كان الكتاب في مقدم همومها الثقافية المتعددة، الكتاب تأليفاً وصناعة ونشراً. ومسرحيتها الأخيرة التي قدمتها في بيروت العام الفائت وعنوانها"قتلة الكتاب"تشهد على شغفها العميق بالكتب وعالمها بل وحياتها أيضاً. وعندما قدمت تلك المسرحية التي كتبتها بالانكليزية أبت إلا أن تترجمها الى العربية وتصدرها في كتيب وزع على المشاهدين. وكان ذاك النص أشبه بالمونولوغ الجميل الذي يحمل في طياته الخوف على الكتاب من قتلته الجدد. غابت مي غصوب في أوج عطائها. هذه المرأة المتعددة المواهب والشواغل والهموم التي لم تكمل الخامسة والخمسين بدت كأنها تحدس بموتها طوال حياتها التي لم تطل، فراحت تعمل وتبدع وتنتج بغزارة، متنقّلة بين باريسولندنوبيروت عاصمتها التي ظلت مشدودة اليها، ومنتقلة من الكتابة الإبداعية والبحثية الى النحت الذي تخصصت فيه أكاديمياً ثم الى المسرح وفن التجهيز، علاوة على عملها الدائم في عالم النشر، وقد ابدعت فيه محدثة ثورة لم تعرفها دور النشر العربية. ولعل"دار الساقي"لم تكن في عهدة مي، لم تكن داراً عادية، بل كانت أقرب الى المركز الثقافي الذي يدرك ما ينشر ويعرف كيف يروّج كتبه وكتّابه، غير آبه للرقابات ولا للممنوعات المفروضة مسبقاً على الكتابة والكتاب. هذه المرأة التي خاضت تلك المجالات بجرأة وصلابة ومعرفة، كانت كاتبة من الطراز الرفيع، تكتب بالانكليزية والفرنسية والعربية بلا هوادة. والميادين التي انصرفت اليها كانت متعددة ايضاً: قضايا المرأة وتحررها، الذكورة وثقافتها، الحداثة وما بعدها، الفن، الأدب، علم الاجتماع والفكر... وكتبها التي صدرت بالعربية والانكليزية خير دليل على فرادة منهجها المفتوح على أكثر من منهج، وقد قاربت عبره تلك القضايا، بروح عصريةونظرة نافذة وحدس ثاقب. فهي كانت في كتب مثل"المرأة العربية وذكورية الأصالة"وپ"ما بعد الحداثة: العرب في لقطة فيديو"وسواهما، تصر على الجمع بين البحث الأكاديمي والمقاربة الذاتية المتحمسة والشغوفة بما تعالج. اما مقالاتها التي دأبت على نشرها في أكثر من صحيفة ومنها"الحياة" فكانت تتميز بنفَسها المختلف، الحديث والعصري، عطفاً على أسلوبها المختصر الذي يومض ويُلمح. وضعت مي كتباً عدة وأشرفت على كتب جماعية، وآخر هذه الكتب كتاب"لبنان لبنان"الذي صدر عن دار الساقي بالانكليزية وشاءت ان يعود ريعه الى ضحايا الحرب التي شنتها اسرائيل على لبنان صيف العام الفائت. واستطاعت بُعيد حرب تموز ان تجمع في هذا الكتاب شهادات ونصوصاً لأدباء عالميين وعرب ولبنانيين. وفوجئ القراء عندما واجهتهم في الكتاب نصوص لأسماء كبيرة مثل: هارولد بنتر، جون لوكاريه، بول أوستر، نايبول، دوريس ليسنغ، أورهان باموك، حنيف قريشي، البرتو مانغويل وسواهم. فرحت مي كل الفرح بهذا الكتاب وعدّته أجمل تحية أمكنها ان تقوم بها من اجل لبنان، الوطن الذي غادرته بالجسد وليس بالروح. وقد تكون حكايتها مع وطنها حكاية خاصة جداً. غادرت مي لبنان في السابعة والعشرين من عمرها، عام 1979 بعدما عاشت حرب السنتين، كشابة يسارية مناضلة. ولم توضح يوماً ان كانت غادرت وطنها يأساً من الحرب التي اكتشفت عبثيتها باكراً أم لتواصل"معاركها"الثقافية الخاصة بعدما فقدت عينها في حادث خلال الحرب. هاجرت أولاً الى باريس هي التي درست الأدب الفرنسي في الجامعة اللبنانية، ثم الى لندن هي التي درست ايضاً الرياضيات في الجامعة الاميركية في بيروت. في العاصمة البريطانية انطلقت في اعمالها المختلفة، صحافية وكاتبة وناشرة وفنانة... وكانت درست في لندن فن النحت في"معهد مورلي". كانت مي مبصرة ورائية، تعرف ماذا تريد على رغم شواغلها الكثيرة، وكانت تبدو دوماً قادرة كل القدرة على التوفيق بين هذه الشواغل. وإنها بحق نموذج صارخ للمرأة المثقفة التي تجمع بين الهاجس الثقافي والفكري والالتزام"السياسي"والاجتماعي. كانت الكاتبة المناضلة، التي لا يضيرها أن تنزل الى الشارع او ان تجلس الى الطاولة تقرأ بنهم وتكتب بنهم. لم تُشفَ مي غصوب من جرح لبنان الذي اندلع في الجسد والروح. قبل فترة قصيرة زارت لبنان لترى عن قرب"مشهد"الاعتصام في وسط بيروت، وتكون على بيّنة مما يحصل في بلدها. تلك كانت زيارتها الاخيرة، زيارة السيدة المملوءة حياة وحيوية، والحالمة بالأعمال والمشاريع... وهي كانت تصر على تقديم عروضها المسرحية ومعارضها النحتية والتجهيزية في بيروت، بعد تقديمها في لندن وسواها. والجمهور البيروتي"النخبوي"يذكر عرض"ديفا"الذي كتبته وقدمته بالعربية والانكليزية والفرنسية وجمعت فيه أمّ كلثوم وإديث بياف وجوزفين بيكر وجانيس هوبلن... واختارت ان تقدمه في مؤسسة صغيرة وهامشية هي"زيكو هاوس"عام 2001. ومثله قدمت عرضها المسرحي"قتلة الكتاب"الذي يدور في جو الحرب اللبنانية داخل منزل مهجور يحرق فيه القتلة الكتب... ما أصعب أن نصدق غياب امرأة مثل مي غصوب، غياب كاتبة مثلها وناشرة وفنانة ومثقفة ومناضلة... هذا الغياب المأسوي السريع الذي لم تستأذن به أصدقاءها وقراءها ومتابعيها. غابت بسرعة مثلما كانت تعيش غير منتبهة الى الوقت الذي كانت تسبقه دوماً. ما أصعب ان نصدق غياب مي غصوب التي كانت صاخبة بالحياة والحيوية، وبالأحلام التي يصعب ان يحققها احد سواها.