أدرجت الادارة الأميركية أخيراً مؤسسة "جهاد البناء" التابعة لحزب الله على قائمة المؤسسات المحظورة في محاولة لقطع التمويل الدولي عنها. وكانت المؤسسة التي أثارت الجدل داخلياً وخارجياً بسبب مصادر تمويلها وأدائها أدواراً تلعبها مؤسسات الدولة عادة، تجاهلت هذا القرار واعتبرت أنه لن يؤثر في سير عملها القاضي بالتعويض عن أضرار عدوان تموز يوليو الماضي وترميم المباني المهدمة أو إعادة بنائها. لكن مهمات"جهاد البناء"لا تقتصر على هذا الجانب من الإغاثة السريعة، بل يتعداه الى مجموعة نشطات أخرى"تعنى بتثبيت الناس في مناطقهم وأراضيهم سواء في الجنوب أو البقاع أو ضاحية بيروت، لتشكيل بيئة اجتماعية متجانسة وپ"حاضنة للمقاومة". في ما يلي تحقيق يسلط الضوء على عمل هذه المؤسسة وميادين نشاطها منذ نشأتها مطلع الثمانينات وعلاقتها بالناس الذين يرتبطون بها. "سنخدمكم بأشفار عيوننا"تقول اللافتة المعلقة عند مدخل مبنى الأقسام المشتركة التابع لمؤسسة"جهاد البناء"في الضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تكثر لافتات تشيد ب"النصر الإلهي"وأخرى كتب عليها"العدو الاسرائيلي يدمّر والجمهورية الايرانية تعمر". الدخول الى مبنى الأقسام المشتركة يعيد إلى الأذهان تلك الدوائر الرسمية في العهد السوفياتي حيث يكتفي"الرفاق"، موظفون كانوا أم مواطنين، بالحد الأدنى من الأثاث والتجهيز مقابل التزام جماعي بإنجاز أكبر عدد ممكن من المهمات المتوجب إنجازها. خلية تختلط فيها الدقة والنظام بشيء من فوضى من اعتاد المكان وأهله، وقد شعر بالانتماء اليه. التعميمات الإدارية الملصقة على الجدران كثيرة ومتنوعة وتتوجه إلى"الأخوة والأخوات"من المهندسين أو الفنيين، أو"فرق العمال"، أو"السادة المراجعين"من المواطنين العاديين، كل بحسب اختصاصه. فعلى العمال أن يرتدوا قمصان"جهاد البناء"وقبعاتها خلال العمل ويعيدونها بعد ذلك وإلا تحسم 3 دولارات من مكافآتهم، وعلى المواطنين تصديق الأوراق أو ملء الاستمارات في"الوحدة"الفلانية، وعلى التقنيين الالتزام بجداول العمل. وبخلاف التعميمات الإدارية الشائعة، تختتم تلك التعميمات بعبارة"لكم الأجر والثواب"في تذكير دائم بأن ما يقوم به هؤلاء المتطوعون لن يذهب سدى. فإذا كانوا جنوداً مجهولين بالنسبة للعامة، فإن الحزب يعرفهم واحداً واحداً، والله يراهم، ولا شك سيجازيهم خيراً. وعلقت في الأركان أثار تشي بأن المكان كان ذات يوم غير بعيد شقة سكنية. فورق الجدران برسوم الدببة الصغيرة في مكتب المهندسين يدل على غرفة نوم الأطفال، والستارة المخملية التي تفصل مكتب الاستقبال عن مكتب المراجعات، فصلت سابقاً الصالون عن غرفة الطعام. البهو اكتظ برجال ونساء جاؤوا يراجعون ويتابعون مع الموظفين سير العمل في مبانيهم. وفيما تطل النوافذ على ساحات واسعة خلفتها الأبنية المهدمة، راح المهندسون يجولون لتوضيح رسم أو التدقيق في رقم عقار. فلكل"وحدة سكنية"في الضاحية رقم عقاري يقع ضمن"محور"معين و"قطاع"و"شعبة"يتابع"جهاد البناء"إصلاح"الأقسام المشتركة"منها كالسلالم والجدران الخارجية والسطوح... الخ. أما المنازل فيعود أمر ترميمها إلى أصحابها مستعينين بالمبلغ الذي أعطي لهم سابقاً، وبالشكل الذي يرونه مناسباً. المهندسة زهراء، واحدة من عشرات المهندسين"المتطوعين"الذين يشرفون على أعمال الترميم والبناء ومتابعة"عمليات إزالة آثار العدوان". على مكتبها وفي ملفاتها صور للأبنية قبل الترميم وبعده، وخرائط تفصيلية ل"المحور السادس"الذي يقع ضمن صلاحياتها، وإلى الجدار المجاور لطاولتها صور للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد يؤدي الصلاة أو يلعب الكرة ضاحكاً، كنجم شبابي بلا منازع. ويشرف كل مهندس على إعادة بناء وترميم"محور"من اصل عشرة، قسمت الضاحية بموجبها بحسب الشوارع أو الأحياء. ويضم كل محور عدداً من"المربعات"السكنية والتجارية. وكانت زهراء فقدت مكتباً افتتحته بعد تخرجها، خلال الحرب الأخيرة، فلبت النداء الى التطوع لتساهم في ورشة الإعمار إلى جانب بقية العاملين في مؤسسة"جهاد البناء". وهي على ما بدا، تتمتع بوقار وكلمة مسموعة بين المحيطين، على رغم صغر سنها، فتجيب باقتضاب ووضوح عن الأسئلة التي توجه إليها، وتقابل استفسارات المراجعين المتكررة بكل لطف وسعة صدر. وإذا كانت الحركة الدؤوبة والنشطة داخل مركز"جهاد البناء"لا تنعكس على الورش الخارجية، حيث لا يزال مشهد الدمار حاضراً بكثافة في مختلف مناطق الضاحية الجنوبية، إلا أن القائمين على المؤسسة يدركون وقع عملهم على نفوس أبناء المنطقة. فشعار"أفضل مما كان"يذكر كل شخص أن سقوط منزله في القصف الاسرائيلي ليس بالسوء الذي يتخيله، لأنه سيعاد إعماره وبشكل افضل. ويقول مدير عام مؤسسة"جهاد البناء"قاسم عليق في لقاء مع"الحياة"إن"من وجهة نظر نفسية، إذا كان هناك منزل مهدم قد تضعف معنويات سكانه، لذا دورنا ينصب على إعادة بنائه أفضل من غيره، لأن ذاك جزءاً أساسياً من بناء قوة المجتمع وقدراته النفسية والمعنوية. فهدفنا تثبيت الناس في أرضهم ودعم المقاومة ودعم مجتمع المقاومة في مواجهة العدو الإسرائيلي". ويتابع عليق"صار المجتمع الأهلي مضطراً لتكوين قدرات تتيح له أن يقاوم كل بحسب اختصاصه. فكل اعمال الهندسة تقع ضمن صلاحيات"جهاد البناء". وعندما تطور هذا العمل صرنا بحاجة الى مؤسسات أخرى فرحنا نبنيها تباعاً ومنها الصحي والثقافي والتربوي والديني، كالمساجد، والنوادي الحسينية. وليست هناك بلدة لا نملك فيها مسجداً ونادياً حسينياً لتأطير الناس وتمكينهم من البقاء في أرضهم، فلا يتمكن العدو من التغلغل بينهم بسبب المشاكل الحياتية". ويؤكد عليق أن المؤسسة بدأت بمبادرات فردية وبعدد لا يتجاوز أصابع اليد، وبهدف اساسي هو"سد فراغ خلفه غياب الدولة التاريخي عن تلك المناطق". فبعد اجتياح العام 1982"ظهرت الحاجة لمؤسسة ترعى شؤون هؤلاء الناس، وبدأت المؤسسة بإعداد برامج وخطط عمل تتعلق بأولويات سكان الجنوب والبقاع وضاحية بيروت وتقديم الخدمات الاجتماعية لهم". وفي البداية تركز عمل"جهاد البناء"على تحسين ظروف الحياة اليومية من جمع نفايات، وصيانة المجاري، وتمديد شبكة كهرباء، وتوفير صهاريج مياه الشفة إلى الضاحية التي راحت تتوسع سريعاً في تلك الفترة. ثم"تلونت المهمات بلون الحاجة والأولويات، على مدى عشرين سنة"، كما يقول عليق. وفي العام 1985، وبعد انفجار منطقة بئر العبد، قامت المؤسسة بأول أعمال الترميم وإعادة البناء وكان دورها بدأ يظهر تدريجاً إلى أن صارت علنية بشكل كلي في أواخر الثمانينات. وفي الوقت نفسه، لم تهمل المؤسسة أبناءها في الجنوب والبقاع حيث تشكل الزراعة المصدر الاساسي للمداخيل، فأنشأت قسماً زراعياً لتثبيت المزارعين في أرضهم. وأمنت لهم صيدليات زراعية وأوفدت مهندسين متخصصين لإبداء النصح والمشورة، لا بل ساعدت المزارعين مادياً بعدما أقفلت الدولة مصرف التسليف الزراعي". ويرفض عليق مقولة أن"حزب الله"ساهم بدوره في إبعاد الدولة عن مناطق نفوذه لينشئ معاقل ينفرد فيها في تقديم الخدمات وبناء بيئة حاضنة للمقاومة، فيقول:"هذا كلام نظري. نحن نشأنا من فراغ، لكن بعد اتفاق الطائف، لم نتعاط الاعمال البلدية، وانسحبنا من الميادين التي تقع ضمن اختصاص الدولة كالكهرباء والمياه والنظافة والصحة. ودعونا الوزارات المختصة الى تولي مهماتها. نحن داعمون للدولة القوية والراعية لأبنائها ولسنا بديلاً عنها". وتتركز الوظائف الأساسية لمؤسسة"جهاد البناء"في خمسة قطاعات هي"التنمية المستدامة"و"الزراعة"و"البيئة"و"التطوع"و"القطاع التعاوني"و"الانماء والترميم". وبحسب عليق لم تعمل المؤسسة كثيراً في مجال التنمية المستدامة لأنها غالباً ما كانت مشغولة في أعمال الإغاثة والحالات الطارئة. وفي التسعينات بلغ عدد المتفرغين نحو 120 شخصاً، لكن الاعتماد الفعلي يبقى على المتطوعين، فيكبر حجم المؤسسة ويصغر بحسب الحاجة. وقال عليق:"في مشروعنا الحالي وصل عدد المتطوعين إلى نحو 3 آلاف. يعطوننا ساعات مثلاً أو يوماً أو ثلاثة، ونؤمن لهم في المقابل هاتفاً أو سيارة. تعاملنا أيضاً مع المكاتب المهنية للاحزاب ونقابة المهندسين وحتى الطلاب". واختلف عمل المؤسسة بعد عدوان 2006 عن عملها في المرات السابقة. ففي ميدان الترميم كان ل"جهاد البناء"محطتان أساسيتان: أولاً اعتداء تموز يوليو 1993 وعملية"عناقيد الغضب"في 1996. ويصف عليق عدوان 1993 ب"الامتحان الاول والأصعب"، إذ كان العدوان شاملاً ودمر نحو 100 قرية، ولم تكن المؤسسة واجهت من قبل ورشة بهذه الضخامة."لكن لم يكن لنا خيار فكان واجباً وعلينا القيام به. وكان التحدي أن تعود الناس الى منازلها في تشرين الأول اكتوبر مع موسم المدارس". ويضيف:"أطلقنا ورشة الترميم ونجحنا في تحقيق هدفنا. وفي 1996، فوتنا على العدو الصهيوني الاستفادة من آثار الحرب، فكنا نتعهد الورش كاملة. نلتزم ونلزّم ونتعامل مع المقاولين والمتعهدين والمهندسين والعمال والفنيين، وانتقلت أفواج المهندسين الى الميدان في مكاتب نقالة". أما في 2006 فلم تتمكن مؤسسة"جهاد البناء"من رفع الحمل وحدها، وإن كانت بدأت بتقويم الأضرار منذ اليوم الثاني للعدوان. فراحت"فرق الكشافة والاستطلاع"من المهندسين بجمع المعلومات والصور منذ بدأت القذائف تنهمر. وكانت النتيجة أننا"لن نتمكن هذه المرة من البناء وحدنا وعلى المؤسسة الاعتماد على الناس أيضاً. فلم تلتزم الورش كاملة كما فعلت من قبل"كما أوضح عليق. فأعطي أصحاب الوحدات السكنية المتضررة تعويضات مادية على أن يقوموا هم بترميمها،"والسوق يلبي الطلب"كما قال عليق، مضيفاً:"في البداية كان السعر مرتفعاً وعانينا من قلة الفنيين والعمال وكان الوضع مربكاً جداً". وبناء عليه تم تحديد العمل بمشروعين رئيسين. أولاً الأيواء لمن خسر منزله ولا يمكنه العودة بسرعة، وثانياً الترميم. ووزعت مراكز"جهاد البناء"على المناطق، فيتوجه المواطن إليها ويثبت ملكيته للمنزل المتضرر. ثم تتوجه فرق الكشف فتتأكد من صحة الكلام عبر البلدية ولجان الحي، ثم يتم تقدير الأضرار. وتملأ استمارات مفصلة، تليها موازنات أكثر تفصيلاً. وفي غضون 72 ساعة تم تأمين المبالغ المالية اللازمة للتعويض عن 15 الف"وحدة سكنية"، وملئت 130 الف استمارة حتى الآن، ووزع"جيش"المتطوعين بحسب الاختصاصات والأوقات على"الاجهزة المتخصصة"، وطبعت المهندسة زهراء صوراً لأبنية بعد الترميم طليت بألوان زاهية، لكن ذلك كله لم ينزع الحزن عن الضاحية. فالدمار لا يزال هائلاً، ولم يبق من"المربع الأمني"سوى بقايا بوابته السوداء. أما ألوان بعض العمارات المطلية حديثاً فلم تُخفِ فجوات ضخمة وساحات لعب مفتعلة وسط مربعات كانت ذات يوم تضج بالسكان، ويحتاج بناؤها الى أكثر من"أشفار العيون". لا تنسيق مباشراً مع"الجهات المانحة" "الحياة"التقت المدير العام لمؤسسة"جهاد البناء"الحاج قاسم عليق الذي قال ان لا تنسيق مباشراً مع الجهات التي تمول المؤسسة وهنا نص مقابلة معه: ماذا لو أوقفت الجهات الدولية المانحة مساعداتها؟ - عنواننا هو الانماء. ونحن لا ننسق مباشرة مع الجهات المانحة. فمسؤوليتنا في"جهاد البناء"أن نبادر الى الاتصال بهذه الجهات لمعرفة برامجها ونكون على استعداد للتعاون وتقديم الخدمة إذا احتاجتها، وذلك يتم عبر البلديات لأنها هي السلطات المحلية، وأدرى باحتياجات السكان. لماذا قامت شاحنات"جهاد البناء"بنقل الردم من الضاحية إلى وسط المدينة في أحداث الثلثاء الاسود؟ - لا لم ننقل ردماً... كانت مياهاً فقط. أمّنا المياه الى الخيم بناء على طلب من إدارة الاعتصام. ... لكن، هناك صور لشاحنات تحمل شعار المؤسسة؟ - لا كانت صهاريج مياه فقط... أو ربما هي من الشاحنات التي تعاقدت معها المؤسسة خلال إزالة آثار العدوان ولم ينزع أصحابها عنها تلك اللافتات. كيف هي علاقتكم ب"مجلس الجنوب"؟ وهل من لجان مشتركة لتفادي ازدواجية العمل وتقويم الأضرار؟ - ليس بيننا لجان مشتركة، لكن المؤسسة ترسل كشفاً لتقويم الأَضرار وإذا وقع اختلاف مع تقويم"مجلس الجنوب"، نترك لصاحب المنزل اختيار التقويم الذي يراه مناسباً. وله حق الاعتراض لدى"جهاد البناء"و"مجلس الجنوب"، وقد ترسل المؤسسة"كشافاً"مهندساً يجري الكشف آخر ليعيد تحديد الأضرار. وأحياناً يعقد اجتماع بين المهندسين ليتوصلوا الى نتيجة ترضي صاحب المنزل. هل ترسلون الشباب في منح ليتابعوا دراسات في اختصاصات تحتاجها المؤسسة، وهل هي حكر على الحزبيين؟ - نحن نعتمد على المهندسين والفنيين والاختصاصيين وهي اختصاصات موجودة في السوق اللبنانية بكثرة. أما موضوع الخلفية السياسية والحزبية، اليوم كما نرى فإن ثقافة الممانعة وثقافة المقاومة هي ثقافة تعم كل الشباب. فالمواجهة بيننا وبين اسرائيل وأميركا شاملة وعامة ولا يعترض عليها سوى العملاء فقط! لكن، لدينا متطوعون من خلفيات سياسية أخرى وإنما لا تتنافى مع هذه الثقافة العامة ولهم مهمات محددة يقومون بها. بكم بدأت موازنتكم وما حجمها اليوم؟ - لا يمكنني أن أتحدث بالأرقام، لكننا بدأنا موازنة متواضعة تكفي الأعمال التي كنا نقوم بها. ففي البداية لم نكن نواجه مسؤوليات كبيرة. مثلاً تنظيف الشوارع لم يكن ممكناً تجاهله، أو إذا احترقت محطة كهرباء لم نكن لنترك الحي في الظلمة. لكننا بدأنا بنواة لا تتجاوز عدد اصابع اليد.