كان جوزف ستيغليتز أحد خبراء أميركيين بارزين متعددي المشارب يُعَدّون على أصابع اليد الواحدة توقعوا قبل سنوات ترنح «وول ستريت» وامتداد التداعيات إلى سائر مفاصل الاقتصاد الأميركي ومن ثم العالمي. في كتابه الجديد «السقوط الحر»، يهاجم ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، ما يحذر منه دوماً: صندوق النقد الدولي ووزارة الخزانة الأميركية، ومجلس الاحتياط الفيديرالي (المصرف المركزي الأميركي)، و «وول ستريت»، والاقتصاديين التقليديين. يؤيد ستيغليتز الذي عمل خبيراً اقتصادياً أول في البنك الدولي ثم رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين في البيت الأبيض خلال عهد الرئيس السابق بيل كلينتون، خطط الرئيس الأميركي باراك أوباما، الديموقراطي ككلينتون، لوقف مصارف «وول ستريت» عن المضاربة بأموال المودعين، فهذه المبادرة الرئاسية لم تبدأ إلا عندما توقف الرئيس عن الاستماع إلى مدير المجلس الاقتصادي القومي لاري سامرز ووزير الخزانة تيم غايتنر ورئيس مجلس الاحتياط بن برنانكي، وجميعهم من محازبي السوق الحرة المتفلتة من أي عقال، وتحول إلى سماع نصائح السياسي المخضرم بول فولكر الذي ترأس مجلس الاحتياط في عهدي الرئيسين السابقين، الديموقراطي جيمي كارتر والجمهوري رونالد ريغان. يقول ستيغليتز: «إنني متشائم حيال الولاياتالمتحدة، فسيكون أمامها وقت طويل قبل أن تعود البطالة فيها إلى وضعها الطبيعي». وهو يعتقد أن سوق الإسكان التي تعاني بشدة (25 في المئة من العائلات الأميركية تفوق قيمة القروض العقارية المترتبة عليها قيمة منازلها) قد يضر بواحدة من نقاط القوة التقليدية في أميركا: قدرة العمال على الانتقال من ولاية إلى أخرى بحثاً عن فرص عمل. ويرى أن المصارف الأميركية تخفي انكشافها على العقارات التجارية التي يخشى أنها ستمثّل المشكلة المقبلة. ويشير واضع كتابي «خيبات العولمة» و «التسعينات الهادرة» وغيرهما إلى أن ازدياد النمو في مختلف قطاعات الاقتصاد العالمي في النصف الثاني من عام 2009 لن يدوم، مؤكداً أن «احتمال أن يتباطأ النمو يقارب مئة في المئة، مع وجود احتمال بأن يصبح النمو سلبياً»، أي أن ينكمش الاقتصاد. يُذكَر أن ستيغليتز، أستاذ الاقتصاد في جامعة كولومبيا، انتقد في «خيبات العولمة» تجربته في البنك الدولي وفي «التسعينات الهادرة» تجربته في البيت الأبيض، ومعلوم أن سامرز كان زميلاً له في الفريق الاقتصادي الذي أحاط بكلينتون، فقد كان في وزارة المال نائباً للوزير ثم وزيراً، على رغم أن منصبه العام الأول كان في مجلس المستشارين في عهد الرئيس الجمهوري السابق رونالد ريغان. يمثّل الكتاب إدانة متماسكة ل «وول ستريت»، والقطاع المالي الأميركي، ومجلس الاحتياط الفيديرالي. ويشرح كيف عمدت إدارة أوباما إلى تبني القطاع المالي ومجلس الاحتياط، وتابعت مع كثير من التوسيع سياسة إنقاذ المؤسسات المالية المتعثرة التي ورثتها عن إدارة الرئيس الجمهوري السابق جورج بوش الابن، هي وفلسفة «المؤسسات الأكبر من أن تُترك لتنهار» المكلفة لدافعي الضرائب الأميركيين. ويشن العمل هجوماً لاذعاً على الخبراء الاقتصاديين الذين حولوا «حقلاً علمياً» إلى «أكبر مروج لرأسمالية السوق الحرة». وبالنسبة إلى أوباما، لا يزال ستيغليتز، الذي أيد ترشيحه للرئاسة، يجد فيه أموراً كثيرة تستحق الثناء. لكن انتقادات الكاتب للرئيس تنطلق في الفصل الثاني من الكتاب وتكاد لا تتوقف، فأوباما، وفقاً لستيغليتز، اختار سياسة محافظة تتمثّل في التذبذب. ربما أراد الرئيس الحفاظ على الوحدة الوطنية، لكن الخطر في ذلك يبرز في «أن المشاكل عبارة عن جروح متقيحة لا يمكن شفاؤها إلا بتعريضها إلى ضوء الشمس». ويزيد: «لم تملك إدارة أوباما (أو لم تضع على الأقل) رؤية واضحة لأسباب فشل النظام المالي الأميركي. فمن دون رؤية مستقبلية وفهم لحالات الفشل في الماضي، تعثّرت استجاباتها للمشاكل. بداية، لم تقدّم أكثر من مواقف كلامية عن ضرورة تحسين التنظيم وجعل العمل المصرفي أكثر مسؤولية. وبدلاً من أن تعيد تصميم النظام، أنفقت مالاً كثيراً على تدعيم النظام القديم الفاشل». ويكرّس ستيغليتز النصف الثاني من كتابه لتوصيات حول سبل إخراج الولاياتالمتحدة من الأزمة. ويبدو بعض المقترحات عصياً على أي إدارة أميركية تتحكم فيها مصالح اقتصادية تدعم الحملات الانتخابية بأموال طائلة، مثل احتساب الناتج المحلي الإجمالي بطريقة جديدة تأخذ في الحسبان الجانب الاجتماعي (يحمل الفصل الأخير العنوان: «نحو مجتمع جديد»). لكنه ينبه إلى أن التراجع الاقتصادي سيكون أعمق وأطول أمداً من المتوقع بسبب القرارات «الخاطئة» لإدارتي أوباما وبوش الابن. ويتوقع أن يخرج الاقتصاد الأميركي من الركود مثقلاً بالديون، فيما يفقد القطاع المالي تنافسيته ويصبح أكثر عرضة لأزمة أخرى. كان أحرى بالحكومة، يقول، أن تعيد تنظيم القطاع المالي بطريقة تحمّل وزر سوء الإدارة لحملة الأسهم والمديرين، لا دافعي الضرائب. ويرى أن «أغرب اقتراح تقدمت به إدارة أوباما» ينص على «إعطاء مجلس الاحتياط الفيديرالي، الذي فشل في شكل ذريع حين بدأت الأزمة تذر بقرنها، صلاحيات أوسع». ويبدو ستيغليتز معارضاً لتعيين برنانكي لولاية جديدة من دون أن يقول ذلك صراحة، هو المعروف في أعماله السابقة بتوجيه سهام النقد اللاذع إلى سلف برنانكي، ألان غرينسبان.