يواجه العالم العربي عدداً من التحديات الاقتصادية والاجتماعية في مقدمها البطالة والفقر والدين العام. وتمثل مشكلة الدين العام عقبة كبرى أمام دفع عجلة التنمية في عدد من الدول العربية، إذ يحد تراكم هذا الدين من قدرة هذه الدول على تقديم الخدمات الأساسية لمواطنيها كالتعليم والصحة. ولم تنجح السياسات المالية والاقتصادية التي اعتمدتها الدول للحد من الدين وتلبية الاحتياجات التمويلية للحكومة وتوفير المبالغ اللازمة لدفع الأقساط المترتبة عليها في تحقيق هذه الأهداف، بل على العكس أدت إلى ارتفاع الدين العام ووصوله إلى مستويات مفرطة. ففي لبنان، مثلاً، وصل الدين العام إلى أكثر من 42 بليون دولار عام 2006 185 في المئة من معدل الدخل الإجمالي المحلي للسنة نفسها. وفي مصر وصل الدين العام عام 2006 إلى نحو 110 في المئة من الدخل الإجمالي المحلي. ولعل أهم الأسباب التي أدت إلى ارتفاع هذه الديون و تراكمها هي ارتفاع حجم الإنفاق العام في هذه الدول، خصوصاً في المجالات غير المنتجة، وارتفاع أسعار المواد المستوردة كالمحروقات، وقلة الإيرادات الضريبية نتيجة صغر حجم الجبايات بسبب ضعف الحركة الاقتصادية وانخفاض قيمة التعرفة الجمركية، وغياب الآليات الفاعلة للجباية، إضافة إلى تهرب العديد من المواطنين وأصحاب الأعمال من دفع الضرائب لغياب الثقة في البرامج والسياسات الاقتصادية لحكوماتهم. وغالباً ما يتجنب صانعو القرار في الدول العربية الحديث عن الفساد المتفشي في القطاع العام ولدى كبار السياسيين، والذي أدى إلى هدر المال العام والمساهمة في شكل ملحوظ في زيادة الديون المتراكمة في هذه البلدان. فقد احتلت دول عربية عدّة مراتب متقدمة لدى ترتيب منظمة الشفافية الدولية للدول التي تعاني من الفساد. وليس من قبيل الصدفة أن تكون دول عدّة صُنّفت على أنها تعاني من مستوى عالٍ من الفساد هي نفسها التي تتمتع بمستوى عالٍ أيضاً من المديونية العامة. تتركز الجهود الهادفة إلى الحد من الدين العام وتوفير المبالغ اللازمة لتسديد المبالغ المستحقة على هذه الدول في ثلاث إمكانيات رئيسة. الإمكانية الأولى تتعلق بزيادة الإيرادات الحكومية. ومن المعروف أن حجم الإيرادات الحكومية مرتبط في شكل رئيس بمدى جباية الضرائب والجمارك. وتعاني البلدان العربية من خلل واضح في هذا الإطار. ويعود ذلك إلى غياب الأطر والآليات الفاعلة لجمع الضرائب والجمارك، وغياب الثقة بالحكومات العربية وبرامجها تماشياً مع المبدأ القائل أن"لا ضرائب من دون تمثيل"، إضافة إلى ضعف النشاط الاقتصادي في عدد من الاقتصادات العربية. وقد لجأت دول عربية عدّة إلى تغيير القوانين الضريبية والجمركية، كما اتجهت نحو تطبيق معايير أكثر فاعلية لجبي الضرائب. الإمكانية الثانية مرتبطة بترشيد الإنفاق الحكومي. فقد لجأ عدد من الدول العربية إلى خفض دعم الحاجات الأساسية للمواطنين كالخبز والمحروقات، وتخصيص بعض مؤسسات القطاع العام بهدف التقليل من حجم فاتورة الرواتب الحكومية وتحسين أداء القطاع العام. ووفقاً للعديد من الدراسات مازال القطاع العام في الدول العربية يعاني من ضعف الإدارة ومحدودية الفاعلية. ولاقت هذه السياسات موجة من الاحتجاجات من قبل الفئات التي تأثرت بهذه السياسات. أما الإمكانية الثالثة فهي المتعلقة بالمساعدات الدولية، فقد مكنت هذه المساعدات خلال السنوات الماضية عدداً من الدول العربية كالأردن ومصر من تغطية جزء كبير من المصروفات الحكومية. وقد اعتُمد على هذه المساعدات من أجل تأجيل الانطلاق في عملية إصلاح اقتصادي شامل، بدلاً من استخدامها في تخفيف الآثار الجانبية التي قد ترافق التحول الاقتصادي الناتج من عمليات الإصلاح في المدى القصير وحتى المدى المتوسط. وتظهر البيانات أن حجم المساعدات الدولية للعديد من الدول العربية بدأ بالتناقص في السنوات الأخيرة وما من ضامن لاستمرارها في المستقبل، إذ أنها مرتبطة بمصالح سياسية قابلة للتغير مع تغير الظروف في المنطقة. تؤشر التجربة العربية في مجال إدارة الدين العام إلى أننا نحتاج إلى معالجة جذرية لمسألة المديونية العامة. وتحتاج هذه المعالجة إلى برنامج إصلاح شامل يتم التعامل من خلاله مع كل المشاكل الاقتصادية خصوصاً المرتبطة بالترتيبات السياسية والمؤسساتية في البلدان العربية. لقد حان الوقت ليكون الإصلاح الاقتصادي الشامل أولوية وطنية قصوى بحيث ينتقل الإصلاح الاقتصادي من كونه مثار قلق تكنوقراطي إلى محل اهتمام وطني. وهذا لا يكون إلا من خلال العمل المشترك بين الحكومات العربية، ورجال الأعمال، والمجتمع المدني عبر الاتفاق على مبادئ مشتركة، ووضع خطط عمل عاجلة لتنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي الشامل. * خبير اقتصادي -"مركز كارنيغي للشرق الأوسط"