دفع العراق والعراقيون ثمناً باهظاً للخيار الديموقراطي. اتضح ان الديموقراطية في العالم العربي يجب أن تمر بطريق دام كي تتعمد بالإرادة الحرة. هذا هو المشهد في العراق. فالعنف والإرهاب وترسيم معالم التصفيات الطائفية باعتبارها حرباً أهلية، وفقدان الأمن وغياب الخدمات الأساسية واضعاف الحكومة وعلو صوت الصحف والفضائيات وأعضاء البرلمان والكتل البرلمانية على الواقع وانتشار الفساد الذي اصبح سلاحاً قوياً في معركة العنف الدائر في العراق، والتركيز على الدور الايراني الذي يدين بانتمائه للفترة العثمانية والعقلية العنصرية التي يفكر بها العرب لسوء الحظ ومعالم اخرى، تجعل من خيارات العراق صعبة للغاية وعرضة لأفكار ومشاريع سياسية ومخابراتية سرية تخوض كفاحها المجيد ونضالها العتيد، وجهادها السعيد ضد العراقيين الذين لا يريدون الترحم على عهد صدام ولا المطالبة بعودته. خرج العراق بعد اسقاط نظام صدام من سلسلة الأنظمة العربية التقليدية الكلاسيكية القائمة على حكم الفرد او العائلة او العشيرة أو الزمرة العسكرية او الحزب الواحد. وأكثر من ذلك خرج وفي يديه تفاحتان هما الشيعة والأكراد. وواجه العراق ثمن الخروج من هذه السلسلة وهو تحت الاحتلال الرسمي كما أقرته المنظمة الدولية التي كان تأسيسها ايذاناً بمرحلة انهاء الاستعمار والاحتلال ومنح الاستقلال للدول في آسيا وافريقيا وأميركا اللاتينية. ولزيادة التناقضات التي يواجهها العراق، تطورت بشكل عاصف الأزمة بين الولاياتالمتحدةوايران ودخل حلفاء الولاياتالمتحدة واعداء ايران من الباب العراقي لتصفية الحساب مع ايران، وكان الشيعة سبباً في حملة ابادة طائفية قادتها"القاعدة في ارض الرافدين". وعلى صعيد العراقيين والعرب أصبحت كل حقيقة حول العنف والمناورات السياسية الهادفة لإسقاط العملية السياسية تنفي أن لإيران دوراً في ترويجها، حتى اصبح العراق متهماً بأنه ايران وليس فقط ايرانياً! ساهم في ارباك الوضع غياب الفكر القانوني والدستوري عن الفكر السياسي العربي والعراقي، وغياب فكر الدولة ووظيفتها في النظام الديموقراطي، وتأثر هذا الغياب بحملات الاعلام التي قادت بلا جدال العقل السياسي العراقي، سواء الأحزاب او قطاعات الشعب، أو النخب السياسية والثقافية التي غاب عنها دورها بعد ان كان دورها حزبياً او لخدمة عبادة الفرد. ظهر أن التيارات الاسلامية العراقية، الشيعية بالدرجة الاولى، أكثر اتساعاً وأكبر حجماً ونفوذاً مما كانت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها العراقيون يعتقدون، فواجهت الديموقراطية اول الامتحانات الصعبة. توالت الحجج لإسقاط هذه التيارات: ايران، الاسلام، الدستور، مقتدى الصدر، جيش المهدي وغيرها من مفردات وعناوين حجبت تحتها الأطراف الاخرى المساهمة في العنف وتردي الوضع وفقدان الأمن وشل الدولة عن استعادة مؤسساتها وهيبتها القانونية والسياسية. اتضح ان المطلوب هو افشال اول تجربة للشيعة والدولة في العراق. لكن الثمن لم يتوقف على الشيعة وحدهم. وإذا كان احترام الديموقراطية يقتضي احترام خيارات الأغلبية، فإن احترام وجود الشيعة او القوى الدينية في الحكم هو احترام للديموقراطية شرط الالتزام بقواعد اللعبة واحترام الدستور والعملية الانتخابية نفسها. يشكو رئيس الوزراء نوري المالكي من عدم قدرته على استخدام قوة عسكرية صغيرة لمواجهة الارهاب والعنف. ويقول الناس، السياسيون الفاهمون وغيرهم من غير الفاهمين ايضاً انه اذا كانت الحكومة لا تملك صلاحيات فلماذا تستمر في الحكم؟ وهو سؤال وجيه ولكنه ليس اكثر وجاهة من قلب السؤال الى هذا السؤال: لماذا تصادر الولاياتالمتحدة صلاحيات الحكومة المنتخبة في العراق وتشل قدرتها على الاستمرار وضبط الأمور؟ تستغل الأحزاب العراقية المعروفة تاريخها المعادي للديموقراطية هذا الوضع. ورغم ان الولاياتالمتحدة شلت الحكومة المنتخبة بتسميتها حكومة وحدة وطنية اجبرت الائتلاف الفائز على قبولها كخلطة عراقية لأسباب عدة منها اظهار حسن النيات وتطمين السنّة واشراكهم في حكم كان يوصف بالحكم السنّي سيطر عليه الشيعة والاكراد، مما ازعج الدول العربية وفي مقدمها مصر والسعودية والأردن، وازعج سورية لإسقاط البعث في العراق وتهديد واشنطن لها. لكن التيارات السنّية التي فازت في الانتخابات تيارات دينية هي الاخرى اجبرت حتى الشخصيات المدنية والعلمانية على تبني مواقفها الدينية والمذهبية. اين الديموقراطية في كل هذا المشهد؟ أي اين المشروع الاميركي للديموقراطية في العراق والشرق الاوسط؟ تبدو ايران، ظاهراً هي الضاحك الوحيد في المشهد العراقي. وقد صبت عليها لعنات التحول العراقي ووصف بأنه هدية أميركية لإيران، وأصبح على العراق ان يدفع الثمن. هذه صورة واقعية بغض النظر عن اسماء الدول واسماء المذاهب. لكن ماذا تريد أميركا ان تفعل في العراق بعد ان نسيت مشروعها الديموقراطي في المنطقة؟ وبماذا تقاوم المشروع الديموقراطي في العراق الذي نبت على سقيها وبذارها؟ الديموقراطية، لسوء حظ البعض وحسن حظ البعض الآخر، هي الديومقراطية: أي القبول بما تقدم عليه. فإذا خضت الانتخابات عليك ان تقبل بنتائجها. فالفائز بطبيعة الحال هو خصمك اذا خسرت. ولكن اذا لم تقبل الانظمة العربية بنتيجة الديموقراطية فلماذا ترفضها الولاياتالمتحدة وتصرح خفية بأنها تدعم حكومة المالكي اعلامياً وتعمل على اسقاطها عملياً، حتى ان نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي زل لسانه في معهد السلام وصرح بهذه الحقيقة التي طلب منه تعهدها بالرعاية والعمل. حسناً ها هي صورة الموقف الاميركي معللاً باتهام الشيعة في الحكومة بأنهم المدخل للنفوذ الايراني في العراق، فهل لا يكون الآخرون مدخلاً لنفوذ الدول الاقليمية الاخرى؟ وهل يجدي الولاياتالمتحدة اختصار الأزمة في العراق بالدور الايراني وتحميله مسؤولية انهيار الوضع؟ طبعاً لا. فالمسؤولية الأساسية تتحملها الولاياتالمتحدة لأسباب عدة، منها وجودها العسكري والسياسي في العراق ورعايتها للديموقراطية فيه وإدارتها لجانب كبير من الأزمة واستمرارها، كما تتحملها اطراف اقليمية وجارة للعراق وجدت في كسر سلسلة النظام العربي التقليدية تهديداً لها. لكن كيف تخوض الحكومة العراقية الصراع وكيف تدير الأزمة؟ تبدو إدارة الصراع محصورة في مكتب رئيس الوزراء أكثر من كونها مدارة من قبل الائتلاف الحاكم. وهذه الصورة تعود لمكتب رئيس الوزراء السابق الدكتور إبراهيم الجعفري. فحزب"الدعوة"لا يشذ حتى الآن، عن التراث الحزبي العراقي الذي يعتبر السلطة حقاً حزبياً. هذا يصح في الانظمة الانقلابية، ولكنه لا يصح في الانظمة الديموقراطية. فالحكومة تمثل جميع المواطنين اذا ما حكمت وهي الآتية على اكتاف الغالبية. لكن الأقلية لها الحق في مراعاتها من قبل الحكومة. لكن العراق يسير حتى الآن على عكاز انتهاك وتجاوز دولة القانون وسيادة الدستور. فالدستور يجري تفاديه كي يكون بالإمكان استمرار الأزمة، والقانون لا يسري على البرلمان وأعضائه كي يكون بالإمكان اثارة المزيد من العقبات امام استقرار العملية السياسية. إن النواقص التي تحبط تطور العملية السياسية وتتيح للأزمة ان تدار باتجاه تصعيدها تكمن في عزلة الحكومة وانتمائها لأحزابها وولائها لتلك الأحزاب بدل ولائها الوطني الشامل، كما ان أي حكومة تكون قابلة للانتقاد حالما تتسلم مهماتها ولا تشذ حكومة المالكي عن تعرضها للنقد,، لكن سلم الأولويات مقلوب في هذا النقد. فبدل ان تدعم الحكومة ضد الارهاب، او يدان الارهاب أولاً ثم تنتقد الحكومة، يجري اضعافها بشكل يسمح للإرهاب ان يمر فوق محاولات الاضعاف هذه وليس تحتها. فالنقد لا يوجه للارهاب الذي يقتل ويبيد بشكل جماعي، وإنما يستهدف اسقاط هذه الحكومة. والنتيجة التي لا ينتظرها أولئك الذين يخلطون اوراق النقد، هي سيطرة العنف والارهاب واعطاء الشرعية لشتى الميليشيات لتكون بديلاً عن شرعية الحكومة وحقها في امتلاك وسائل الردع القانونية ضد الجريمة وانعدام النظام. إن أمام حكومة المالكي بعد اكثر من نصف عام على عملها إعادة النظر في مفهوم المشاركة السياسية. فمكتب الحكومة ليس مكتب ادارة حزب وإنما مكتب ادارة دولة، وهذا يتطلب شحنه بالخبراء والاختصاصيين والمستشارين واللجان لادارة الأزمة وتقديم الافكار العملية والواقعية واعادة بنية العلاقات الوطنية على اساس توسيع المسؤولية وليس تضييقها لتقع على عاتق جهة واحدة. فالحكومة تدير الصراع والأزمة من منطلق العمل الحزبي السري وليس من منطلق الدولة. كما انها لم تدرك بعد أهمية وأولوية وسائل ادارة الصراع والأزمة، إذ لم تعمد حتى الآن إلى تأسيس مشاريع إعادة مؤسسات الدولة وحمايتها اعلامياً وسياسياً وثقافياً، وهي الجوانب اللازمة للحماية الأمنية والاقتصادية التي لاغنى لأي دولة عنها. هناك جانب كبير من الانانية الشخصية والحزبية في الرؤية السياسية للعمل في ادارة الدولة وادارة الازمة، مما يضيق من مجال رؤية جوانب الأزمة وطرق ادارتها. فالوسائل الصغيرة التي لا تتناسب مع حجم الدولة تبقى وسائل صغيرة تتناسب مع حجم الاشخاص، لكنها تشير الى الحجم الكبير لمخاوفهم الشخصية او الحزبية من الآخر. وفي حين يصور كثيرون هذه المخاوف على انها مواقف أو سياسة طائفية، فإنها سياسة شخصية فردية تتعلق بالمصالح الضيقة التي لا تنطلق من منطلقات مذهبية أو دينية. فهي تغلف تلك المصالح وتلك الرؤى بغلاف ديني او حزبي لحمايتها من المناقشة والنقد. حتى الآن هناك صدع كبير بين المؤسسات التي تشكل اساس الدولة في العراق، إذ يجري تعميق الصراع بين تلك المؤسسات عن طريق نصبها كمدافع ميدان واحدة مقابل الأخرى. صحيح انه ليس هناك توافق مستقر بين البرلمان والحكومة في الدولة الديموقراطية, ولكن هناك استقرار للقضاء واستقرار لمؤسسة الدولة. اما في العراق، فإن الولاياتالمتحدة عمدت الى توزيع السلطة على ثلاثة مكونات مذهبية وقومية اعتبرتها مؤسسات سياسية ودستورية للدولة وهي الشيعة والسنّة والاكراد، كما ان العقل السياسي في الحكومة والبرلمان ومن ورائه النخب التابعة له يفتقر الى الاتفاق البديهي على نقطة انطلاق. فجميع النقاشات والأفكار تنطلق من نقطة الصفر ولا تتراكم. تنطلق من رفض هذا الطرف للطرف الآخر ومحاولة تقويضه التي ستصل حتماً الى تقويض العملية السياسية. وإذا كانت ثمة ملامح ومعالم للدولة في عراق اليوم، فإن تقويض العملية السياسية يعني تقويض ما تبقى من العراق. فالانطلاق من نقطة الصفر يلغي الحكومة المنتخبة، أياً كان موقفنا منها، ولا يجعلنا نبدأ من مكان. فالاتفاق على رقم واحد يقتضي ان نقر ان الحكومة موجودة ثم نبدأ في بحث صلاحياتها وقدراتها وتركيبتها وبرنامجها وأدائها، ثم نقرر موقفنا. لكن الصراع يبدأ إما انا وإما أنت. إما هذه الحكومة وإما حل أميركي جربه العراقيون في وقت يسأل الجميع عما يفعله الطرفان: ماذا تفعل الحكومة؟ وماذا يفعل الأميركيون؟ لا أحد يخرب وظيفة التكنولوجيا كما يخربها السياسيون العرب والعراقيون واتباعهم. انتهى زمن تحويل وظيفة الفاكس الى وظيفة التراشق بالتهم والدس والتدليس والوشاية الى ان يوظف الانترنت والايميل، بعد الفضائيات، لمهمة أسرع وأسهل وأرخص. وإذا كان العالم يجني ثمار الانترنت ومواقعه العلمية والثقافية والطبية والاجتماعية وفنونه البصرية والسمعية، فإننا - عرباً وعراقيين - جعلناه سكاكين وسيوفاً ومسدسات وتشويهاً للسمعة وتلفيقاً واتهامات وزرعاً للفتن وتوتيراً للعلاقات بين البشر وتهديداً، وهو ما يتناسب مع تراث السرية والعلنية في العمل السياسي الموروث من صراع الايديولوجيات والطبقات والأحزاب. * كاتب عراقي