ربما لم يشغل بال المفكرين المعاصرين أمر كالعولمة، بجوانبها الاقتصادية والثقافية وغيرها. ويصح الأمر خصوصاً على المفكرين العرب الذين لا يزال بعضهم ينفيها، أو يعتبرها مؤامرة من مؤامرات الغرب علينا وعلى سائر العالم الثالث. ومع قلة البحوث العربية الجدية حول العولمة، ونعني منها هنا جانبها الاقتصادي، من المفيد العودة إلى جوزيف ستيغليتز، العالم الاقتصادي الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، والخبير الاقتصادي الأول في البنك الدولي ثم رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض في عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون. وجديد ستيغليتز،"المرتد"بنظر بعضهم عن الرأسمالية وأحد أعلى الأصوات في نقد لا عدالتها وصاحب البحوث القيّمة في العولمة والسياسة الاقتصادية الأميركية، كتاب"إنجاح العولمة"، الصادر أخيراً، ليُضاف إلى أعمال الكاتب المهمة التي بدأها بپ"خيبات العولمة"الأشهر من أن يُعرّف، وتشمل أيضاً"التسعينات الهادرة"الناقد ذاتياً في بعض جوانبه للسياسة الاقتصادية في عهد كلينتون، وپ"التجارة العادلة للجميع"الناقد للسياسة الأميركية على صعيد تحرير التجارة العالمية. يركز ستيغليتز في كتابه الجديد على الجوانب الاقتصادية للعولمة، مناقشاً المشكلات الاقتصادية التي تنشأ عنها، وهي في رأيه صيرورة لا فكاك منها، وإن أمكن ضبطها للحد من أضرارها وتعزيز منافعها وتوسيع قاعدة المستفيدين منها في العالم. ويقدم الكاتب سلة حلول للمشكلات التي يضع إصبعه عليها، خصوصاً التي تحمل بذور دمار اجتماعي أو بيئي في الدول المتقدمة والنامية على حد سواء. ومن الحلول المقترحة لتحقيق عولمة أكثر عدلاً، على رغم صعوبة ذلك، إحداث تحرير حقيقي للتجارة مع ما يستتبع ذلك من تنازلات مطلوبة من الدول الغنية، وضبط حقوق الملكية الفكرية لئلا تتحول إلى احتكار، ووضع أصول محاسبية للشركات تكافح الفساد، وتعزيز شفافية النظام المالي الدولي، وإسقاط الديون الدولية يقول هنا بتحميل المقرضين تبعة الأضرار الناجمة عن القروض العشوائية، وزيادة انفتاح الحكومات على دور المنظمات غير الحكومية. ويقول في الكتاب إن الأمل يحدوه أن تمنح آراؤه القراء"الأمل بالمستقبل"وتحفزهم على"التأمل فيه". وفيما يُعتبر كتابه"خيبات العولمة"عملاً يعتمد أساساً على خبرته في المناصب التي تولاها في البنك الدولي وإدارة كلينتون، يمثّل الكتاب الجديد متابعة لهذا الجهد، استناداً إلى خبرته الحالية كأستاذ في جامعة كولومبيا وعضو في منظمات، مثل مبادرة الحوار حول السياسات، ورئيساً لمعهد بروكس للفقر العالمي، مع تركيز على تطورات العولمة الاقتصادية بين عامي 2001 و2006، بعدما تناول الكتاب الأول الصادر عام 2002 فترة التسعينات. ولا يتوقف ستيغليتز عند سلبيات العولمة بل يورد إيجابياتها، مع توقعات علمية لصيرورتها في المستقبل المتوسط والبعيد، يقوده، كما هي الحال في أعماله السابقة، إيمان لا يتردد في الإفصاح عنه في قيام اقتصاد عالمي ناجح وعادل. ولا يقصر آراءه على النظريات بل يدعمها بعرض لسياسات اقتصادية أثبتت نجاحها، ولمس هو هذا النجاح من عمله الأكاديمي والعملي في الولاياتالمتحدة ودول أخرى. ويشرح بشكل خاص السياسة الأميركية على صعيد المالية العالمية والضغوط التي تمارسها واشنطن عبر البنك الدولي الذي تتولى عرفاً رئاسته، وحتى عبر صندوق النقد الدولي الذي يتولى عرفاً رئاسته الاتحاد الأوروبي، مستندة إلى نفوذها المالي في المؤسستين الدوليتين، لإجبار الدول على ترتيب أمورها المالية، فيما عجزها المالي هي، الذي فاقمته"إصلاحات"إدارة الرئيس جورج بوش لناحية خفض الضرائب على الشركات، يضع النظام المالي العالمي في حال من اللااستقرار الشديد. ويشرح ستيغليتز آراءه بأمثلة لافتة، فهو يقول إن بقرة في أوروبا تنال من المال أكثر مما يناله نصف سكان الأرض، فالدعم الحكومي البالغ دولارين في اليوم للبقرة يساوي المبلغ المحدِّد لخط الفقر الذي يعيش نصف سكان الكوكب تحته. وهكذا يدفع الأميركيون والأوروبيون واليابانيون باتجاه مزيد من الحرية التجارية في العالم، فيما هم يرفضون التخلي عن الدعم المالي الذي يعطونه للمزارعين في بلادهم. وفي"إنجاح العولمة"، يدفع ستيغليتز إلى مستويات أعلى رأيه الذي عبّر عنه في أعماله السابقة ومفاده أن تعزيز الديموقراطية في النظام التجاري العالمي يكفل القضاء إلى حد كبير على كثير من جوانب اللاعدل في هذا النظام. لكنه يشكك في احتمال قبول الدول الغنية والقوية بمزيد من الديموقراطية ومزيد من العدالة في ذاك النظام.