برهنت المطربة اللبنانية جاهدة وهبه التي أطلقت ألبومها الجديد مساء أول من أمس في حفلة أقامتها في بيروت، أن المساحة للفن الجميل لا تزال متاحة، شرط أن تُؤمَّن لها الإمكانات والدعم المطلوب، وأن نظرية "الجمهور عايز كده" باطلة ولا أساس لها من الصحة. إذ أن الجمهور التوّاق إلى الطرب وإلى الألحان الراقية لا يرويه ما يُقّدم اليوم من أغان هابطة. ولكن طغيان وإنتشار بعض الوسائل الإعلامية وأتاحتها مساحات لهذا النوع من الفن، جعل المتلقي خائر القوى، غير قادر على التحكم بما يصل إليه. خرج صوتها إلى الجمهور قبل أن تظهر، قالت إن عملها الأخير ولد بعد مخاض عسير لغياب شركات الإنتاج. توجهت بالتحية لبيروت، اعتذرت عن التأخير، قدّمت عملها وأسدلت الستارة. المشهد مكتمل. جاهدة في منتصف المسرح باللون الأسود. الفرقة جاهزة. خلفية حمراء تبعث الدفء، قائد الفرقة الموسيقيّة متأهب، يُعطي الاشارة، ويبدأ الحفلة. تهافتت الألحان الجميلة على المتلقين بسرعة، فتسرّبت إلى أعمق أعماق المسام، فراحوا يتمايلون منتشين، حالمين بعوالم جديدة ترسمها الكلمات، مطلقين العنان لأيديهم لتلوّح دون خجل. جاهدة تغنِّي منغمسة بما تقول، الفرقة تنشر النغمات وكأنها مستودع للفرح، والجمهور يتلقى تأرجحات الصوت والنغم، فيسبح في فضاءات الرّغبة. تقول الأغنية التي كتب كلماتها الحلاج منذ آلاف السنين"إذا هجرت فمن لي/ ومن يحمل كلي/ومن لروحي وراحي/ يا أكثري وأقلي/أحبَّك البعض منّي/وقد ذهبت بكلي/يا كل كلي فكُن لي/ إن لم تكن لي فمن لي". تُنهي جاهدة الأغنية وتصرخ فتاة من الجمهور في شكل هستيري"برافووووو"والدموع تنهمر من عينيها، حالها حال الكثيرين الذين بكوا من الغبطة والسرور. ما ساعد في نجاح الحفلة في شكل لافت، هو التكامل في الأداء واللحن والتوزيع والكلمات. فجاهدة تملك صوتاً مخملياً قوياً، خصوصاً أنها تعمد في أدائها على التنويع بين الموروث البيزنطي والموشحات والإنشاد الإسلامي، وموهبه فذّة في التلحين. تولى توزيع ألحانها نخبة من الموزعين منهم ميشال فاضل وكلود شلهوب ونقولا نخلة، معتمدين على إيقاعات شرقيّة بحتة، وتمازج درامي بحسب الكلمات. وانتقت جاهدة القصائد بعناية، في متابعة لنهج جديد في عصر الأغنية العربية الحاضرة، وإلى بروز كتّاب مبدعين جدد، تعاونوا معها. فغاصت جاهدة في العصور الغابرة ونبشت وقرأت لتقدم كلمات لأبو فراس الحمداني والحلاج. ورجعت إلى حياتنا لتتعاون مع الأديبة الجزائرية أحلام مستغانمي التي كتبت ثلاث أغنيات من بينها"كتبتني"عنوان الألبوم. واستعانت بالشاعرين طلال حيدر وأنسي الحاج. وكتبت لها أيضاً الشاعرتان لميعة عباس عمارة، وأمل جبوري التي أهدت قصيدتها إلى شهداء جسر الائمة في العراق. وعمدت جاهدة الى مدّ جسور التعاون والتلاقي مع الألماني غونتر غراس الحائز جائزة نوبل للآداب في 1999، لتثبت أن الفن لغة للحوار بين الحضارات والمذاهب المختلفة بين الشرق والغرب. ونقل النصوص من الألمانية الى العربيّة الشاعرة أمل جبّوري. انتهت الحفلة ولم ينته التصفيق. وقف الجمهور مهللاً صارخاً معبراً، فانحنت جاهدة إحتراماً له. الا أن الجمهور طالب بأكثر من الانحناءة، وبالغناء مجدداً. فلبت جاهدة رغبة الجمهور وعادت الى وسط المسرح لتتمايل وتغني وتطرب الحشود. تَخرجُ من حفلة المطربة اللبنانية جاهدة وهبه مشبعاً بالطرب وبالثقافة. ممتلئاً بصور من الحاضر والماضي والمستقبل. صوتها دعوة للفرح، وألحانها أسلوب لحياة هانئة. حفلة شمولية أرادتها جاهدة أن تكون بداية لزمن جميل بعيداً من سخافات الفن الرديء.