يدفع الاحتقان القومي في المنطقة بين الأكراد وجيرانهم العرب والفرس والترك بالمؤرخ الكردي إلى القفز فوق مؤامرات الأكراد ضد بعضهم البعض. وخطورة اخفاء هذه الأحداث لها نتائج سياسية سلبية على الحاضر الكردي لعدم وجود محاسبة تاريخية للقادة الأكراد خارج الأطر الحزبية. وهو ما يجعل من أمر تكرار حوادث الطعن المتبادلة أمرا لا تعتريه الصعوبات. القرن الماضي شهد العديد من هذه الأحداث، لعل أهمها ما فعله زعيم الثورة الكردية في ايران اسماعيل سمكو عندما تآمر على أحد مشايخ البارزانيين الثائرين ضد الدولة العثمانية وقام بتسليمه لها، بعد أن لجأ إليه الشيخ في مطلع القرن الماضي. وتمتد هذه الظاهرة الكردية لتطال حتى الرئيس الحالي للعراق وزعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال الطالباني في انشقاقه الغامض والحرج عن الملا مصطفى البارزاني في السبعينات وصولا إلى إلى الحرب الأهلية الفريدة من نوعها في كردستان العراق بين حزبي جلال الطالباني ومسعود البارزاني على امتداد عقد التسعينات. حقائق تاريخية كثيرة تحتاج إلى شجاعة كبيرة سواء من المؤرخ الكردي أو المفكر الكردي ليطلق عليها اسمها الحقيقي. وأهم أسباب هذا التردد في فضح المؤامرات الكردية"البينية"تطرف الظاهرة الحزبية لدى عموم الأحزاب الكردستانية. والأمر ذاته يؤخر اعتبار كل من"الخيانة"و"الثورة"وجهين لانتفاضة كردية واحدة. مناسبة هذا الحديث أن هذه الظاهرة الكردية مضافاً إليها العبارة الشهيرة للكاتب جوناثان راندل وعنوان كتاب رحلته إلى كردستان"أمة في شقاق"، كادت تتعرض للنسيان منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 حتى قبل أيام قليلة فقط، وتحديداً الخامس من تشرين الثاني نوفمبر الماضي، بعد زيارة أردوغان لواشنطن واستجابة أكراد العراق للمطالب التركية في المساعدة على القضاء على حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل على المثلث الحدودي بين إقليم كردستان العراق وإيران وتركيا، لينتهي بذلك شهر العسل الكردي ? الكردي القصير. خلال فترة شهر العسل، على مدى أربع سنوات، قامت القوى السياسية الكردية بتطوير موقف موحد شامل لأول مرة في تاريخهم السياسي في سبيل حماية المكتسبات القومية التي تحققت لأكراد العراق، بغض النظر عن الخلافات الأيديولوجية و التاريخ الدامي بين هذه القوى. فلم تخل بيانات حزب العمال الكردستاني منذ ذلك الوقت من التعهد بالدفاع عن كردستان العراق في مواجهة كل التهديدات المحدقة بها، وأصدر حزب المجتمع الديموقراطي الكردي في تركيا مقرب من حزب العمال الكردستاني بياناً أثناء التهديدات التركية باجتياح اقليم كردستان واعتبر أن أي اعتداء على أربيل اعتداء على ديار بكر. لم يشهد التاريخ الكردي بياناً تضامنياً رسمياً مشابها بين أجزاء كردستان، وبعد هذا البيان أصدر رئيس اقليم كردستان مسعود البارزاني تصريحه الشهير لقناة"العربية"بأنه سيتدخل في ديار بكر إذا تدخلت تركيا في كركوك. وقبل كل هذا اندلعت في المنطقة الكردية في سورية أحداث انتفاضة القامشلي في العام 2004 إثر توجيه جمهور فريق كرة قدم عربي شتائم لمسعود البارزاني وجلال الطالباني. المشهد السياسي الكردي تحكمه ثلاث قوى سياسية وهي أحزاب العمال والديموقراطي والوطني الكردستاني، فيما بقية الأحزاب الكردية في المنطقة تتبع بشكل أو بآخر هذه الأحزاب الثلاثة. لذا فالتقارب الذي حدث بين هذه القوى أحدث تقارباً على مستوى آخر بين الأحزاب التابعة، وهو ما كان له أثر على توحيد النشاط السياسي للقوى الكردية. هذا المشهد تغير اليوم بعد زيارة أردوغان لواشنطن، وبعد ان كانت إدارة أكراد العراق للأزمة التركية ? الكردية الأخيرة فاشلة من منظور المصلحة الكردية العليا، وبعد أن دفعت إدارة الاقليم الأمور مع تركيا باتجاه التصعيد أسوة بحزب العمال الكردستاني، وسرعان ما عادت وأذعنت للمطالب التركية عبر الاجراءات التالية: 1- إغلاق مقار حزب الحل الديموقراطي الكردستاني بدعوى موالاته لحزب العمال الكردستاني في جميع المدن الكردية العراقية. 2- منع الصحافيين ووسائل الاعلام من التوجه إلى منطقة تواجد عنصر حزب العمال وحظر أي لقاء معهم تحت طائلة العقوبة وسحب الترخيص. 3- تحديد المواد الغذائية و الطبية التي يأتي القرويون من مناطق تواجد حزب العمال الكردستاني لشرائها في المدن الكبيرة في أربيل والسليمانية ودهوك لضمان عدم وصول هذه المواد لأيدي عناصر الحزب. 4- انتقال أعداد كبيرة من قوات البيشمركة للتمركز جنوب وغرب جبال قنديل في خطوة تعيد إلى الذاكرة مشهد التسعينات، عندما كانت قوات البيشمركة تمنع هروب عناصر حزب العمال من القصف والتمشيط التركي من الشمال. 5- فرض حصار أمني وعسكري على مخيم مخمور للاجئين الأكراد الأتراك في الموصل وقمع مسيراتهم المؤيدة لحزب العمال الكردستاني. كل هذه الاجراءات وغيرها اتخذت بعيدا عن التداول الاعلامي. لكن يبقى سر هذه الاستجابة الكردية للمطالب التركية مفاجئاً إذا راجعنا الموقف الكردي مع بداية اندلاع الأزمة عندما رفض البارزاني وصف العمال الكردستاني بالحزب الارهابي. وسر الاستجابة يكمن في المصالح الاقتصادية لشخصيات رفيعة المستوى من الاقليم الكردي واحتمال تعرضها لأضرار اقتصادية، وهي عدة شركات في مجالات خدمية تعمل في تركيا وتعود ملكيتها لشخصيات متنفذة من اقليم كردستان. عند وضع استجابة قادة أكراد العراق لمطالب وضغوط تركيا في الميزان الكردي الاقليمي، يمكن القول إن شرعية مسعود البارزاني كقائد قومي مرحلي للأكراد خارج اقليم كردستان وداخله سستتلاشى وتكون في طريقها للتآكل بل التعرض للانقلاب عليه سياسياً من قبل الجماهير التي أيدته منذ ظهور المواقف الموحدة مع"العمال الكردستاني". * كاتب كردي.