يعد بناء كنيس يهودي من قبل منظمة "عطيرت كوهنيم" بجوار قبة الصخرة برعاية الإدارة الاسرائيلية التي منحت الرخص لتلك المنظمة واحدا من أشد الأحداث خطورة في إجراءات تهويد القدس وانتهاك حرمة المسجد الأقصى. ولهذا المسلك دلالتان حاسمتان: الدلالة الأولى هي فساد الاستدلال ببناء الجدار العنصري على توجه اسرائيل نحو رسم حدودها على أرض فلسطينالمحتلة العام 48 التي يحيطها الجدار وكذلك فساد الاستدلال ببناء الجدار العنصري على انحسار الأطماع اليهودية في الضفة الغربية عامة والقدس خاصة. فغداة تشييد الجدار العنصري روجت اسرائيل أنها تفكر في رسم حدودها النهائية. واستخلص كثير من المراقبين بل وكثير من الفاعلين السياسيين، أن اسرائيل تريد أن يكون الجدار حائطاً حدودياً لها. ويُذكر أن البعض أرجع التوجه المزعوم نحو رسم حدود دائمة للدولة العبرية إلى طبيعة الفريق الجديد الذي تسلم قيادة دفة الحكومة فيها. فمن قائل إن التكوين القانوني لرئيس الوزراء أولمرت دفعه إلى إثارة فكرة رسم الحدود دفعاً، إذ أن ذلك التكوين القانوني واعتياد صاحبه على التكييف المحدد للمفاهيم والتأطير القانوني الحاسم للظواهر الجغرافية تجعل صاحبه إذا ترأس وزارة كيان بلا حدود يسارع إلى رسم حدود كي يتوافق الواقع السياسي الذي يواجهه مع النظرة القانونية المفاهيمية التي يحملها. وفي خضم الاحتجاج بذلك ساق أولئك المراقبون المقابلة بين تكوين أولمرت القانوني وتكوين سلفه شارون العسكري ومن سبقه من كثيرين من قادة اسرائيل العسكريين فقالوا إن التكوين العسكري هو الذي كان يدفع الجنرالات السابقين للتمادي في التوسع انطلاقا من رغبتهم الجامحة في توسيع حدود اسرائيل إلى أقصى مدى. ومن قائل إن الأمر مرجعه أيضا تكوين بقية فريق أولمرت الجديد الذين ينتمي معظمهم إلى جيل أصغر سناً يتبنى التصورات التي تدرسها الجامعات الحديثة عن النظم السياسية والتي تُجمع على أن من سمات الدولة الحديثة أن تكون لها حدود مستقرة. لكن متابعين آخرين، قالوا إن الزعم بأن الجدار العنصري جزء من حدود اسرائيل النهائية هو زعم فاسد. كما ان إرجاع هذا التوجه المزعوم إلى التكوين القانوني لرئيس الوزراء أو إلى طبيعة الفريق الجديد الذي يساعده هو إرجاع غير سديد. وهناك آراء مختلفة في مسألة الجدار ورسم حدود اسرائيل: الرأي الأول، أن الغرض من الجدار هو توفير الأمن المطلق داخل البقعة التي يحيط بها وما ألحق به من أراضي الضفة الغربية، ليس لأن هذه البقعة يرادُ لها أن تكون وحدها أرض اسرائيل المزعومة. بل لأن الذهن الإسرائيلي الاستراتيجي كان يظن عند بدء تشييد الجدار - وقبل سقوط صواريخ المقاومة اللبنانية العام 2006 على أي حال - أن البقعة الوحيدة التي يمكن تحقيق مفهوم الأمن المطلق داخلها ومنع وقوع عمليات استشهادية داخلها هي أرض فلسطينالمحتلة العام 1948 مضافاً لها شريط من الضفة الغربية. ولا يعني ذلك زهدا من المحتل الاسرائيلي في أمنه داخل البقعة الثانية وهي الضفة الغربية. بل يعني أن يسعى قدر استطاعته إلى توفير أكبر قدر ممكن من الأمن في الضفة الغربية مع إدراك أنها ستكون بالتأكيد أقل أمنا من أرض فلسطينالمحتلة عام 1948 نظراً الى كونها مأهولة بكتلة سكانية فلسطينية أكبر والى وجود بعض أجنحة المقاومة داخلها. ولا يعني ذلك أيضا زهداً من اسرائيل في أمنها داخل البقعة الثالثة وهي غزة. بل يعني أن يسعى قدر استطاعته إلى توفير أمنه فيها بأسلوب مخالف من خلال تحويلها إلى سجن كبير وإذكاء الاقتتال فيها، وذلك انطلاقاً أيضا من أن غزة لا مفر ستكون أقل أمناً من كل من الضفة الغربية وأرض فلسطينالمحتلة عام 1948 نظراً الى كونها مأهولة بكتلة سكانية فلسطينية أكبر ومليئة بأجنحة المقاومة. أما أرض فلسطينالمحتلة العام 1948 التي أصبح الجدار يحيط بها فهي القطاع الذي يسكن داخله عدد أقل من أبناء شعب فلسطين حيث طرد الصهاينة منها مئات الآلاف من أبناء شعب فلسطين عبر العقود السبعة الماضية، كما أن قدرة المقاومة الموجودة فيها أقل من نظيرتها داخل البقعتين الأخريين. القول الثاني في مسألة الجدار ورسم الحدود - الذي هو مرتبط عضوياً بالقول الأول - ان الجدار يهدف على المدى البعيد إلى جعل المنطقة التي يحيط بها - نقصد أرض فلسطينالمحتلة العام 48 ومعها شريط من الضفة - بقعة يهودية السكان على نحو خالص. وقلنا إنه بالنسبة لاستراتيجية المحتل الديموغرافية، فقوامها جعل أولويته في هذه المرحلة تسريع إيقاع تفريغ أرض فلسطينالمحتلة العام 48 من أبناء شعب فلسطين تفريغاً متدرجاً. لذا لم يكن مستساغاً الاقتصار على تسمية الجدار ب"جدار الفصل العنصري". إذ أنه في الحقيقة"جدار التطهير العرقي"يهدف الى الوصول بهذه البقعة إلى أن تكون"خالصة"للمحتل الصهيوني. ولا يعني هذا القول زهداً بالضفة الغربية - بما فيها القدس. كل ما في الأمر أن اسرائيل تولي وزناً نسبياً أكبر في هذه المرحلة لتفريغ أرض فلسطينالمحتلة العام 48 من الوزن النسبي الذي توليه لتفريغ الضفة الغربية بما فيها القدس. لكن هذا الاختلاف في الوزن النسبي لم يمنع اسرائيل من الاستمرار في الأخذ بأسباب تفريغ الضفة الغربية أيضا من أبناء شعب فلسطين. ومما يشهد على ذلك إجراءات التفريغ السكاني التي ما انفك يأخذ بها وأبرزها خلال الآونة الأخيرة منع مواطني القدس الذين يقضون في الخارج أكثر من فترة معينة من العودة إلى القدس وإسقاط الهوية عنهم. ومما يؤكد استمرار طمع اسرائيل في استلاب الضفة الغربية استمرار تهويد الخليل بعد اغتصاب القسم الأكبر من الحرم الخليلي. وها هو بناء الكنيس اليهودي على مقربة من قبة الصخرة - أي داخل إطار حرم المسجد الأقصى - يأتي ليؤكد بقاء الأطماع الصهيونية في الضفة الغربيةوالقدس. القول الثالث في مسألة الجدار ورسم الحدود إن إرجاع التوجه الاسرائيلي المزعوم نحو رسم الحدود إلى علل تتصل بتكوين الحكومة الاسرائيلية الجديدة أو أعضائها أي إلى أسباب شخصية هو إرجاع يجافي حقائق التاريخ وينافي ضوابط النظر المنهاجي. فأما عن مجافاته حقائق التاريخ فإن مراجعة بسيطة لحركة منحنى السعي الصهيوني لاستلاب القدس وباقي الضفة الغربية وتهويدها تكفي لتأكيد ذلك. فمنذ العام 1949 حتى اليوم لم تتوقف الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة عن إصدار القوانين والقرارات التي تكرس إخضاع القدس وأجزاء من الضفة الغربية للسيادة الاسرائيلية. وبجانب القوانين والقرارات تتالت الإجراءات العملية لتهويد القدس وبقية الضفة الغربية وكان أبرزها توسيع حركة بناء المستوطنات وزيادة البؤر الاستيطانية، خصوصاً في محيط حرم المسجد الأقصى. ولا يتوجب أخذ كل تصريح يصدر عن إدارة جديدة مأخذ الجد والسعي لتبريره بتفسيرات سطحية. بل الواجب أن تؤخذ التصريحات السياسية لأي حكومة اسرائيلية جديدة بحذر شديد والنظر في احتمال أن يكون هدفها جعل أعين الغير غافلة عن النيات الاستراتيجية لهذه الإدارة. والواجب كذلك عرض هذه التصريحات على سوابق المسؤولين الذي أطلقوها. ولو أن بعض المندفعين عرض تصريحات أولمرت ذي الخلفية القانونية على سوابقه كعمدة للقدس قبل وصوله إلى رأس الحكومة لوجدوا أن فترة رئاسته لبلدية القدس شهدت واحداً من أعلى معدلات تهويد القدس. لذا كان الأولى أن تؤخذ تصريحات رسم الحدود على أنها أداة لتمرير الإيحاء بوجود توجه نحو رسم الحدود من أجل أن تنشغل الديبلوماسية في التعويل على هذه التصريحات وفي التهيؤ لملاقاتها بتنازلات مقابلة. أما الوجه الثاني فهو أن العامل الأكثر حسماً في توجيه دفة أي نظام سياسي هو"محصلة السياسات المتراكمة". نقصد القوة المنبثقة عن جملة السياسات المتراكمة عبر العقود السابقة. فمحصلة السياسات المتراكمة تتحول بمرور الوقت إلى قوة دافعة للقرار الجديد ومحددة لوجهته مهما تبدلت وجوه صناع القرار. أما الدلالة الثانية للاستمرار في تهويد القدس والذي عاد ليظهر من خلال بناء الكنيس اليهودي داخل نطاق حرم المسجد الأقصى - فهي صيرورة خيار الدولتين ضرباً من المحال على مستوى السياسات ومستوى الوضع على الأرض. فإصرار المستلب الصهيوني على الاستمرار في تهويد الضفة الغربية قاطبة ودرتها القدس هو بمثابة منع مبكر لقيام أي أساس على مستوى"السياسات"وعلى مستوى"الوضع على الأرض"يمكن أن يؤسس عليه تطبيق حل الدولتين. فأنى لتلك الدولة أن تنشأ وأين لها أن تؤسس مع استمرار التهويد المطرد؟ من هنا لا يكون من العبث الاستمرار في المراهنة على خيار الدولتين وحشد الطاقات في سبيل تحقيقه وخفض وتيرة المقاومة من أجله وتسابق قيادتي"فتح"و"حماس"كل بلغتها الخاصة تجاه إبداء الاستعداد للالتزام بحل الدولتين بما يتيح للمحتل توظيف ذلك كله في كسب الوقت واستهلاكه بينما هو يغير الوضع على الأرض بسرعة تشد انتباه كل ذي بصر وبصيرة. ثم ألا يكون من العبث عدم مواجهة هذا المسعى الاسرائيلي بإصرارٍ على خيار التحرير والذي قد يراه البعض بعيدا - بالمقارنة بخيار الدولتين - ونراه قريبا في ضوء حالة التصدع الكبرى التي يتعرض لها الكيان الاسرائيلي خلال الآونة الأخيرة، خصوصاً مع اشتداد آثار إخفاقه في لبنان؟ * كاتب فلسطيني