كان المقصود، وربما لا يزال في بعض الأذهان، أن عبارة "كلام جرايد" لا تختلف في معناها عن المقصود من كلمات مثل "يقال" أو "يشاع". غير أن "الجرايد" وغيرها من قنوات الاتصال كمواقع"الانترنت"ومحطات التلفزيون والإذاعة، وبقية وسائل الإعلام المعروفة، أصبحت صناعة معقّدة لا تنشر أو تقول شيئاً بالصدفة. وعلم النفس التجريبي يدل المتمعن على أننا - نحن بني الإنسان - لا نقول شيئاً سواء أكان حقيقياً أم مختلقاً، من دون أن يكون لنا دافع. وما يدفعنا لنشر حقيقة أو"إشاعة"لم نتأكد من مطابقتها للواقع، قد يكون دافعاً خفياً عفوياً، كما قد يكون بالطبع واضحاً تعمدنا نشره لخدمة مصالحنا. وموضوعنا هذا ليس عن أقوال الأفراد، وإنما عمّا تنشره وسائل الإعلام العامة. ومن المعروف أن ما يُنشر وما يُقال قد يكون حقيقة ل"الإعلام"، وقد يكون ل"الإخفاء"و"الطمس"، وقد يكون ل"الإثارة"وزيادة المبيعات أو عدد الجمهور لأسباب تجارية بحتة، وقد يكون لأسباب أخرى أكثر مما يخطر على البال أحياناً. وبالنسبة إلى الأخبار المجرّدة، فوسائل الإعلام تتشابه، لأنها تنقل إما عن بعضها أو عن المصدر نفسه. غير أن هذا لا يعني أن كل ما تتناقله وكالات الأنباء ثم تنشره عنها بقية الوسائل صحيح. ويعرف كل متابع أمثلة كثيرة نشرتها للمرة الأولى وكالة إخبارية محترمة، فتناقلتها عنها بقية وسائل الإعلام، ثم ثبت عدم صحتها. أما نسبة احتمال احتواء"التحقيقات"على أخطاء فهي عالية، إن لم تتول"تحريرها"وسيلة مهنية محايدة، تخشى المسؤولية القانونية في بريطانيا وبعض الدول الأوروبية، أو أنها تخشى المساس بصدقيتها وسمعتها المهنية بالنسبة إلى الصحف والدوريات القيادية وشبكات التلفزيون، إذا استثنينا"فوكس نيوز"، في أميركا الشمالية. أما في العالم الثالث، وفي وسائل التشهير والإثارة، فالمهم زيادة المبيعات، سواء تطابق ما يُنشر مع الحقيقة أم جانبها. وتتسع المسافة بين الحقيقة والتزييف، وفقاً للقوانين المحلية ودرجة التنافس على رفع الحصص من جمهور القراء أو المشاهدين. والكثيرون يخلطون بين ما تقوله صحيفة محترمة معروفة بكفاءتها المهنية، ك"لوس انجليس تايمز"، وما تنقله الصحيفة نفسها أو قناة محترمة أخرى على لسان شخص أو جهة أخرى. وحتى حينما تنقل القنوات المهنية الموضوعية أخبار جريمة ما، فإنها لا تقول الفاعل هو هذه الشركة، أو هذا الشخص، أو هذه الدولة، وإنما تتأكد من وضع كلمة"يُزْعَمْ"أو"زَعَمْ"المدعي أو"زَعَمْ"محاميه أو"زَعمَتْ"أي جهة أخرى. أما بعض القنوات أو الصحف التي لا يخفى على محايد تحيزها، وتتمتع بدرجة معقولة من المهنية ك"الجزيرة"أو"فوكس نيوز"، فهي تتحاشى عبارات"زَعمْ"أو"يَزعُمْ"، وتأتي ب"خبير"معروف ما سيقوله سلفاً، ليؤكد من دون تحفظ كل ما يُراد منه قوله، لإيهام المتلقي بصحته، سواء أكان صحيحاً اتفق مع غرض القناة، أم ملفقاً يخدم أغراض القناة الإيهام بأنه حقيقي. وحينما يحدث شيء لا تُريد مثل هذه القنوات مثلاً انتشاره، فإنها إما تتجاهله تماماً، أو تبحث عن شيء آخر للمغالاة في تناول تفاصيله لتحويل الأنظار عما تُريد طمسه أو إخفاءه. وكذلك تفعل محطة"فوكس نيوز"على رغم الاختلاف الجذري في الدوافع بين محطة الليكوديين من مسيحيين ويهود، أي"فوكس نيوز"، ومحطة"الجزيرة"القطرية. والذي سيلحظه كل متابع لوسائل الإعلام الأميركية، أن صحافياً تلفزيوناً قديراً حاصلاً على شهادة عليا في القانون، وهو مقدم البرنامج التلفزيوني الأسبوعي"مقابلة صحافية"في شبكة"ان بي سي"، تيموثي رسرت، كثيراً ما يبادر ضيوفه بأسئلة مثل: قالت الصحيفة الفلانية أو قال فلان أو علان كذا، فماذا تقول؟ والأغرب في الأمر، ان بعض الضيوف يجيبون عن أقاويل حتى حينما لا يعلمون من هو القائل أو"الزاعم"، وكأن كل الأقوال محايدة موثقة موضوعية لا دوافع ذاتية وراءها. وجوهر الموضوع، أن معظم ما ينشر أو يذاع له دافع، خصوصاً إذا كان خارج إطار الأدب البحت والكتابات الفنية الإبداعية. ولنتوثق من احتمال مطابقة المنشور مع الحقيقة، علينا ان نحدد بقدر المستطاع دوافع القائل أو الناشر، أو دوافع المنقول عنه، سواءً أكانت مجرد إثارة لأسباب تجارية بحتة، أم لنشر الحقيقة حينما يخدم نشرها مصلحة الناشر، أو للدس، أو للتقليل من شأن شخص أو جهة، أو لأي سبب آخر. والله من وراء القصد * أكاديمي سعودي.