الشهادات العليا المقصودة هي بالدرجة الأولى شهادات الدكتوراه بأنواعها المختلفة، وأحياناً شهادات الماجستير. ومن المعروف أن الفوز بالشهادات الجامعية العليا أو الدنيا ليس ضرورياً بحد ذاته، ولا يكفي أحياناً لتحقيق الهدف الأسمى من التعليم. فالهدف الأسمى من التعليم هو تنمية القدرة على التعلم. ولا تتحقق القدرة على التعلم بدورها من مجرد القراءات الأدبية العامة، ولا تتحقق عن طريق الحفظ للنصوص أو الأشعار أو حفظ آلاف المعلومات المتفرقة التي لا يربط بينها رابط منهجي. فقد تجد شخصاً يعرف ما هو أطول نهر في العالم، وما هي أكبر بحيرة، وما اسم حاكم ولاية أميركية أو هندية أو غيرها، ومع ذلك كله قد يكون أجهل من طالب في إحدى مدارس التعليم الإعدادي التي تُعلّم طلابها كيفية التفكير لا الحفظ الأعمى، فيعرف أحد طلابها كيف ينظر في الأطلس أو في أحد مواقع البحث في الانترنت، فيعطي السائل المعلومات الصحيحة من مصادرها الموثوقة. ولنفترض جدلاً أن شاباً أو شابة حصل على شهادة بكالوريوس في الهندسة الكهربائية من جامعة مميزة في حقول الهندسة ك"ستانفورد"أو"أم. آي. تي"أو ما يماثلهما، فهل يعني هذا أن خريج كلية الهندسة لتوه قادر على ممارسة الهندسة؟ في معظم الأحيان ليس قادراً على الممارسة مع أن الشهادة الجامعية في حقل الهندسة الكهربائية متفق على أنها ضرورية. وهذا لا يعني أن هذا الخريج أو ذاك غير مؤهل. فالهدف من الحصول على شهادة جامعية في الهندسة الكهربائية مثلاً من جامعة مميزة أو حتى جيدة، هو تعلم كيف يتعلم الخريج من المراجع وممن سبقوه في أمكنة العمل. وما هي إلا أشهر أو سنوات حتى يتبين خريج الهندسة أن تعليمه الأكاديمي المنهجي هو ما جعله قادراً على التفكير الصحيح في المجال الميداني لما درس، ثم التطبيق الصحيح لما درس. إذاً، يمكن القول بأن الهدف من التعليم هو تعلم كيفية التفكير في الموضوع الذي تم تعلّم مبادئه ووسائله المنهجية. أما الهدف من"التدريب"فهو، وكما هو معروف، إتقان"حرفة"لعمل محدد كالتمديدات الكهربائية أو النجارة أو غيرها من"الحرف". وبالطبع هناك حقول"مهنية"لابد من دراستها أكاديمياً، على الأقل في وقتنا الحاضر، كالقانون والطب والهندسة. ويعرف من هم من جيلي من طلاب علم الاقتصاد، أن الاقتصادي الانكليزي الشهير كينيث بولدنغ لم يُكمل المرحلة الابتدائية. غير انه كان أقرب ما يكون إلى العبقري، لأنه تعلّم القراءة والكتابة في سن الرابعة وأجاد مبادئ الحساب ورسم المنحنيات قبل بلوغ السادسة. والحد الأدنى المطلوب للإلمام بأوليّات علم الاقتصاد هو إجادة القراءة والحد الأدنى من القدرة على التعامل مع الأرقام. ونعود إلى عنوان موضوعنا، وهو: متى تكون الشهادات الجامعية عبئاً على حاملها وعلى المجتمع الذي يعيش فيه بدلاً من رفع مستوى إنتاجيته وزيادة فائدة مجتمعه؟ ونبدأ بمحاولة الإجابة، بالقول إن الشهادة العليا لا تكون عبئاً في المجتمعات التي بدأ منح الشهادات من كليات التعليم الإنجيلي فيها. فجامعتا هارفارد وجون هوبكز في الشمال الشرقي من الولاياتالمتحدة الأميركية، أولى الجامعات في شمال أميركا التي منحت شهادة الدكتوراه، ولم تمنحها في الهندسة أو الكيمياء أو الاقتصاد، وإنما منحتها في الدراسات الإنجيلية من منظور ديني، انطلاقاً من أنها تُمنح لمن أضاف شيئاً غير معروف من ذي قبل من مجرد قراءة أو حتى تفسير ما ورد في الروايات المختلفة للأناجيل المعروفة التي كتبت في حقب مختلفة. وكذلك الحال بالنسبة إلى الجامعات الأوروبية العريقة التي منح عدد محدود منها الدكتوراه قبل الجامعات الأميركية التي قلدتها في بداية الأمر. ثم تطورت طرق الحصول على شهادة الدكتوراه ب"الزعم"أنه لا يفوز بها إلا من يضيف شيئاً جديداً إلى حقل من حقول المعرفة المنهجية. غير أن الجامعات تنافست في اجتذاب كل من يستطيع الحصول على قبول في برنامج الدراسات العليا، أو من يدفع تكاليف التعليم أو ما يشبهه أحياناً. والجامعات الأميركية والكندية المعترف بها لا تمنح الدكتوراه بالمراسلة، أو عن طريق كتابة الرسائل فقط، وإنما لابد من دراسة"الكورسات"المطلوبة مع بقية الطلاب، وبعد تجاوزها، لابد من تجاوز ثلاثة امتحانات طويلة، الهدف منها التأكد من إتقان وسائل وطرق البحث الصحيحة والإلمام بجوهر موضوع الدراسة. والمشكلة حدثت بعد الحرب العالمية الثانية، حينما بدأ منح الدكتوراه في حقول تتكون مناهجها من خليط من دراسات، إما ليست بينها صلة علمية وثيقة، أو أنها مجرد آراء مبنية على استطلاعات، وكأن الناس يفعلون دائماً ما يقولون. وهذا هو النوع من شهادات الدكتوراه التي تقل قيمتها الشرائية في أسواق العمل في الاقتصاديات الحديثة عن قيمة الورق الذي كتبت عليه. وفي هذه الحالات تكون الشهادات العليا عبئاً على حاملها، لأنها قد تمنعه أو تمنعها من تعلم"حرفة"تضمن عملاً منتجاً. أما في البلدان التي تعودت على الدكتوراه منذ قرون، فوجودها أو عدمه لا يضمن عملاً ولا يعطي مكانة اجتماعية أفضل إلا في حقول التدريس الجامعي. أي أنها بحد ذاتها لا تضيف ولا تنتقص من دخل أو مكانة حاملها. وحتى في مهنة التعليم الجامعي، قد نجد أن مستوى دخل أستاذ في الهندسة الكيميائية مثلاً أعلى من مستوى مجموع دخول عدة أساتذة يُدَرسون حقولاً نظرية، مع أنهم جميعاً قد يكونون من حاملي شهادات الدكتوراه. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.