ليس بخافٍ على أحد، مدى تأثير التباينات السياسية والفكرية بين جهات أو أطراف معيَّنة، في إنتاج وصوغ مواقف متباينة أو متناقضة متنافرة حيال حدث أو تجربة سياسية معيَّنة، على أن يكون صاحب تلك المواقف او الآراء، حريصاً على دقَّة المعلومة التي يطرحها، وحصيفاً في التحليل المنطقي الذي يثيره حولها. ومعلوم أنه من الصعوبة بمكان طلب أكبر قدر ممكن من الحيادية والموضوعية من شخص، أنت وإياه على طرفي نقيض، إزاء توصيف حالة معيَّنة. لكن من المهم، ومن المهم جداً، أن تطالبه بأن يتوخَّى الأمانة والدقَّة في ذكر المعلومة، على أقل تقدير. وسط تصاعد وتيرة التجاذبات السياسية الحالية في المنطقة، على خلفية الأزمة القديمة - الجديدة في تركيا حيال التعاطي مع الملف الكردي، داخل وخارج هذا البلد، تشهد هذه الأزمة استقطاباً كبيراً، ومتابعة وملاحقة إعلامية لصيقة ومحمومة ومكثَّفة. وباستثناء بعض المنابر الإعلامية التركية القومية المتعصبة، ثمة إجماع إعلامي على الدور السلبي للمؤسسة العسكرية التركية في افتعال هذه الأزمة، وإيصالها إلى هذه الدرجة من التشنُّج والتصعيد، لجملة من الأسباب غير خافية على المتتبِّع الحصيف للشأن التركي والكردي. لكن، نُفاجأ، أحياناً، بمواقف عجيبة غريبة لبعض المثقفين والساسة الأكراد، الذين لا يدَّخرون جهداً في تبرئة ذمَّة الحكومة التركية الحالية، وإدانة"حزب العمال الكردستاني"، بخصوص التهديدات التركية بغزو كردستان العراق. وأنْ تصل الحال بالبعض الى وضع"الكردستاني"والجيش التركي في سلَّة واحدة، فهذا ما لم يكن في الحسبان!. ونموذجاً لما سلف، ما كتبه الكاتب الكردي العراقي سامي شورش تحت عنوان:"أنقرة والأكراد: المواجهة العسكرية والتهدئة السياسية"الحياة، 24/10/2007. فتناول شورش للحدث الآنف، شابه الكثير من الأخطاء والمغالطات التي يخشى أن تكون عن سبق إصرار وتصميم!؟. يقول شورش:"العسكر التركي و"العمال الكردستاني"اللذان يناوئان، كل بطريقته، تجربة أردوغان ورؤيته الإصلاحية ورغبته في تخفيف السمة الايديولوجية"الكمالية"عن الدولة والمجتمع التركيين، يعملان بكل جهد من أجل قطع الطريق على كل الجهود السلمية الجارية لتطويق التصعيدات العسكرية الحاصلة". لا خلاف في الشقِّ المتعلِّق بمعارضة العسكر لإصلاحات العدالة والتنمية، لكن هل يجهل الكاتب أن الكردستاني قد أعلن منذ آذار مارس 1993 وحتى 1/10/2006، وقفاً لإطلاق النار من جانب واحد، ودون شروط مسبقة، خمس مرات؟. وفي سنة 2000، علَّق العمل المسلح لأربعة أعوام، وسحب قواته من كردستان تركيا، وأرسل مجموعتين من المقاتلين للاستسلام للجيش التركي، واحدة من جبال كردستان والأخرى من أوروبا، كبادرة حسن نيَّة، تمَّ اعتقال كل عناصرها وإصدار أحكام بالسجن لأكثر من 30 سنة بحقِّهم؟! وهل يجهل شورش أن الكردستاني قد تخلَّى عن شعار الدولة القومية، وخيار الانفصال عن تركيا، وبات يتبنَّى الدولة الوطنية الديموقراطية، وتخلَّى عن النزعة اليسارية المفرطة في توجُّهه الإيديولوجي، وغيَّر اسمه عدَّة مرَّات، بغية إفساح المجال أمام الحلول السلمية. وآخر مساعي الكردستاني في هذا الاتجاه: إعلانه الأخير عن استعداده لوقف إطلاق نار جديد، شريطة أن توقف تركيا تمشيطاتها العسكرية في كردستان تركيا، وتهديداتها لكردستان العراق، طارحاً حزمة من المطالب منها إعلان عفو عام وتضمين الحقوق السياسية والثقافية للأكراد في الدستور التركي. لكن الأتراك لم يكترثوا بأي من تلك النداءات والمساعي السلمية السابقة والحالية، وأولهم، أردوغان وحزبه. فعلي باباجان في زيارته الأخيرة لبغداد قال:"وقف إطلاق النار يكون بين بلدين، وليس بين بلد ومنظمة إرهابية". فلو كان أردوغان جاداً في إنقاذ تركيا من العسكر، هو الذي يسيطر على رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان، فيما الغالبية البرلمانية الساحقة بحوزته، لما بقي الفريق الأردوغاني رهن أمر الجنرالات، نتيجة اتفاق أو تواطؤ العدالة والتنمية مع الجيش في معاداة حقوق الكرد في كل مكان!. ومن جملة المساعي السلمية للكردستاني، تأسيس أحزاب سياسية في تركيا، قامت المحكمة الدستورية العاليا بحظر أربعة منها منذ سنة 1991. وحزب المجتمع الديموقراطي، الذي يشيد شورش باعتداله، ليس إلا الواجهة السياسية أو الاختراق السياسي العلني للكردستاني في تركيا. وهذا الحزب، يتعرَّض لحمة شعواء من قبل حكومة أردوغان، قبل وبعد رفضه التصويت على المذكَّرة التي قدَّمها أردوغان للبرلمان، للموافقة على غزو الجيش التركي كردستان العراق. وعليه، فالاعتدال الكردي الذي ذكره شورش، لا ينفصل عن الجهود السلمية للكردستاني. وهذا ما يعرفه القاصي والداني، ويتجاهله كاتبنا!. "يرى"حزب العمال"أن العلاقات الطبيعية بين الحكومتين، إن بشكل ثنائي مباشر أو عبر العراق الفيدرالي، ستستهدف القضاء على مجموعاته المسلحة التي تنتشر في كردستان العراق. كذلك، يرى، على عكس الحال مع زعماء الاكراد في العراق، أن أكثر ما يمكن أن يفيد الحالة الكردية اضطراب الأوضاع ودوام منطق العنف في الشرق الأوسط بشكل عام، وتركيا بشكل خاص ... إن"حزب العمال"يشارك المؤسسة العسكرية التركية في المصالح المشتركة المتعلقة بتصعيد الأوضاع وتقريب احتمالات المواجهة العسكرية... علاوة على التشويش على حكومة إقليم كردستان العراق بغية منعها من المضي على طريق التناغم مع جهود الحلول السلمية وتطبيع العلاقات مع أردوغان". والحقُّ، أنه من الجيد أن سعة وخصوبة التحليل السياسي لدى شورش، لم تشتط به لاتهام الكردستاني بالأزمة بين الفرقاء السياسيين العراقيين العرب، أو أن الكردستاني يقف وراء الأزمة الناشئة في السودان، أو الخلاف الناشب بين"فتح"و"حماس"في فلسطين، أو أزمة الرئاسة اللبنانية!. وهل فعلاً أنه يمنع حكومة إقليم كردستان من إقامة علاقات طبيعية مع تركيا؟ هذا الرأي، ألا يصبُّ في طاحونة العسكر التركي التي تتهم حكومة الإقليم بأنها أداة في يد الكردستاني!؟. ثم إن مطالب حكومة أردوغان من حكومة المالكي مؤخَّراً تضمَّنت، في ما تضمَّنت،"تسليم مدير الأمن في الإقليم الكردي، مسرور بارزاني، نجل الرئيس مسعود بارزاني، والنائب الكردي العراقي المستقل محمود عثمان، لكونهما شركاء في دعم الكردستاني، حسب الزعم الأردوغاني، والحؤول دون ضم كركوك الى كردستان العراق، عبر تعطيل المادة 140 من الدستور العراقي، فهل لهذه أيَّة علاقة بأيَّة نيَّة ضمنيَّة أو علنيَّة لأردوغان في علاقات طيّبة مع كردستان العراق!؟. ثم ما هي المخارج السلمية للقضية الكردية في تركيا، التي لا تزعج العسكر، ويسعى أردوغان لتأسيسها؟ ثم أن حكومة أردوغان صرَّحت أكثر من مرَّة بأنها لا تعترف بحكومة الإقليم، فهل للكردستاني أي دور في هذا أيضاً، بحسب رأي شورش؟. ثم، هل هنالك حزب سياسي في التاريخ قدَّم كل تلك المبادرات السلمية الآنفة الذكر، ويقال انه لا يود التخلي عن العمل المسلح، وان هاجسه الاستماتة في إطالة أو إدامة الحرب والعنف، والإضرار بنفسه ومصالح شعبه؟. "إن المطلوب الأول من الحكومتين التركية والكردية العراقية امتلاك ناصية جرأة كافية لضبط النفس ولجم التوترات الأخيرة ومنعها من التحول الى مواجهات مسلحة أو توغل عسكري تركي. كذلك المطلوب أن يتجاوز الطرفان أحقاد الماضي وموروث الضغائن التاريخية والشروع في حوار ثنائي هدفه تطبيع العلاقات ... فالقوات التركية، كما هو معروف، قامت منذ ثمانينات القرن الماضي بخمس وعشرين عملية توغل عسكري داخل كردستان العراق... لم تتردد الأحزاب الكردية عن دعم الموقف العسكري والسياسي التركي. لكن أياً من هذه الهجمات لم تفد في وقف مخاطر"حزب العمال"على التجربتين الديموقراطيتين في تركيا وكردستان العراق". يعترف شورش هنا، بأن تعاطي حكومة أردوغان مع حكومة كردستان العراق، يرتكز على أحقاد الماضي وموروث الضغائن التاريخية، وليس لأن الكردستاني هو المتسبب في افتعال الأزمة الأخيرة. ويعترف بأن الأتراك فشلوا في حسم الملف الكردي في تركيا عسكرياً، طيلة السنوات الأخيرة، ويعترف بأن أكراد العراق وقفوا مع الجيش التركي في مواجهة الكردستاني، والسؤال: في ما مضى، كان أكراد العراق حلفاء الجيش التركي، لكن، وبحسب شورش، يشارك العمال الكردستاني الجيش التركي في معاداته للتجربة الكردية في العراق، أليس هذا تنافراً وتناقضاً حاداً في نظرة شورش للحدث؟!. ثم هل يمتد عمر التجرية الديموقراطية في كردستان العراقوتركيا إلى منتصف الثمانينات، حتى يقول إن الاجتياحات العسكرية التركية ال25، لم تستطع تصفية"مخاطر"العمال الكردستاني على التجربتين الديموقراطتين في كردستان العراقوتركيا!؟. لكن، ربما يجهل السيد شورش ان هكذا رأي، يوحي وكأن العسكر التركي مع التجارب الديموقراطية في كردستان وتركيا، وانه حاول إزالة المخاطر التي تهددها في البلدين، والمتمثلة في الكردستاني، لكنه فشل،"للأسف"!؟. "يمكن تفهم الاسباب التي تدعو أنقرة الى نبذ أي حوار سياسي أو ميداني مع"حزب العمال"الإرهابي بحسب التعريف التركي". ماذا يقصد السيد شورش ب"رفض الحوار الميداني"، إن كان رفض الأتراك للحوار السياسي مع الكردستاني، أمراً متفَّهما ومبرراً لدى شورش؟!. أعتقد أن"الحوار الميداني"كان ولا زال على أشده، وفشل الأتراك في حسمه لصالحهم، والمعطى العسكري الحالي، ومقتل وجرح العشرات من الجنود الأتراك، وأسر ثمانية منهم، يؤكد ذلك. وبالنتيجة، لئن تفَّهم شورش رفض الأتراك لمساعي العمال الكردستاني السلمية، فهل يتفهَّم رفض الاتراك الحوار من كردستان العراق؟!. ولماذا، لا يحاول، ولو لمرَّة واحدة، أن يتفَّهم استمرار أكراد تركيا في انتهاج لغة البنادق دفاعاً عن النفس، في مواجهة لغة المدافع والطائرات والصواريخ التركية؟!. ومتى سيتفهّم الكثير من مثقفينا أن البندقية التي تطالب بالحقوق الكردية في تركيا تدافع، في الوقت عينه، عن المكتسبات السياسية في العراق!؟. حينئذ قد يتوقَّفون عن ترديد نفس الكلام الذي ينضح به الكثير من الصحافة التركية المعادية للكردستاني خصوصاً، ولكردستان عموماً!؟. بالتأكيد ان للكردستاني أخطاءه ودوره في تعقيد الأزمة الحالية، لكن، من السذاجة الجمع بينه وبين العسكر الأتراك، وتحميل الكردستاني كامل المسؤولية، وتبرئة أردوغان، وامتهان كيل المدائح له، علماً بأن حكومته"الديموقراطية"هي التي أجازت للعسكر غزو كردستان العراق!. * كاتب كردي.