من أول واجبات المدققين في الحدث السياسي تفسير توقيت حصوله. ففهم التوقيت باب لفهم آفاق الحدث ولاستشراف مآلاته. تصدق هذه القاعدة المنهجية تماما على التعدي على المسجد الأقصى من قبل حكومة أولمرت عبر هدم الطريق المؤدية إلى واحد من أبرز أبوابه وإجراء حفريات تهدد ثباته. فلماذا اتخذت حكومة أولمرت قرارها بالتعدي على الأقصى في هذا الوقت؟ يقوم الاجتهاد الذي تتضمنه هذه السطور على أن هناك ثلاثة عوامل دفعت بحكومة أولمرت إلى التعدي على الأقصى في هذا الوقت. العامل الأول هو الرغبة في محاربة الأثر النفسي الإيجابي الناجم عن إعادة بناء منبر صلاح الدين بالمسجد الأقصى الذي احترق عام 1969. فخلال الأيام السابقة على الاعتداء على الأقصى جرى إحلال منبر صلاح الدين الجديد بعد بنائه حيث احترق المنبر القديم نتيجة إضرام مستوطن إسرائيلي النار بالمسجد الأقصى بتنسيق مع سلطات الاحتلال عام 1969. ومن أجل بيان هذه النقطة لا بد من نبذة موجزة عن منبر صلاح الدين ومكانته الروحية ورمزيته في تاريخ المواجهة مع الاحتلال، فقد ظل المنبر شامخا في صدر المسجد منذ أن ثبته هنالك صلاح الدين الأيوبي عقب فتح القدس عام 583 ه. وكان عمه نور الدين محمود قد بدأ بناء المنبر عام 563ه آملاً أن يحظى بشرف تثبيته في صدر المسجد الأقصى عند فتح القدس غير أنه لم يتمكن من ذلك لوفاته، فعمر المنبر منذ تأسيسه حتى احتراقه عام 1969يتجاوز سبعة عقود. طيلة هذه العقود ظل منبر صلاح الدين يحتل مكانة كبرى في قلوب أبناء شعب فلسطين بل قلوب أبناء الأمة وقادتها، فقد اجتمعت فيه معانٍ رمزية جليلة عديدة ضربت بجذورها في وجدان الأمة وضميرها. اجتمعت فيه معان روحية خالصة ومعان تتعلق بالأمة. أما عن المعاني الروحية الخالصة فالمنبر يعد أبرز المعالم في أي مسجد بجانب القبة والمنارة والمحراب، فمكانته لصيقة للغاية بمفهوم النبوة نفسه إذ ينسب كل منبر في كل مسجد مؤسس في أي بقعة من بقاع الأرض إلى النبوة. والمنبر هو رمز اتصال الأمة بالسماء ووحدة الأمة في الأرض في آن. فارتفاع المنبر عن الأرض يرمز إلى حالة العروج والاستمداد من السماء. كذلك فإن علو المنبر البسيط وتوسطه للمسجد ليقف عليه الخطيب يجعلان المنبر يوحد أنظار جموع المجتمعين تجاهه. بكلمات إن"حالة المنبر"هي تعبير مختزل عن حالة علاقة الأمة بالسماء وعلاقة الأمة بالنبوة وعلاقة الأمة ببعضها. وأما عن المعاني المتعلقة بالأمة فإن منبر صلاح الدين كان أجلّ تعبير عن مفاهيم الرباط والصمود والإيمان بالنصر والتحرير والتسامح الأمتي في آن. فبناء المنبر قبل فتح القدس بعقدين من الزمان يعبر عن يقين باقتراب فتح بيت المقدس وعن تصميم على تحقيق هذه الغاية. كما أن تثبيت المنبر في صدر المسجد الأقصى عقب فتح القدس مباشرة كان رمزا لإنجاز مسعى كبيرٍ وهو إخراج الفرنجة بعد أن أسروا المسجد الأقصى زمنا طويلا. كما أن الحرص على وضع المنبر في المسجد الأقصى مع الحرص على احترام أسرى الفرنجة بل والحرص على السماح لزوار الفرنجة بالحج مستقبلا، كل هذا عبر عن أن المقصد من التحرير هو إعلاء كلمة السماء وليس استعلاء الأمة وأن أساس التحرير هو الرحمة وعدم الانتقام. ولما نالت نيران الاحتلال من منبر صلاح الدين عام 1969 شعر دعاة الفكرة الصهيونية أنهم أصابوا أبناء شعب فلسطين والأمة في مقتل. وشعروا أنهم خطوا خطوة واسعة في طريق استلاب الحرم القدسي تمهيدا لإقامة الهيكل إذ ظنوا أنهم كسروا إرادة أبناء شعب فلسطين والأمة نظراً لأنهم أحرقوا أحد أبرز معالم المسجد، ولطالما كان مفهوم"كسر الإرادة"مفهوما اساسياً في السياسة الإسرائيلية. لكن منبر صلاح الدين أعيد بناؤه بجهود شعبية ورسمية. فجرى بناء المنبر الجديد بالاستعانة برسوم المنبر القديم وأوصافه الموجودة في المراجع والمخطوطات للوصول إلى أقصى درجات التطابق بين الجديد والقديم. وتم تثبيت المنبر الجديد في موقع المنبر القديم. عندها شعر القائمون على الحملة الصهيونية من الاستراتيجيين والخبراء والسياسيين أن جهودهم الساعية لاستلاب المسجد الأقصى منيت بضربة موجعة وأن ظنهم أنهم كسروا إرادة أبناء فلسطين والأمة ولو جزئيا بحرق منبر صلاح الدين ظنٌ في غير محله. ووجد بناة الفكر الصهيوني أنفسهم أمام مفارقة قاسية في الوقت الذي يسعون فيه إلى تشييد بناء يدعون أنه مصمم وفق تصميم الهيكل المزعوم ليجري إحلاله محل المسجد الأقصى بعد هدمه الذي يأملون تحقيقه في أقرب فرصة. في هذا الوقت يُعاد بناء معلم هو من أبرز معالم المسجد الأقصى وأكثرها التصاقاً بالمعاني الروحية هو منبر صلاح الدين، وفق ذات التصميم الذي كان عليه قبل أن يحرقه المتطرف الإسرائيلي منذ ما يقترب من أربعة عقود. ووجدت اسرائيل نفسها وقد فقدت حيلتها في مسعاها لكسر إرادة هذا الشعب واستلاب مقدساته. وعندما يفقد الذهن حيلته يكون آخر ما يستطيع القيام به أن يحيل الأمر للجرافات كي تهدم وللمعاول كي تحفر عسى أن تنجح في ما لم ينجح الذهن فيه. العامل الثاني هو حاجة أولمرت إلى إنجاز سياسي سريع ينقذ به نفسه من حالة"الترنح السياسي"التي وجد نفسه فيها منذ الإخفاق في لبنان. فأولمرت يعلم أن أيامه على قمة الهرم السياسي الإسرائيلي معدودة. فقد قضت سُنَّةُ الواقع الإسرائيلي أنه لا بد من إخراج القيادات التي تخفق إخفاقا استراتيجيا نوعيا من سدة الحكم. هذا ما حصل مع إدارة غولدا مائير بعد إخفاقها في حرب 1973، فخلال الشهور التالية لتوقف العمليات جرى إقصاء رئيس الأركان أليعازر ككبش فداء أول. تبع ذلك في حزيران يونيو 1974 إقصاء غولدا مائير نفسها. ومعلوم أن أبرز الوجوه التي أقصيت نتيجة الإخفاق في حرب تشرين الأول أكتوبر كان موشي دايان الذي كان القائد الفعلي خلال الحقبة الستينية. واليوم ها هو حالوتس رئيس الأركان يتم إقصاؤه ككبش فداء بعد أن تم إقصاء جنرالات آخرين من قادة المنطقة الشمالية وها هو سكين الفضائح يُشهر في وجهِ عددٍ غير مسبوقٍ من الأعضاء الحاليين أو السابقين في حكومة أولمرت من الذين لهم ثقل كبير في حزب"كاديما"بل يشهر في وجه أولمرت نفسه. وها هو أولمرت يراقب عن كثب التفاعلات الداخلية التي يراد لها أن تتمخض عن قيادات جديدة تخلفه. وأولمرت يعلم أن العلاقات الأميركية الإسرائيلية تقضي في هذه المرحلة بالبدء في إعداد قيادة إسرائيلية جديدة لتوائم توجهات الإدارة الأميركية القادمة التي بدأت تأخذ في التشكل لتنسجم معها من حيث المستوى الشخصي والمستوى السياساتي. فمن يراجع تاريخ الإدارات الأميركية والإسرائيلية يعلم أنه كلما بدأت إدارة أميركية جديدة في التشكل بدأت إدارة إسرائيلية جديدة تصلح للتعامل معها على المستوى الشخصي والسياساتي في التشكل أيضا كما حصل مع إدارتي شارون وبوش الابن مثلا. قصارى القول إن قيادة أولمرت شعرت بحاجتها الماسة إلى إنجازٍ سياسي يمكنها توظيفه في إطالة أمد بقائها في السلطة. وظن أولمرت أن الطرف الذي يستطيع تحقيق هذا الإنجاز في هذه المرحلة هو الطرف الفلسطيني. فأولمرت يعلم أنه لا يستطيع معاودة المحاولة في الجنوب اللبناني ويظن أن حالة الانشقاق التي عمت العلاقة بين"فتح"و"حماس"ستجعل الرد الذي سيقدم عليه الطرف الفلسطيني محدودا. وربما غاب عن أولمرت أن باراك ظن ظناً مشابهاً عام 2000 عندما حسب أنه يستطيع من خلال تكريس انتهاك شارون للأقصى ورفع مستوى القمع والقتل إعادة قبول قيادته التي فقدت بريقها بعد فشل مباحثات كامب دافيد الثانية عام 2000 فإذا بانتفاضة الأقصى تفضي إلى إقصائه. العامل الثالث الذي أدى بإدارة أولمرت إلى الاعتداء على المسجد الأقصى في هذا التوقيت هو الرغبة في توجيه رسالة إلى القوى الفلسطينية. فقد اجتمعت قيادتا أكبر فصيلين فلسطينيين لتعلنا احترامهما لاتفاقات سبق أن وصفت بأنها"اتفاقات إذعان"ولتعلنا أنهما تنطلقان من منطلق قبول تأسيس دولة فلسطينية على الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدسالشرقية. وفي اليوم ذاته تحركت الجرافات الإسرائيلية من أجل أن توجه رسالة لتلك القوى الفلسطينية مفادها أنه رغم هذا الاعلان، هذا فإن العمل لاستكمال السيطرة على الضفة الغربية سيجري على قدم وساق بل ان العمل لاستكمال استلاب البلدة القديمة واستلاب المزيد من حرم المسجد الأقصى سيجري على قدم وساق. لعل القاسم المشترك بين العوامل الثلاثة أنها تتحرك على أرض"الحرب النفسية". ولعل احتشاد هذه العوامل يؤكد تصاعد خطورة العامل النفسي للمواجهة في المرحلة الراهنة والمقبلة. والحق أن البعد النفسي في مواجهة الاحتلال ظلَّ حاضراً منذ اليوم الأول. لكن البادي اليوم أن منحاه يتخذ حركة جديدة وسريعة الى الأعلى. ونذكر أن البعد النفسي كان من أشد الأبعاد حضورا في حرب تموز يوليو 2006 ومن أشدها تأثيرا في صيرورة الحرب. من كل ذلك لنا أن نتوقع أن المرحلة القادمة ستشهد تعاظما لأثر البعد النفسي في حسم الجولات المقبلة. * كاتب فلسطيني