«هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في 8 أسابيع وسط ارتفاع الدولار    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    الوداد تتوج بذهبية وبرونزية في جوائز تجربة العميل السعودية لعام 2024م    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في stc    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    "محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    عصابات النسَّابة    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    استعادة التنوع الأحيائي    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    المنتخب يخسر الفرج    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    بوبوفيتش يحذر من «الأخضر»    أجواء شتوية    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مخاض طويل ومتعرج ... اجتمعت روافده من العودة الى ديبلوماسية تقليدية دولية . القرار 9551 ثمرة فك قران الرضا الأميركي بالقوات السورية والرضا الفرنسي ب"حزب الله"
نشر في الحياة يوم 16 - 09 - 2004

يربط قرار مجلس الأمن 9551 بين مسألتين جرت السياسات الدولية الفاعلة على الفصل بينهما، هما مسألة جلاء القوات الأجنبية السورية تصريحاً في مشروع القرار ومسألة نزع سلاح الميليشيات او المنظمات الأهلية العسكرية والأمنية وعلى رأسها"حزب الله"وجهازه العسكري والاستخباري والتعبوي والمالي. وكان اتفق، في صيف العام 0002، مسؤولان على مرتبتين متفاوتيين، اميركي وفرنسي، على اقتسام المسألتين.
فدعا ديفيد ساترفيلد، وكان يومها سفير الولايات المتحدة في لبنان، هو اليوم احد مساعدي بيرنز لشؤون الشرق الأوسط، دعا اللبنانيين الى الاتفاق على صفة القوات السورية المرابطة في بلدهم وعلى اراضيهم. ورهن جلاءها ورحيلها عن الأرض والسيادة والإرادة الوطنية، باتفاقهم. وكان السفير النشط والوثيق العلاقات بالأوساط السياسية والاجتماعية المحلية كلها، على علم يقين بأن القوات السورية، وهي الجزء الظاهر والنافر من سيطرة وتسلط قويي الوطأة، محل خلاف عميق ومدمر بين اللبنانيين.
فهو كان يدعو، غداة بيان المطارنة الموارنة الأول وهذا اذيع بدوره ثلاثة اشهر غداة الجلاء الإسرائيلي عن الأراضي اللبنانية المحتلة، من يعلم بخلافهم على المسألة، الى الاتفاق. فيزيد الخلاف حدة. ويرهن الموقف الأميركي، المشترط الاتفاق الداخلي على ما ينزل منزله سبب جاهز في اقتتال اهلي رعت قوة الوصاية عدته ولم تكف عن رعايتها، بإجماع مستحيل. وتَعْذُر الحال هذه إغضاء الدولة الكبرى عن"السلم السوري". فالسيطرة والتسلط، من طريق القوات المسلحة"ورصدها واستطلاعها"و"حلفائها"وانتخاباتها و"دولة إعالتها"وتوزيع فتاتها، هما حقاً وفعلاً شرط تعليق"الاقتتال"، اي العدوان وتناثر الدولة فتاتاً أهلياً وجغرافياً وأمنياً وإدارياً. ويسمى التعليق هذا"سلماً اهلياً". ويمدح رسوخه واستتبابه في مطلع جملة يختمها التلويح العطوف والشفوق بانفجار لبنان واندثاره حال ضعف القبضة السورية على المخيمات الفلسطينية، أو"حزب الله"، او البقاع وعكار وطرابلس.
صفة الإرهاب
ولكن هذا الوجه من السياسة الأميركية كان يقترن بإلحاح لا يفتر في مسألة"حزب الله"، والمنظمات الأهلية المسلحة والأمنية. وعلى خلاف مزاعم الحزب اللهيين والساسة السوريين والإيرانيين، قصر الديبلوماسيون، وفيهم ساترفيلد وهو اكثرهم وضوحاً في الأمر، صفة الإرهاب على الأعمال والعمليات التي تولاها من يُعلم إنفاذه سياسة الحزب او"مرشديه"في البلدين اللذين يخدمهما ولا يتستر على خدمتهما. ولم تشمل الصفة هذه الأعمال العسكرية المباشرة في الأراضي اللبنانية المحتلة. فما أقلق السياسة الأميركية وبعض الأوروبيين والعرب، وشطراً عريضاً من اللبنانيين، وما لا ينفك يقلقها ويقلقهم، هو تولي خلايا نائمة او يقظة - بعضها منتشر في الأردن ومهاجر بلدان الخليج وأوروبا الغربية وافريقيا الغربية وأميركا اللاتينية - القيام بأعمال تفجير وتلغيم واغتيال وخطف واستيلاء على طائرات ونقل اسلحة وتدريب على استعمالها وجباية اموال، إنفاذاً لسياسات اقليمية ودولية لا يريد اصحابها تحمل تبعاتها، ولا يقدرون على تحمل تبعاتها.
وهذا ليس من قبيل الافتراض، فالأمثلة على تولي مثل هذه الأعمال بالوكالة، من مطار الكويت الى ميناء غزة، ومن باريس وعمان الى بوينس آيرس، ومن الموانئ اللبنانية الى مطار كوتونو، ومن مقاهي ألمانيا الى مقاهي سويسرا، كثيرة. والوكالة الكبيرة والأولى هي عن"الجبهة"السورية والمنشآت النووية الإيرانية، على الحدود اللبنانية السورية الإسرائيلية، وفي لبنان كله، سهلاً وساحلاً وجبلاً. ومثل هذه الوكالة، اذا ثبتتها ورعتها دولة شرعية وتسترت عليها، لا يؤمن ان تُطمئن"الأصيل"مصدر الوكالة الى حصانته وقوة ذريعته. فيتهور من غير رادع. وهذا يقود الى الحرب، أو إلى الوقوف على شفيرها. ويبعث الاضطراب في العلاقات الدولية المضطربة. وليس من العسير الوقوع على سمات الحال هذه في الوقائع المشرقية الشاخصة والظاهرة.
وأما السياسة الفرنسية، الميتراندية نسبة الى الرئيس السابق والراحل فرنسوا ميتران ثم الشيراكية، فذهبت مذهباً آخر. وهي خلصت، في ضوء تعاطيها أحوال اللبنانيين ولبنان طوال المحنة اللبنانية في العقود الثلاثة الأخيرة، الى ان العقدة العصية والمعضلة هي التسلط السوري على لبنان. وهي لما مالت الى الفلسطينيين، وسعت في استمالة رئيس منظمة التحرير يوم كان الآمر الناهي في شطر من لبنان، كان اغتيال سفيرها في لبنان لوي دولامار وانفجارٌ قاتل في قنصليتها ببيروت، جزاءها. وأصلاها الحكم الخميني الايراني، والمنظمات الفلسطينية السورية الهوى والمصلحة، في اثناء الحرب العراقية - الإيرانية وطوال العقد التاسع، عداوتهما. فكانت الأراضي الفرنسية مسرح أعمال تفجير واغتيالات أصابت المدنيين المواطنين، يهوداً وغير يهود، ودين فيها موظفون وعملاء معروفون. وخطف فرنسيون في لبنان واحتجزوا رهائن الى عام 0991، وكانت القوات السورية عادت الى بيروت في شتاء 7891. ولما انفجرت حرب لبنانية - سورية، في 9891، كان السفير الفرنسي رينيه ألا شاهداً شجاعاً على وقائعها. وآوت السفارة الفرنسية العماد ميشال عون، قائد الجيش اللبناني الأسبق ورئيس الحكومة الانتقالية.
وعادت السياسة الفرنسية عن"انحيازها"اللبناني غداة اخفاق المجموعة العربية في حماية استقلال لبنان وسيادته، وحسم القوات السورية"الأمر الواقع"بالقوة، في أعقاب نيف وشهرين على اجتياح قوات صدام حسين الكويت، واحتياج دول التحالف الدولي الى مساندة دول عربية ومحلية صدَّها العدوان العراقي. فسلّمت بطي الدول العربية الصفحة اللبنانية. وانصرفت الى تثمير إسهامها في حرب الخليج الثانية، بينما كانت السياسة الأميركية تتولى وحدها رعاية"عملية السلام"، على ما سميت. وعولت، في لبنان، على مشاركتها في"الانماء والاعمار"الحريريين - وشرطها رضا سوري -، وعلى التوسط بين اللبنانيين المسيحيين، وهم قاطعوا انتخابات 2991، وبين"دولة"لبنانية تتولى الأجهزة السورية"بناءها"وتصديعها على مقاس"ربط استراتيجي"يستنزفه تكتيك مبتور ولاهث.
وعولت، من وجه آخر، على تعاظم الحصة الأوروبية في شؤون الشرق الأوسط الأدنى بحسب الفرنسية نظير الانفراد الأميركي. فتقربت الى السياسة السورية، وتوسطت لها بإزاء"الشريك"الأوروبي. وسعت في تقييد الغلواء الاسرائيلية الأمنية. فطمعت الجماعة الحاكمة السورية في"شراكة استراتيجية"مع فرنسا، على ما حسب الساسة السوريون وتمنوا إبان زيارة الرئيس السوري السابق والراحل الى فرنسا في 8991، ثم زيارة خلفه في السنة الأولى من عهده المبتدئ.
وبدأت علامات نفاد الصبر من المماطلة السورية تظهر في أوائل عهد الخلف مع توقع انسحاب اسرائيلي وشيك من جنوب لبنان. فعمد الرجل الثاني في النظام الشيراكي، يومها، آلان جوبيه، رئيس الحكومة السابق ووزير الخارجية في آخر حكومة مساكنة اشتراكية وديغولية، حال انجاز الجلاء الاسرائيلي، الى المطالبة بجلاء القوات السورية من لبنان. وحمل هذا الجلاء على أولوية لا تتقدمها أولوية أخرى. وعلل جوبيه الأمر بالانسحاب الاسرائيلي أولاً، وبوطأة القوات السورية على وجوه الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وحؤولها بينها وبين استعادتها حيويتهاوعافيتها.
وكان إخفاق المؤتمر الاقتصادي من أجل لبنان، في أواخر 6991 وأوائل 7991، ماثلاً. وأظهر تعثر الانماء وإحجام المستثمرين عن الاستثمار في لبنانَ غيرِ آمنٍ وحكومتُه غير قادرة على تخفيض نفقاتها وتقييد إعالتها أنصار السياسة السورية و"جماهيرهم"، وأظهر تقديمُ الحكم اللبناني مصلحة سورية مفترضة في ابقاء الجنوب معسكَراً و"مقاوماً"ومرتعاً احتياطياً ل"الرسائل"و"الأجوبة"السورية على مصلحة داخلية في تنميته وتعويضه خسائره الفادحة - أظهر ذلك وغيره ان السياسة السورية لا تساوم فيما قد يؤدي الى اضعاف سيطرتها وتسلطها. ولا يدوم هذان إذا رست السياسة اللبنانية، وطاقمها وإدارة الدولة والناخبون والعلاقات الخارجية، على مصادر شرعية داخلية، واستلهمت احتياجات ومصالح اللبنانيين وقدمتها على"برنامج"الحكم السوري المنهك وصراعه المستميت في سبيل البقاء والاستمرار.
التمادي والمواربة
ولم ينفع برنامج مساعدات باريس الأول، ثم برنامج باريس الثاني، في حمل السياسة اللبنانية على الاضطلاع بتبعات اخراج الدولة والمواطنين من الركود وتعاظم الدين والنفقات. فاستقبل"حزب الله"رئيس الحكومة العائد من مؤتمر باريس الأول بعملية عسكرية في مزارع شبعا. وكيلت لبرنامج باريس - 2 تهم"بيع"الدولة. ومضى الحكم على إنكار تمام الانسحاب الاسرائيلي، على خلاف تأويل الأمم المتحدة وأمينها العام. وأحجم عن حضور اجتماعات الشراكة الأوروبية - المتوسطية. وعشية حرب العراق ضلع في مساندة صدام حسين. فاستقبل من أعوانه المتورطين في أكثر الصفحات سواداً ودموية من تورع غيره عن استقباله. وغض الطرف عن تعبئة متطوعين محليين لبوا، جنباً الى جنب مع"إخوان"سوريين كثر دعاهم الراحل أحمد كفتارو، مفتي الدولة السورية الرسمي، نداء منظمات محلية لم يعرف عنها استقلالها يوماً ببادرة. وغداة الحرب كانت عملية ل"حزب الله"ذريعة قصف اسرائيلي الأراضي السورية. فأثبتت السياسة السورية ضعف احتسابها الردود الاسرائيلية على توسلها بالمنظمة الأهلية وعلى تعويلها على المسرح الجانبي اللبناني في أداء دور لا تملك عوامله، أو الموارد والطاقات البشرية والمعنوية والاقتصادية التي يفترضها.
وعولت السياسة السورية على النهج نفسه في تناول المسألة الفلسطينية. فانحازت انحيازاً قوياً الى قوى"الانتفاضة"المتطرفة، وحضت من غير تحفظ على العمليات الانتحارية، ورعت التنسيق بين القوى هذه، وناطت"نبض الشارع العربي"بها. وحملت مشروع ولي العهد السعودي، قبل أن تتبناه القمة العربية ببيروت، على"رؤيا"على لسان الرئيس اللبناني. وأرفق الرئيس السوري تبني المشروع بخطاب عنيف ردد المقالات العصبية في المسألة الفلسطينية، وفي العلاقات العربية والاسرائيلية. وتوج بث محطة"المنار"الحزب اللهية مسلسل"الشتات"المتلفز، وهو من صنع سوري ويخرج المقالات العصبية الرسمية في حلة من الصور الفاضحة، على مشاهدي المحطة الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية، توج البث سياسة مواربة ومتمادية. وتجندت اجهزة"الدولة"اللبنانية كلها دفاعاً عن بث"الشتات". وذلك آن تجبه الدولة الفرنسية موجة عصبية على السامية اليهودية مصدرها الجاليات المسلمة، وتسعى في معالجة المشكلات التي يثيرها نازع المهاجرين الى الانكفاء على هوياتهم وجماعاتهم. وتولت جماعات خمينية وإخوانية التنديد بقانون الحجاب والعلامات الدينية الفاقعة في المدارس الفرنسية، وسيرت التظاهرات إعلاناً له. وكان لبنان، الى ايران، مسرحاً أثيراً من مسارح التنديد. فكان ذلك جزاء ضم أمين عام"حزب الله"الى الجلسة الختامية في مؤتمر الفرنكوفونية ببيروت، في خريف 2002.
فآذن هذا كله بتمادٍ "سوري - لبناني" لا قيد عليه من اعتبارات سياسية أو ديبلوماسية. وتطاول التمادي الى المسائل والقضايا، الكبيرة والصغيرة، كلها من غير استثناء. وعلى رغم بعض التواطؤ السوري والفرنسي الأوروبي على التحفظ عن الانفراد الأميركي والانحياز القوي الى الدولة العبرية، وعلى إدانة حرب العراق، يؤدي التحفظ والإدانة دورين مختلفين في السياستين . فالسياسة الأوروبية عموماً تسعى الى جمع الموقفين العربي والاسرائيلي، والأميركي والدولي، على حلول مقبولة ومتوازنة.
فمعارضتها السياسة العسكرية الأميركية في العراق لا تعميها عن حتم تفتت العراق، وتناثره في حروب"ملبننة"، إذا أخفقت السياسة الأميركية في استخلاف دولة متماسكة عليه. وهذا يستبعد"إغراق اميركا في المستنقع العراقي"، على حسب فتوى مأذونة. ومعارضة"اليد الحديد"الاسرائيلية في الأراضي المحتلة، وتدمير هيئات السلطة وهياكلها ومرافقها، لا تؤدي الى قبول خلافة"حماس"و"الجهاد"و"كتائب الأقصى"، وفوضاها واقتتالها، على قيادة السلطة الفلسطينية. وهذا يستبعد"هزيمة"آرييل شارون في غزة وإجلائه عنها"تحت ضربات المقاومة".
فلما حزمت السياسة الأميركية أمرها في شأن"محاسبة سورية وتحرير لبنان"بعد تردد طويل، ورجعت عن اعتبار التسلط السوري أداة استقرار ٍاللبنانيون عاجزون عن تثبيته من تلقاء أنفسهم. ولما ظهرت على بعض السياسات العربية مخايل الابتعاد من مجاراة الجماعة الحاكمة السورية على جمودها وهذا ما تثبته مناقشات الاجتماع الوزاري في اطار الجامعة العربية، رجعت السياسة الفرنسية ومعها السياسات الأوروبية الفاعلة عن حسبانها ان"حزب الله"تفصيل من تفاصيل الحال اللبنانية الداخلية، وأن جلاء القوات السورية، على ما ذهب اليه آلان جوبيه"خليفة"الرئيس الفرنسي الأثير والسابق، قمين بتبديد مشكلة الحزب وديناميته تلقائياً. وكان هذا مذهب مراتب سياسية وأمنية فرنسية غداة الاستيلاء على اليرزة وبعبدا في خريف 0991. ففي غضون عقد وبعض العقد كثرت القرائن الدامغة والمتضافرة على دينامية رابط التسلط السوري بالمنظمة الأهلية المسلحة والأمنية، وتوليدها انهياراً لبنانياً لا رجعة عنه. ويورط الانهيار هذا، بدوره، السياسة"السورية - اللبنانية"في سياسات داخلية واقليمية متهورة ومؤذية.
ولعل هذا مبنى الالتقاء الأميركي والفرنسي الأوروبي على بنود مشروع القرار 9551، ويتصدرها بند الجلاء السوري وحل"حزب الله"العسكري والأمني. وكان مخاض الالتقاء طويلاً ومتعرجاً، واجتمعت روافده من قضايا الشرق الأوسط"الأكبر"أو معظمها. وقصرُ تعليلِه على إخفاق فرنسي في الحصول على صفقة استثمارية في السوق السورية، من هنا، أو على تعثر انتخابي أو عسكري أميركي، من هناك، أو على كلل نظر، من هنالك، على ما يذهب اليه مراسلون وسياسيون جهازيون، قد يبعد عن الجماعة الحاكمة السورية كأس المراجعة المرة. ولكنه لا يلم ولو إلماماً خفيفاً بدواعي الحوادث الكثيرة والمتراكمة. فتخويل دولة التسلط على دولة أخرى بواسطة نظام سياسي صوري ينخر، من داخل، اضطلاع الدولة المستتبَعة والملحقة بمقومات الإرادة والمصلحة الوطنيتين والجامعتين، يؤدي التخويل لا محالة الى بث الاضطراب والعنف والحرب في العلاقات الدولية.
فقدرة دولة من الدول على حرب مستترة، بالواسطة والوكالة، تتولاها عنها جماعات أهلية مسلحة في دولة أخرى، وتنتهك احتكار الدولة"العنف الشرعي"برعاية"الدولتين"، الأصيلة والوكيلة"وإدراج هذا الانتهاك في صلب هيئات"الدولة"وقوانينها وسياستها العامة والمعلنة"الأمران القدرة والادراج يخالفان مخالفة صريحة أركان العلاقات الدولية، ونهوضها على سيادة الدول ومسؤوليتها. فالسيادة معناها أن على الدولة التي تسعى في الحرب، أياً كانت مسوغات الحرب، أن تتولى الحرب بنفسها وقواتها ومواردها وعلى أرضها.
وأما إذا جاز للدول أن تجند في دول جارة أو"شقيقة"جماعات أهلية تربطها بها روابط"مميزة"، عصبية أو دينية أو مذهبية، من غير أن تتحمل المسؤولية عن التجنيد هذا، وعن الحرب تالياً، فتحظى برعاية مبدأ السيادة وهي تنتهكه، إذا جاز ذلك غدت الحرب من أسهل الأمور وأيسرها، وأوخمها عاقبة على العلاقات الدولية والإقليمية. وعلى هذا، أو بعضه، انتشرت"الحرب"الكردية في تركيا والعراق، و"الحرب"الفلسطينية في لبنان ثم في الأراضي الفلسطينية المحتلة وفي اسرائيل، وسعى صدام حسين في تأليب العرب على ايران وسعت الجماعة الحاكمة في إيران في تأليب الشيعة العراقيين على صدام حسين وعلى غيره.. وهذا شطر كبير من نسيج العلاقات الاقليمية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا. ومحاولة ضبطه، ولجم ديناميته المميتة، هي في صلب العلاقات الدولية منذ منتصف القرن السابع عشر معاهدة فيستفاليا. وضبطه ولجم ديناميته يعودان على دول المجتمع الدولي كلها، وعلى أضعفها خصوصاً، بالمنفعة. فهما ينفعان اسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وتركيا، على سبيل ا لتمثيل، على قدر ما ينفعان إيران والسلطة الفلسطينية والأردن والكويت وسورية. فليس الردع الإيراني هو ما يحول بين سلاح الجو الأميركي أو الاسرائيلي وبين تدمير محطات الطاقة الذرية بإيران. وليس الردع السوري هو الحاجز بين القوة العسكرية الاسرائيلية وبين تدمير المرافق الحيوية الوطنية أو اجتثاث قواعد"حزب الله"العسكرية في لبنان. والتحفظ عن الحسم العسكري ليس مراوغة استكبارية أو امبريالية، على رغم ان هذا التحفظ يخدم مصالح القوى الكبيرة، والنافذة الكلمة، والمتسلطة في بعض الأحيان.
وتصوير العلاقات الدولية على الوجه الاثنيني والحربي الذي تصورها عليه دعاوة جهازية، معظمها موروث من"لجنة الدعاوة والتحريض"في الأحزاب الشيوعية الحاكمة ولجانها المركزية"الخلاقة"، جزء حميم من إرساء شرعية بعض الجماعات الحاكمة العربية على عصبية قومية، أو دينية"سياسية"، هاذية ومتصدعة. فالتوسع والحرب والقوة هي من لوازم هذه العصبية. ولكن العصبية في بلدان مفتتة ومتأخرة حاجز بين دول هذه البلدان وبين ارساء عدة القوة والأخذ بها. وهذا دور يدور. و"اللبننة"المتقادمة من تظاهرات هذا الدور.
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.