اليهود لا يعرفون الحقيقة". وكانت"الحقيقة"أن النخبة الحضرية في فلسطين انهارت بعد شهر من القصف اليهودي العنيف والاعتداءات. لكن اليهود كانوا يعرفون تماماً ما كان يجري. وفي الواقع، كانت الهيئة الاستشارية تعرف جيداً أن الأغنياء والميسورين غادروا في كانون الأول ديسمبر، وأن المدينة لم تكن تصل إليها أسلحة عربية، وأن الحكومات العربية لم تكن تفعل أكثر من شن حرب كلامية حماسية عبر الأثير لإخفاء تقاعسها عن العمل وعدم رغبتها في التدخل لمصلحة الفلسطينيين. أمّا رحيل الأغنياء فكان معناه أن ما بين 55000 و60000 فلسطيني في حيفا أصبحوا بلا قيادة. وأنهم، نظراً إلى عدد المتطوعين القليل في المدينة، كانوا في نيسان 1948 تحت رحمة القوات اليهودية، وذلك على رغم وجود القوات البريطانية، التي كانت نظرياً مسؤولة عن سلامة السكان المحليين ورخائهم. استهدفت العملية اليهودية في مرحلتها الأولى المنطقة المحيطة بحيفا، وأُطلق عليها الاسم الرمزي، المنذر بالشؤم،"المقص"مِسْبارايمْ، الذي يشير إلى حركة كماشة وإلى فصل المدينة عن الأرياف المحيطة بها. وكانت حيفا، مثل طبرية، قد خُصصت في خطة الأممالمتحدة للدولة اليهودية، علماً أن ترك الميناء الكبير الوحيد في البلد تحت السيطرة اليهودية كان مظهراً آخر من مظاهر الصفقة المجحفة التي عرضتها الأممالمتحدة على الفلسطينيين في اقتراحها لإحلال السلام. وقد أراد اليهود المدينة من دون ال75000 فلسطيني القاطنين فيها، وفي نيسان 1948، حققوا هدفهم. وبما أن حيفا كانت ميناء فلسطين الرئيسي، فإنها كانت المحطة الأخيرة في مسار الانسحاب البريطاني. وكان من المتوقع أن يبقى البريطانيون حتى آب أغسطس، لكنهم قرروا في شباط فبراير 1948 تقديم موعد الانسحاب إلى أيار. وبالتالي، فإن أعداداً كبيرة من الجنود البريطانيين كانت موجودة في المدينة، وكان لا يزال لديها السلطة القانونية، ويمكن للمرء أن يضيف الأخلاقية، لفرض القانون والنظام العام فيها. لكن سلوك هؤلاء الجنود، كما اعترف بذلك كثير من الساسة البريطانيين في وقت لاحق، شكل واحداً من أكثر الفصول مدعاة إلى العار في تاريخ الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط. وقد بدأت الحملة اليهودية لبث الذعر في القلوب في كانون الأول، واشتملت على قصف عنيف، ونيران قنص، وأنهار من النفط والوقود المشتعل المتدفقة من أعالي الجبل [الكرمل- المترجم] إلى الأسفل، وبراميل مملوءة بالمتفجرات، وتواصلت طوال الأشهر الأولى من سنة 1948، لكنها اشتدت في أوائل نيسان. وفي 18 نيسان، في اليوم نفسه الذي أُرغم فيه الفلسطينيون في طبرية على الهروب، استدعى الميجر جنرال هْيو ستوكويل، قائد القطاع الشمالي البريطاني، الذي كان مقره في حيفا، ممثلي السلطات اليهودية في المدينة وأخبرهم أن القوات البريطانية ستنسحب خلال يومين من مواقعها التي كانت تشكل منطقة عازلة بين المجتمعين. وكانت هذه المنطقة"العازلة"هي العقبة الوحيدة التي منعت القوات اليهودية من شن هجوم مباشر واحتلال المناطق الفلسطينية التي كان أكثر من 50000 نسمة ما زالوا يعيشون فيها. وهكذا أصبح الطريق مفتوحاً أمام تطهير حيفا من العرب. أُوكلت المهمة إلى لواء كرملي، الذي كان واحداً من صفوة التشكيلات في الجيش اليهودي كان هناك ألوية من"نوعية أدنى"مثل لواء كرياتي، المشكَّل من يهود عرب كانوا يرسلون للقيام فقط بأعمال النهب أو ب"مهمات"أقل جاذبية"ويمكن العثور على وصف للواء كرياتي بأنه مكوّن من"نوعية بشرية أدنى"في الوثائق الإسرائيلية. وكان يقف في مواجهة لواء كرملي، البالغ تعداده 2000 جندي، جيش عديده 500 من المتطوعين المحليين، ومن متطوعين آخرين معظمهم لبنانيون، في حيازتهم أسلحة بسيطة وذخائر محدودة، وبالتأكيد لا شيء يعادل العربات المصفحة ومدافع الهاون في الجانب اليهودي. وكان معنى إزالة الحاجز البريطاني أنه يمكن استبدال عملية"المقص"بعملية"إزالة الخبز المختمر""بِعور حَميتس". ويعني هذا التعبير بالعبرية التطهير الكلي، ويشير إلى الفريضة الدينية اليهودية القاضية بتطهير البيوت من أي أثر للخبز أو الطحين عشية عيد الفصح، لأن من المحظور تناولهما خلال أيام الصوم - اسم رمزي ملائم بشكل وحشي لتطهير حيفا، حيث الفلسطينيون كانوا الخبز والطحين في العملية التي بدأت عشية عيد الفصح، في 21 نيسان. كان ستوكويل، القائد البريطاني، على علم مسبق بالهجوم اليهودي الوشيك، واستدعى في وقت مبكر من اليوم نفسه"القيادة الفلسطينية"في المدينة للتشاور. وقابلته مجموعة من أربعة أشخاص منهَكين، أصبحوا قادة المجتمع العربي وقتئذ، مع أن أياً من المناصب التي كانوا يشغلونها رسمياً لم يهيئهم للحظة التاريخية الحاسمة التي تجلت في مكتب ستوكويل في صبيحة ذلك اليوم. وتظهر مراسلات سابقة بينهم وبين ستوكويل أنهم كانوا يثقون به بصفته حامي القانون والنظام في المدينة. وإذ بالضابط البريطاني ينصحهم اليوم بأن من الأفضل لشعبهم أن يرحل عن المدينة، حيث كانوا هم ومعظم عائلاتهم يعيشون ويعملون منذ منتصف القرن الثامن عشر، عندما برزت حيفا كمدينة حديثة. وبالتدريج، بينما كانوا يصغون إلى ستوكويل وثقتهم به تتضاءل، أدركوا أنهم لن يستطيعوا حماية مجتمعهم، واستعدوا للأسوأ: بما أن البريطانيين لن يحموهم، فإن مصيرهم المحتوم سيكون الطرد. وأخبروا ستوكويل أنهم يريدون الرحيل بشكل منظم. وحرص لواء كرملي على ترحيلهم عبر أشلاء القتلى والدمار. كان الرجال الأربعة، وهم في طريقهم لمقابلة القائد البريطاني، يسمعون مكبرات الصوت اليهودية تحث النساء والأطفال الفلسطينيين على الرحيل قبل فوات الأوان، بينما في أجزاء أُخرى من المدينة كانت مكبرات الصوت تبث رسالة مناقضة تماماً صادرة عن محافظ المدينة اليهودي، شبتاي ليفي، الذي كان شخصاً محترماً بحسب جميع الروايات، والذي توسل إلى الناس كي يبقوا، ووعدهم أن أي أذى لن يلحق بهم. لكن مردخاي مَكْليف، قائد عملية لواء كرملي، وليس ليفي، كان صاحب القرار. وقد نسّق مَكْليف حملة التطهير، وكانت الأوامر التي أصدرها إلى قواته واضحة وبسيطة:"اقتلوا كل عربي تصادفونه، واحرقوا جميع الأشياء القابلة للاحتراق، واقتحموا الأبواب بالمتفجرات"لاحقاً أصبح رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي. عندما نُفذت هذه الأوامر من دون إبطاء داخل ال 1.5 كم 2 التي كان لا يزال يعيش فيها آلاف من سكان حيفا العزّل، كانت الصدمة والرعب من الشدة حيث إن الناس بدأوا الرحيل جماعياً، من دون أن يجمعوا أياً من حاجاتهم أو حتى يدركوا ما كانوا يفعلونه. وفي غمرة الذعر، اتجهوا نحو الميناء على أمل أن يجدوا سفينة أو قارباً ينقلهم بعيداً عن المدينة. وما إن لاذوا بالفرار حتى اقتحم الجنود اليهود بيوتهم ونهبوها. وعندما زارت غولدا مئير، واحدة من القادة الصهيونيين الكبار، حيفا بعد أيام قليلة، وجدت من الصعب عليها في البداية أن تكبت إحساساً بالرعب عندما دخلت البيوت حيث كان الطعام المطبوخ ما زال على الطاولات، والألعاب والكتب التي تركها الأطفال على الأرض، وحيث بدا الأمر كأن الحياة تجمدت في لحظة واحدة. وكانت مئير جاءت فلسطين من الولاياتالمتحدة، التي هربت عائلتها إليها في إثر المذابح المنظمة في روسيا، وذكّرتها المناظر التي شاهدتها ذلك اليوم بأسوأ القصص التي سمعتها من عائلتها عن الوحشية الروسية ضد اليهود قبل عقود. لكن ذلك لم يؤثر، كما يبدو، في عزمها أو عزم زملائها على المضي قدماً في التطهير العرقي لفلسطين. في الساعات الأولى من فجر يوم 22 نيسان، بدأ الناس يتدفقون إلى الميناء. وبما أن الشوارع كانت في ذلك الجزء من المدينة شديدة الازدحام بالناس الساعين للنجاة، فإن القيادة العربية التي نصبت نفسها قيادة حاولت أن تدخل شيئاً من النظام إلى الفوضى العارمة. وكان في الإمكان سماع مكبرات الصوت تحث الناس على التجمع في السوق القديمة المجاورة للميناء، والبحث عن مكان آمن هناك إلى أن يصبح في الإمكان ترتيب إخلاء منظم عن طريق البحر."اليهود احتلوا شارع ستانتون وهم على الطريق"، كانت مكبرات الصوت تدوّي. إن كتاب لواء كرملي عن الحرب، الذي يروي ما قام به خلال الحرب، لا ينم عن أي وخز للضمير في ما يتعلق بما جرى بعد ذلك. ضباط اللواء، الذين كانوا يعرفون أن الناس نُصحوا بالتجمع بالقرب من بوابة الميناء، أمروا جنودهم بنصب مدافع هاون من عيار 3 بوصات على منحدرات الجبل المطلة على السوق والميناء- حيث يقوم مستشفى روتشيلد اليوم - وبقصف الناس المحتشدين في الأسفل. وكان الهدف التأكد من أن الناس لن يترددوا، وضمان أن يكون الهروب في اتجاه واحد فقط. وما إن تجمع الفلسطينيون في السوق - تحفة معمارية ترجع إلى العهد العثماني، مغطاة بسقوف بيض مقوسة، ودُمرت كلياً بعد قيام دولة إسرائيل- حتى أصبحوا هدفاً سهلاً للرماة اليهود. كانت سوق حيفا تبعد أقل من مئة متر عما كان وقتها بوابة الميناء. وعندما بدأ القصف كانت البوابة الوجهة الطبيعية للفلسطينيين الذين أصابهم الذعر. وأزاح الحشد حراس البوابة من الشرطة جانباً واندفع إلى داخل الميناء. وسارع عشرات إلى القوارب التي كانت راسية هناك وصعدوا إليها وبدأوا الرحيل عن المدينة. بعد أن سقطت حيفا لم يبق في فلسطين سوى مدن قليلة حرة، بينها عكا والناصرة وصفد. وبدأت المعركة على صفد في منتصف نيسان، واستمرت حتى الأول من أيار. ولم يكن السبب في استمرارها مقاومة عنيدة من جانب الفلسطينيين أو متطوعي جيش الإنقاذ، مع أنهم بذلوا جهداً جدياً أكثر مما في أمكنة أُخرى، وإنما اعتبارات تكتيكية وجهت الحملة اليهودية أولاً إلى الأرياف المحيطة بصفد، ومن ثم قامت القوات بمهاجمة المدينة. كان عدد سكان صفد 9500 عربي و2400 يهودي. وكان معظم اليهود القاطنين هناك من المتدينين المتعصبين جداً Ultra-Orthodox ، ولم يكونوا معنيين قط بالصهيونية، ناهيك عن محاربة جيرانهم العرب. وقد يكون هذا الأمر، بالإضافة إلى الطريقة المتدرجة التي اتبعت في الاستيلاء على المدينة، قد أوهما أعضاء اللجنة القومية المحلية الأحد عشر بأن مصير صفد ربما سيختلف عن مصير المراكز الحضرية الأُخرى. وكانت اللجنة هيئة تمثيلية إلى حد كبير، ضمت أعيان المدينة، وعلماء دين، وتجاراً، ومُلاَّك أراض، وناشطين سابقاً في ثورة 1936 التي كانت صفد مركزاً رئيسياً لها. وتعزز هذا الإحساس بالأمان بفضل وجود عدد كبير نسبياً من المتطوعين العرب في صفد، قُدِّر بأكثر من 400 متطوع، مع أن نصفهم فقط كان مسلحاً ببنادق. وكانت المناوشات في المدينة بدأت في أوائل كانون الثاني، وسببها غارة استطلاعية عدوانية دخل خلالها عدد من أعضاء الهاغاناه إلى سوق وأحياء فلسطينية. وكان يتولى الدفاع عن المدينة ضد الهجمات المتكررة التي قامت بها وحدات الكوماندو التابعة للهاغاناه، البالماخ، ضابط سوري كاريزماتي هو إحسان كم الماز. في البداية، كانت هجمات البالماخ هذه متفرقة وغير فعالة، لأن جهود الوحدات كانت مركزة على المناطق الريفية المحيطة بالمدينة. لكن عندما انتهت من السيطرة على القرى المجاورة لصفد سيجري التطرق إلى ذلك لاحقاً في هذا الفصل، أصبح في استطاعتها التركيز كلياً على المدينة نفسها، في 29 نيسان 1948. ولسوء حظ سكان صفد، فإنهم تحديداً في اللحظة التي احتاجوا فيها إلى الضابط القدير كم الماز، فقدوه. وعيّن القائد الجديد لجيش الإنقاذ في الجليل، أديب الشيشكلي الذي سيصبح رئيساً للجمهورية السورية في الخمسينات، مكانه ضابطاً آخر من ضباط جيش الإنقاذ يفتقر إلى كفاءة سلفه. وعلى أي حال، من المشكوك فيه أن النتيجة كانت ستكون مختلفة لو كان كم الماز موجوداً، نظراً إلى التفاوت الكبير في ميزان القوى: 1000 من جنود البالماخ المدربين جيداً في مواجهة 400 متطوع عربي، وهو تفاوت ينطبق على كثير من موازين القوى المحلية آنذاك، ويظهر زيف أسطورة داود اليهودي في مواجهة جُليات العربي في سنة 1948. طردت قوات البالماخ معظم السكان، وسمحت فقط ببقاء 100 رجل طاعن في السن، لكن لا لفترة طويلة. وفي 5 حزيران، سجل بن غوريون في يومياته باقتضاب:"أخبرني أبراهام حانوخي، من [كيبوتس] أييلِتْ هشاحَر، أنه نظراً إلى بقاء 100 رجل طاعن في السن فقط في صفد فقد تم طردهم إلى لبنان".