انها مثيرة حقاً"الانطولوجيا"الصادرة حديثاً عن دار "غاليمار"، بعنوان "الأفق مشتعلٌ - خمسة شعراء روس من القرن العشرين". في كتاب يقع في نحو مئة صفحة فقط، تمكنّ الشاعر والناقد الفرنسي جان باتيست بارا من تقديم وترجمة مقتطفات مهمة لخمسة أسماء شعرية كبيرة ألكسندر بلوك، أنا أخماتوفا، أوسيب ماندلشتام، مارينا سفيتاييفا وجوزيف برودسكي. تختصر الأسماء الأربعة الأولى وحدها أبرز التجارب التي عرفها الشعر الروسي خلال النصف الأول من القرن العشرين. أما الشاعر الخامس فلا يبرر حضوره في هذه الانطولوجيا إلا رغبة بارا المفترضة في إلقاء الضوء على المرحلة اللاحقة التي ينتمي إليها هذا الشاعر وهي تختلف ظروفها عن ظروف الحقبة الستالينية التي اختبرها الشعراء الآخرون. في الحقيقة لم يعرف ألكسندر بلوك 1880 -1921 أيضاً هذه الحقبة المشؤومة لوفاته قبل بدايتها. لكن أهمية هذا الشاعر تكمن في استشعاره للأحداث التاريخية العظيمة التي كانت على وشك الحصول، وقدرته المذهلة على مواكبة هذه التحولات واستباقها أحياناً. فبعد مرحلة رمزية مجيدة توصل فيها إلى أن يكون أهم وجه شعري روسي في هذا التيار، لم يلبث أن تخلى عن هذه الجمالية وقيمها ليواكب منذ العام 1905 الثورة الروسية الحمراء على رغم أصوله البورجوازية. وأوحت له أحداث 1917 قصيدتين طويلتين رائعتين هما:"الاثنا عشر"و"السيتيون"les Scythes كتب كل واحدة منهما بنفسٍ واحدٍ وبأسلوبٍ رؤيوي فريد تعتريه ترخيمات syncopes وتقطيعات وتنافُر أصوات صفير، أزيز رصاص.... وتختلط داخل لغته شعارات الملصقات السياسية والشتائم والعباراتٍ الفجّة العامية. وقبل بضعة أشهر من وفاته، كان بلوك شعر بما ستؤول إليه الأشياء في السنوات المقبلة فكتب في نصٍّ رائعٍ قرأه في مناسبة ذكرى بوشكين:"ما من رقابة في العالم تستطيع إعاقة العمل الجوهري للشعر". ولعل أفضل مثل على صحة هذا القول هو مسار آنا أخماتوفا 1888 -1966 التي تدثّرت طوال حياتها بكلمات الشعر وجعلت من هذا الأخير أرضاً لمقاومتها ونضالها. فعلى رغم انزوائها ومحاصرة جلادي ستالين لها ومنعها من النشر ومضايقات كثيرة أخرى تعرّضت لها، تبدو بالقوة الهادئة لقصائدها وكأنها تقف وحدها في وجه جور العالم وفظاعته، بينما يمسك بنا شعرها الذي بالكاد بدأنا باكتشافه، في توهّجه المثير. فبعد بداياتٍ مثمرة يظهر فيها أثر الرمزية وپ"الأكمية"acmژisme على أسلوبها، تتخلص أخماتوفا بسرعة من هذه التأثيرات لتشييد لغة شعرية ترتكز الى إيقاعاتٍ مرنة وقوافٍ غنية ومفرداتٍ واضحة وبسيطة. وستُشكّل قصائدها وفقاً لتنفّسها الخاص، الأمر الذي يمنح صوتها كل فرادته وسحره ويجعل من ترجمة هذه القصائد مهمة صعبة نظراً إلى تأصّلها أيضاً في أديم اللغة الروسية وذاكرتها. فكلماتها التي تتحلى بشفافية عالية في لغتها الأم، يصعب نقلها إلى لغاتٍ أخرى من دون إحداث ثقلٍ يتعذر تلافيه. وكذلك الأمر بالنسبة إلى قوافيها الغنية التي يؤدي احترامها قدر الإمكان في الترجمة إلى الابتعاد عن المعنى الأول للغتها. ومثل أخماتوفا، واجه صديقها أوسيب ماندلشتام 1892 -1938 عنف زمنه بسلاح الشعر، فشحذ طوال حياته قصائد مشبعة بالأمل تتجلى فيها ثقة الشاعر بقدرة الشعر الحيوية وبوقع كلمته:"ما يُميّز الشعر عن الكلام العفوي هو قدرته على إيقاظنا وهزّنا في منتصف الكلمة". ففي ديوان"النثر الرابع"، الذي يُشكّل جواباً عنيفاً على القذف والتشهير الذي كان يتعرّض لهما، حدد ماندلشتام فنه الشعري وصفّى بشجاعة نادرة حساباته مع النظام الستاليني. ويتجلى في هذا التحديد وقوف الشاعر الحتمي في وجه المجتمع وثقته بعبور صوته فوق فظائع العالم. أما الشعر، وفقاً لهذا التحديد، فيسيل بطمأنينة لأنه وعيٌ، أي لكونه ما يوقظ الإنسان ويدفعه نحو حياته الحقيقية. وتبدو قصائد ماندلشتام رقيقة وقاسية، مشحونة بطبقات من المعنى، ولا تعبأ بمسألة الحداثة بل تقع خارج زمنها:"لستُ معاصراً لأحد"، يقول الشاعر الذي نقّب في تربة اللغة الروسية وتمكّن من قولبتها وتخصيبها في شكلٍ خاص لتحقيق قصيدةٍ فريدةٍ هي كناية عن ارتجاجٍ أو حركةٍ موسيقيةٍ أو جسدِ أصواتٍ أو كلماتِ حياة. فبعد مرحلة تشييد شعري معقّد، عرف كيف يبلغ بساطة آنية سمحت له بإلقاء نظرة مباشرة على جمود البشر وآفاتهم. وخارج معسكرات الاعتقال الستالينية في سيبيريا أو داخلها، لم يكف ماندلشتام عن الكتابة ما دام قادراً على تحريك شفتيه. وكتب لجميع البشر بأخوّة نادرة ومؤثرة، للمحكومين بالموت مثله أو للمتمتّعين بالحياة، فكان أرهف مرصد لشتى العواطف والانفعالات. ولم تتمتع مارينا سفيتاييفا 1892 -1941 بقدرٍ أسعد من قدر ماندلشتام أو أخماتوفا. فمنذ العام 1922، اختبرت مرارة المنفى مدة 17 سنة قبل أن تشهد اعتقال ابنتها وإعدام زوجها السابق عام 1939، لدى رجوعها إلى موسكو. الأمر الذي دفعها إلى السير في شكلٍ يقظٍ نحو الموت. ويهزّنا شعر هذه المرأة النابع من الأعماق والناشط كشعلة مضطرمة، كهاجسِ حبٍّ أو كتأكيدٍ للذات، للألم واليأس. إنه حركةٌ داخلية مستمرة، بتوتراته وتمزّقاته وتناقضاته. من عناصره الثابتة موضوع الفراق الذي يتكرر غالباً وتقول الشاعرة في هذا الشأن:"أحببتُ كل أشياء الحياة ولكن من زاوية الوداع والقطيعة وليس من زاوية اللقاء والاتحاد". وتتميّز كتابة سفيتاييفا أيضاً بتقطيعاتها وشقلباتها ومجازاتها وكثرة نقاط التعجّب فيها وبالوسائل التي تستخدمها كترخيم الأصوات والتشابهات والحشو وندرة الأفعال. وفي هذا السياق تقول:"الإفراط كان دائماً مقياسي الداخلي". وبالفعل، تحفر الشاعرة عميقاً في ذاتها حتى مركز تقلقلها، وتدور في فلك الخوف من الهَجر وعدم الفهم، على رغم مساندة الشاعرين باسترناك وريلكه لها. ويعود ذلك إلى ظروف منفاها الصعبة:"في روسيا، أنا شاعرة بلا كتب، وهنا في فرنسا، أنا شاعرة بلا قرّاء. ما أفعله لا يحتاجه أحد". ولن يلبث هذا الشعور بالعزلة أن يتحوّل إلى منفى داخلي تضع حداً له بالانتحار.