أحسن رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان صنعاً بتأكيده أن أنقرة ترى إمكانية واقعية في قيام علاقات من التعاون العملي بينها وبين حكومة الإقليم الكردي في العراق. ورغم أن قولاً كهذا لا يشكل، في حد ذاته، الخرق المطلوب في مجال كسر الجليد السياسي بين تركيا وكردستان العراق، فإنه يعطي إشارة قوية وواضحة الى أن الحكومة التركية برئاسة أردوغان مهتمة بالفعل برسم سياسة جريئة وجديدة للتعامل مع الحالين الكردية والعراقية. هذه الإشارة تظل صحيحة، رغم أن بعض الخبثاء يشيرون الى أن تصريحات أردوغان قد لا تتجاوز لعبة انتخابية هدفها كسب أصوات الناخبين الاكراد في تركيا خصوصاً مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التركية في تشرين الأول اكتوبر المقبل. غير أن المشكلة في أنقرة أنها ليست أنقرة واحدة ولا تشكل مركزاً لقرار واحد. والمشكلة أيضاً أن تقاطعات اتخاذ القرار ورسم المواقف في تركيا ليست لها دائماً علاقة باللعبة الديموقراطية أو اختلافات الرأي والاجتهاد السياسي. بل كثيراً ما تأتي هذه التقاطعات والمواقف لتشير الى عمق حالة الفوضى والتخبط والتعارض في آليات اتخاذ القرارات السياسية الكبيرة في تركيا. إذ بعد أقل من يومين من تصريحات رئيس الوزراء التركي سارعت مؤسسة الجيشن التي تملك نفوذاً مؤثراً على مراكز القرار السياسي في العاصمة التركية، الى نقض كلام أردوغان وإعادة إنتاج اتهامات قديمة موجهة للأحزاب الكردية في العراق مفادها أنها متورطة في دعم"حزب العمال الكردستاني"المعارض للدولة التركية. هذه الاتهامات قد لا تدعو الى قلق حقيقي خصوصاً أن الجيش في تركيا تميز على الدوام بلغة سياسية خشنة وغير سوّية. لكن المشكلة أنها أسهمت بشكل فعلي في إعادة الجهود الأميركية الرامية لتحسين العلاقات بين أنقرة من جهة، وأربيل وبغداد من جهة ثانية، الى نقطة الصفر. قد يرى البعض أن كلام المؤسسة العسكرية التركية لا يعبر عن موقف تركي حقيقي لأن هذه المؤسسة التي نفذت ثلاثة انقلابات في البلاد في 1960 و 1971 و 1980، لم تعد تمتلك القوة التي تجيز لها منع السياسيين الأتراك من رسم سياساتهم وتطبيقها في إطار الدستور التركي. في هذا المنحى، يشير هذا البعض الى ضغوط كبيرة مارسها الاتحاد الأوروبي على أنقرة للحد من نفوذ الجيش على حياتها السياسية، أفضت في نهاية المطاف الى سن قوانين في البرلمان التركي حدت من صلاحيات المؤسسة العسكرية. لكن الحقيقة التي لا تني تقيّد إرادة الاتحاد الأوروبي في ضم تركيا الى عضويته الدائمة أن الجيش لا يزال يمتلك قوته في رسم سياسات أنقرة رغم الإصلاحات القانونية الأخيرة، وأن هذه القوة لا تنبع من شروط داخلية، بل تنبع في المقام الأول من العلاقات الوثيقة التي تحتفظ بها واشنطن مع المؤسسة العسكرية التركية. في هذا الاتجاه، يرى أكثر من مراقب سياسي أن الولاياتالمتحدة على عكس الأوروبيين تغض نظرها عن الصلاحيات الواسعة التي تتمتع بها المؤسسات العسكرية في دول مثل تركيا وباكستان وأندونيسيا وإسرائيل. ويرى هؤلاء أن واشنطن ترى في قوة الجيش في هذه البلدان ضماناً لاستمرار تحالفاتها الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة، وضماناً لحماية تلك الدول من مخاطر الإرهاب والتفكك الداخلي أو من المخاطر الخارجية والإقليمية. إجمالاً، تعيش منطقة الشرق الأوسط على حافة خطرة من الصراعات والاحتمالات غير المحسوبة: العراق وعنفه الطائفي واحتمالات تفككه. إيران وصراعاتها مع الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية والمجتمع الدولي. سورية ولبنان وما بينهما من إحتقانات قد تنفجر في أي لحظة. إسرائيل والفلسطينيون و"حماس". الإرهاب وتنامي مخاطره في العراق وأفغانستان. اسلحة الدمار الشامل. كل هذا، بالطبع، مضافاً الى تفاقم المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وازدياد الهوة بين الأنظمة الحاكمة وشعوبها، يفرض على الإدارة الأميركية العمل، في المربع التركي، في اتجاه تصحيح علاقاتها التركية عن طريق تمتين تحالفها مع المؤسسة السياسية التركية وتأييد جهود الأوروبيين في الحد من سطوة الجيش التركي على قرارات أنقرة السياسية. من دون خطوة أميركية كهذه، لا يمكن لتركيا أن تتحول الى نقطة الجذب الديموقراطي المطلوبة في العالم الإسلامي. ولا يمكنها أن تلعب دوراً مؤثراً في نشر قيم التسامح والتعددية والعلاقات المتكافئة مع نفسها وتكويناتها الداخلية وأطرافها. كما لا يمكنها أن تساعد الولاياتالمتحدة بالشكل المطلوب في إدارة أزماتها وحروبها وجهودها لنشر الديموقراطية في الشرق الأوسط. في الواقع، يمكن القول إن كلام أردوغان عن علاقات ودية مع كردستان العراق جاء بمثابة خطوة صحيحة في الاتجاه الصحيح وفي التوقيت الصحيح. فالرجل يعرف أن بلاده تقع، على الأقل جغرافياً، في عين العاصفة الشرق اوسطية. ويعرف أن توطيد الأمن القومي التركي في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ المنطقة يتطلب تطبيع علاقات بلاده مع كردستان العراق. ويعرف أيضاً أن سياسة التشدد التي تمارسها مؤسسة الجيش لا يمكن أن تحمي العلمانية التركية من مخاطر الأصولية. لكن المشكلة التي تعيق جهوده وجهود رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني، بل جهود الولاياتالمتحدة نفسها، هي الموقف المتزمت للجيش الذي لم ينفك يقتفي آثار الايديولوجية الكمالية. إن الولاياتالمتحدة إذا أرادت الإسهام بشكل جدي في تطبيع الأجواء بين تركيا وكردستان العراق، ما سيعكس تطبيعاً بين العراق والجار التركي، فإن المطلوب منها أن تمارس ضغوطاً على المؤسسة العسكرية بغية إقناعها برفع يدها عن خناق المؤسسة السياسية التركية على الأقل في الميدان الكردي العراقي. وفي حال أخفقت أو تجنبت واشنطن أمراً كهذا، فإنها يجب أن لا تستغرب بقاء تصريحات أردوغان أقوالاً بعيدة عن الأفعال. كذلك أن لا تستغرب تزايد حدة الخلافات بين تركيا واكراد العراق واقترابها من لحظات حرجة قد يصعب على الأميركيين ضبطها في الوقت المناسب. * كاتب عراقي