يشير العنوان اعلاه إلى انتهاء المراحل الموقتة والانتقالية رسمياً، والى السنوات الاربع التي ستتولى فيها حكومة دائمة ليست انتقالية رسمياً انتقالية عملياً، تثبيت اسس النظام السياسي بدستور مرن ودائم مع وجود فقرة تعديل الدستور وإرساء اسس الاقتصاد الحر، وإعادة إعمار العراق، وبناء مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية، ورسم معالم العلاقات مع دول الجوار والمجتمع الدولي، وتطبيع الاعتراف بالمكونات القومية والمذهبية: الاكراد والشيعة والسنة، وتجاوز تقسيم العملية السياسية بموجبها، وهو ما سبب تصاعد الارهاب بالدرجة الاولى كعمل يسعى لايقاف هذا التطبيع، والتعامل مع اكثر المؤثرات الدولية والاقليمية وجوداً في أي رقعة سياسية - جغرافية في العالم، من خلال دولة فقدت مركزيتها التي كانت عاملاً قسرياً وموضوعياً في الوقت نفسه لوحدة العراق. أنهى احتلال العراق واسقاط نظام صدام حسين دور جميع الوحدات السياسية والحزبية لتشكيل دولة مركزية منها وحدها. فالشيعة والاكراد يمثلون ثلث المكونات الرئيسية الكبرى، وقد تم تقاسم الادوار في الدستور بحيث بدا الدستور غطاء شفافاً لوحدة العراق من دون تماسك لهذه الوحدة. فالدولة تم توزيعها لصالح فيديراليات يمكن ان تكون بديلاً سياسياً للدولة في أي وقت. فهي عمليا دول مصغرة بكامل مقومات الدولة بعدما منحها الدستور هذه المقومات التي ستتغذى من العوامل الدولية والاقليمية لتكون عامل تجاذب وعدم استقرار. ان من فضائل الدستور تحليل محرمات الدولة المركزية وجعلها اساسا لنظام سياسي جديد يقوم على تقاسم للسلطات والثروات والصلاحيات. لكن الرذيلة الكبرى الموازية لهذه الفضائل هي ان القرار السياسي بات هشا وضعيفا قابلا لعدم التطبيق حتى بمساعدة القانون الذي تم اضعافه هو الآخر. وساعد على اضعاف القرار السياسي عدم تحديد صلاحية النظام السياسي نفسه. فالنظام البرلماني الذي تم اختياره للعراق أضعف عمداً بواسطة صلاحيات فيتو لمجلس الرئاسة التي تطالب بالمزيد ولم يجر التفريق بين الرئيس ومجلس الرئاسة الذي نص الدستور عليه من دون الرئيس تتسلط عليه كما تسلطت في فترة حكم الائتلاف العراقي الموحد التي بدأت في شهر ايار مايو متأخرة ثلاثة اشهر عن موعدها الدستوري الاستحقاقي لان صلاحيات المناوشات والاعتراضات أصبحت أقوى من صلاحيات قانون ادارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي لا يزال ساري المفعول في بعض بنوده ومعطلا بسبب نفوذ الاحزاب السياسية الحاكمة. وهو الامر الذي سيواجه حكومة السنوات الاربع وربما اطاحها في منتصف الطريق، خصوصاً ان مساعي تشكيل مجلس أعلى يشبه مجلس قيادة الثورة المنحل ربما تنجح وتحول دون الشكلية الاستشارية لهذا المجلس الذي سيعطل الدستور وعمل الحكومة والبرلمان معاً في مسعى للجم الديموقراطية التي فاجأت الجميع. يعتبر الزمن التاريخي الممتد من سقوط نظام صدام في 9 نيسان ابريل 2003 حتى 15 كانون الاول ديسمبر 2005 زمنا تجريبيا لتشكيل عراق جديد يتنكر لإرث العراق الماضي طوال العقود الثمانية الاخيرة. ومن الطبيعي ان تكون هناك ضحايا لهذا التنكر وجدت بشكل ما، بالشعور السني، الذي فوجئ بالظهور العلني الصريح للشيعة الذين لم يكن يجري حديث عنهم إلا في كواليس الدولة والنظام السياسي وليس في الدستور او النشاط السياسي الفعلي واليومي. كما فوجئ بالأكراد شريكاً قوياً واساسياً خارج التمرد المسلح المعروف عنهم وخارج مصطلح"العصاة"الذي كانت تستخدمه الدولة لوصفهم. لكن الحقيقة أعمق من ذلك بكثير. فالتماثل الذي ركزه نظام صدام بين البعث والسنة استنادا إلى إرث العثمانيين والدولة العراقية الحديثة وإن لم يكن هذا التماثل حقيقة واضحة، كان يصطدم بمفهوم الولاء السياسي. فالسنة الذين عارضوا صدام او اختلفوا مع البعث لم يكونوا سنة في نظر النظام وانما اعداء الحزب والثورة حسب مصطلحات البعث الايديولوجية. لكن الحقيقة الماثلة هي ان كبار قادة الاجهزة الضاربة الامنية والعسكرية والحزبية كانوا من السنة تمشياً مع الإرث التقليدي لنفوذ المناطق والعشائر وليس لنفوذ الطائفة. فنظام الدولة العراقية السياسي كان نظام مناطق احدثته الدولة العثمانية وارتكزت عليه الدولة العراقية الحديثة. لم يكن للشيعة شكل للظهورغير الشكل الديني القائم على الولاء العشائري منذ عشرينات القرن الماضي. لم تكن الطقوس الشيعية سوى صورة خارجية للشيعة أغرت شاشات التلفزيون العالمية اغراء فولكلوريا أكثر منه سياسياً. كان أشبه باكتشاف قبيلة لم تكن مكتشفة للانثربولوجيين. وبسبب الطبيعة الدموية لنظام صدام، وبسبب الحروب المستمرة، وتراكم الخوف، وفقدان الامل، والآثار النفسية للحصار الاقتصادي، واتساع حجم التضحيات التي قدمها العراقيون، والفقدان الفجائعي الواسع النطاق للحياة لملايين الابناء والازواج والاخوة من مختلف الاعمار، فإن الشعور الديني تغذى كبديل من العمل السياسي او التطور الطبيعي للحياة. لقد تم اللجوء إلى الشكل الديني باعتباره أعلى مقاما من شكل السلطة، وأكثر امناً، وباعتباره قادراً على منح الشعور بالأمان، وباعتباره ايضا نتاجاً لدعاية السلطة خلال الحروب ضد ايران وضد الولاياتالمتحدة في مرحلة سميت الحملة الايمانية صعّد فيها النظام الشعور الطائفي، وأحاط مدينة بغداد بسلسلة من الاحياء الجديدة وهجّر اليها متزمتين طائفيين انتجتهم الحرب مع ايران من مناطق محددة، وبالتالي فإن العودة إلى الدين وهي مراحل رافقت انتكاسات وماسي شعوب كثيرة، ورافقت حتى انتكاسة الشيوعيين الروس بعد فشل ثورة 1905 مسموح بها، فضلا عن أنها شكل تقليدي في المجتمعات وذو تاريخ عميق في الوجدان والوعي العام. هكذا ظهر الشيعة الذين دفعوا ثمنا لحرب ضد ايران صبغت بالطابع الديني والمذهبي على رغم من ان منطلقاتها التي بدت علمانية ضد نظام ديني موجهة كرسالة للغرب العلماني. لكن التحول الكبير حدث عام 1982 حين تهددت بغداد بعد تحول مجرى الحرب واحتلال الفاو ودخول الجيش الايراني إلى اراض عراقية وانهارت الجبهة بشكل مريع. وهو ما سيعكس نفسه على النفوذ الايراني الجديد في العراق مصحوبا بتهجير مئات الالاف من العراقيين وعيشهم في ايران طوال ربع قرن. لا شكل سياسياً آخر ظهر في العراق منذ سقوط صدام حتى اليوم. فالاحزاب التي تفضل اطلاق لقب"تاريخية"عليها لم تستطع الصمود أمام نفوذ الاحزاب الدينية. فالحزب الشيوعي لم يحصل إلا على أصوات لأقل من مقعدين نقصت في التحالف الاخير ضمن القائمة العراقية. وكان المليون فلاح وعامل وكاسب الذين خرجوا يهتفون للحزب الشيوعي عام 1959 هم انفسهم الذين صوتوا للائتلاف وقد تحولوا إلى الصف المقابل، ولا يجدي اتهام المجتمع بالتخلف اليوم لانه لم ينتخب العلمانيين والسياسيين. فاتهام مثل هذا يسقط كل المؤثرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي اكتسبت تاريخها على مدى أربعة عقود. وما تسمي نفسها القوى الديموقراطية او الليبرالية لم تحصل سوى على الف من الاصوات كمعدل. ولن يجدي نفعاً نعي انعدام ثقافة الديموقراطية عند المجتمع العراقي لأنها اصلا لا توجد لدى النخب السياسية. وحزب البعث، اكبر احزاب العالم العربي من خلال سلطة صدام نفسه، لم يستطع حصد أصوات كثيرة على رغم انه تستر وراء تحالفات قريبة منه. والاحزاب الدينية السنية شاركت في الانتخابات كنوع من التحدي واثبات الذات وتكريس فرضية الغالبية بطريقة تحريضية رغم انها اوفر حظا من الاحزاب السنية القريبة من البعث أو إرثه في سياق الاستقطاب الطائفي للسياسة في العراق وضعف الفكر الليبرالي بعد الحرب، وانعدام الحريات السياسية قبل الحرب. لقد واجه المشروع الاميركي للديموقراطية في العراق مأزقا لا يمكن حله بسياسة الدفع والضغط وضخ الاموال وتصنيع قوى واتجاهات وسد الفراغات الناشئة بشكل قصدي، وتصعيد الحملات الاعلامية ضد ايران وضد الائتلاف العراقي الموحد، والبحث عن فضائح اعتقالات وتعذيب مصورة بالفيديو، والتزام قوى ظهرت من رحم النظام المنهار ودفعها إلى الواجهة لتكون خصما يعول عليه. لقد ظهر المشروع الاميركي للديموقراطية في العراق من دون زعيم. وتجلت المفارقة الكبرى في ان الزعيم الوحيد للمشروع الديموقراطي في العراق كان المرجع الديني آية الله السيستاني الذي ظهر نفوذه قوياً وشاملاً، الامر الذي جعل الديموقراطية سلاحا بيده، على الاقل من ناحية الانتخابات والموقف من الدستور، مما أحرج الولاياتالمتحدة التي لم تجد في مواقف السيستاني تعارضا مع الديموقراطية وتحقيق إرادة العراقيين. كانت هذه الارادة ذات طابع ديني، لكن خطورته انه مستند على معايير وقيم حقوقية وديموقراطية، ولم تؤثر اعتراضات من قبيل الاحتجاج على استخدام، الرموز الدينية او تأثير ايران ونفوذها في العراق أو إضعاف هيئة اجتثاث البعث وخرق قانون إدارة الدولة على تقليل حجم تأثيره، مقابل غياب حقيقي للنفوذ السياسي لزعيم سياسي عراقي. فضلا عن ذلك، فإن الذين طرحوا أنفسهم كبدائل عن تأثير السيستاني لم يكن لهم مشروع سياسي. ولم تكن العلمانية التي تجمعت ضد الدولة الدينية ونفوذ الاحزاب الدينية أكثر من تصور مختلط الايدولوجيات المتناقضة، مغاير لمفهوم الدولة الدينية من دون تفاصيل او بدائل جديدة. وفي صورة من الصور بدت الدعاية للعلمانية نقطة ضعف كبيرة عمقت الاستقطاب. فالبدائل كانت قد عبرت عن ضعفها في الانتخابات الاولى من دون ان تتقدم خطوة باتجاه البديل سوى تجميع كمي لمن خسر الانتخابات الاولى في مطلع عام 2005. هناك حقيقة كبيرة في الوضع العراقي هي ان المشروع الديموقراطي يقوم على اسس توتاليتارية عميقة. وهذا ساعد القوى الدينية ان تكون بديلا عن غياب مشروع وبرنامج وطني ومدني ومعاصر. فالشعارات تقدمت على البرنامج في بلد يعتبر الشعار طلقة وسجنا. ان الاعتراض على نفوذ المرجعية الدينية لم يكن سوى احتجاج على اكتشاف عمق الضعف الذي تتمتع به القوى السياسية العراقية. وكانت الكنيسة قد لعبت دوراً سياسياً بارزاً ومباشراً في تقويض الانظمة الاشتراكية في دول اوروبا الشرقية، كما ان البابا الراحل ساهم من خلال زيارته إلى الفيليبين في تقويض ديكتاتورية ماركوس من دون اعتراضات غربية بل بتشجيع غربي. فالدين في الدول الديكتاتورية، يتجه لاستخدام الديموقراطية ضد الانظمة الشمولية التي اقصته من الحياة العامة، وبالتالي فإن مشاريع الديموقراطية في بعض دول اميركا اللاتينية وبعض دول آسيا ودول اوروبا الشرقية كان يتوق إلى الديموقراطية أكثر من القوى العلمانية. لقد لعب الفساد في السلطة الجديدة دورا بارزا في توسيع الفجوة بين الاحزاب السياسية والديموقراطية الليبرالية، وساعد القوى الدينية على نفوذها. لقد انفتح الوضع العراقي على اتساعه سياسيا واعلاميا واقتصاديا، فضلاً عن ضخ أموال هائلة من دول مجاورة ومن الولاياتالمتحدة قوت من شوكة الصراعات السياسية والقومية والمذهبية. وباتاحة التعبير السياسي، عبرت التيارات الدينية عن نفسها سياسياً طالما اصبح التعبير السياسي بابا للتعبير الديني، ونافذة للوصول إلى منصة القرار النيابي، وتعبيراً عن صراع تيارات وقوى وشخصيات وافكار واجتهادات وانشقاقات قديمة. فدخلت الميدان السياسي قوى دينية من الحوزة الدينية ومن المساجد الشيعية والسنية ومن رجال الدين من مختلف المذاهب، وتحول بعض اعضاء البعث إلى رجال دين بملابس عربية تقليدية، وتطور الامر لدى السنة والشيعة معا بحيث دخلت الاوقاف الدينية للمرة الأولى ساحة الصراع السياسي على اسس حزبية ومذهبية. يبدو المشروع الديموقراطي الاميركي وكأنه اصبح تحت رحمة القوى والمشاعر الدينية التي انتظمت في سياق سياسي حاد، بحيث غدت الديموقراطية ماكينة لانتاج الاستقطاب الديني أكثر منها ماكينة لانتاج مشاريع سياسية للقوى والاحزاب المدنية. ليس هناك سوء كثير في هذه النتائج طالما ان الوسائل الديموقراطية تحكمها. وليس هناك سوء كثير في ظهورها الحتمي الذي هو أشبه بالحتميات التاريخية، لكن المرحلية. فمن الطبيعي ان تتطوع كل القوى من دون استثناء لممارسة الحريات التي اتاحها تغيير نظام صدام، وان تستخدم هذه الحريات المشروعة لتأكيد ذاتها وان تمضي في الاستقطاب والاستقطاب المضاد إلى النهاية، مدفوعة ايضا بعوامل الصراعات الاقليمية ذات البعد شبه التاريخي. لكن سيكون من الخطر استمرار وتكريس هذا التأكيد من خلال الهويات الدينية والمذهبية وحدها، بحيث يصبح هذا التأكيد هو العملية السياسية الوحيدة او الأقوى لقيادة الدولة والسلطة، خصوصاً ان البدائل الاميركية لهذه الهويات لم تتبلور من داخل الحاضن الاجتماعي العراقي. غطت هذه المظاهر على البرامج السياسية التي لم يكن احد بحاجة اليها، لا الاحزاب الحاكمة ولا الاحزاب المعارضة. فالبرنامج الوحيد هو التنافس في اطار المذهب والقومية والمنطقة، سواء اتخذ هذا التنافس شكل العنف او شكل التهييج السياسي والاعلامي او شكل الاستعداء الاقليمي، او شكل اثبات الوجود والذات باستخدام الاعلام والتصريحات التي تحمل من الإثارة المقصودة ما يجعلها بديلاً من أي برنامج سياسي. وبفوز الجعفري لولاية ثانية بفارق صوتين داخل الائتلاف، وبجولة الصدر في دول الجوار وتحالفه مع الجعفري، وبمحاولات تحجيم نفوذ كتلة الائتلاف ووضع مؤسسات خارج الدستور امامها او فوقها، وبإغفال دور البرلمان والتركيز على الحكومة والمشاركة فيها، سيكون عراق السنوات الأربع عراق الصراع الانتقالي من جديد لتجريب عراق آخر ربما تتعزز فيه الانقسامات السياسية على اسسس دينية أكثر فأكثر اذا استخدمت وسائل الاكراه والتحريض، وبقي المواطن"الديموقراطي"يدفع ثمن تجريب عراق لم يعد نموذجا للمنطقة. كاتب عراقي - لندن.