تصادف اليوم الذكرى التسعون لولادة كمال جنبلاط 1917-1977، المفكّر والسياسي اللبناني الأبرز في حقبة الستينات والسبعينات من القرن العشرين. كان العمل السياسي، وبأشكاله وميادينه ودرجاته كافة، هو الأكثر التصاقاً بالرجل وبالاسم، وفي مسيرة سياسية تدرّجت ومن دون انقطاع من لحظة دخوله البرلمان اللبناني نائباً عن منطقة الشوف سنة 1943، وهو بعدُ في السادسة والعشرين من عمره، إلى حين سقوطه اغتيالاً في كمين مسلّح أعدّ له وهو في طريقه من المختارة، مسقط رأسه إلى العاصمة بيروت. وجاء الاغتيال يومذاك داوياً لأنه أصاب شخصية لبنانية كبيرة كان لها حضور وطني دائم وكثيف. فكمال جنبلاط ابن بيت تقليدي أساسي في الجبل اللبناني، مارس الزعامة السياسية نحو ثلاثة قرون. ونجح جنبلاط في الخروج من التقليد السياسي ذاك بتشكيله مع نخبة من المثقفين والنقابيين"الحزب التقدمي الاشتراكي"في الأول من أيار مايو 1949، الأمر الذي اكسبه مروحة تأثير وطنية واسعة تجاوزت قيود الاصطفاف اللبناني التقليدي، المذهبي والجهوي. ثم جاءت مشاركاته الدائمة في البرلمان على رأس كتلة من حزبه والأحزاب الوطنية والديموقراطية المتحالفة وفي الوزارات المتعاقبة، ناجحة من حيث الدفاع عن الحريات، والتوازن في السياسات العربية والدولية، ومن حيث القدرة على تحقيق عدد من الإنجازات السياسية والاجتماعية. وأكسبه ذلك احتراماً في الأوساط العربية والدولية، فانتخب غير مرة عضواً وأحياناً أميناً عاماً لعدد من اللجان والمنظمات العربية والدولية الفاعلة والمساندة للقضية الفلسطينية على وجه الخصوص وقضايا تحرير الشعوب، لعل أبرزها انتخابه أميناً عاماً"للجبهة العربية المشاركة للثورة الفلسطينية". وأكسبه ذلك رصيداً دولياً موازياً، وكانت ذروة رصيده المعنوي العالمي منحه سنة 1973 وسام لينين للسلام - أرفع وسام يُمنح في المعسكر الاشتراكي. وكان الاغتيال داوياً أيضاً لأنه جاء ليختتم، آنذاك، سنتين كاملتين من المعارك السياسية والحربية حاولت فيهما الحركة الوطنية اللبنانية والتي ضمّت معظم الشخصيات والأحزاب القومية والوطنية والديموقراطية برئاسة جنبلاط تحقيق ما سميّ ب"البرنامج المرحلي للإصلاح في لبنان"، مدعومة من المقاومة الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات الذي كان مقيماً في بيروت، في مواجهة ميليشيات"الجبهة اللبنانية"أولاً، العمود الفقري للنظام السياسي اللبناني آنذاك، ثم في مواجهة القوات السورية النظامية التي دخلت الأراضي اللبنانية في الأول من حزيران يوليو 1976. وهكذا كان من الطبيعي أن يرتبط اسم جنبلاط، بالسياسة، قبل أي شيء آخر، حاجباً إلى حد كبير الجانب الآخر من شخصيته: جانب المثقف والأديب والشاعر والمفكّر على وجه التحديد الذي سنحاول الإضاءة عليه. تشكّلت بواكير ثقافة جنبلاط، في معهد عينطورة حيث قضى كطالب داخلي اكثر من إحدى عشرة سنة بدءاً من العام 1926 انتهت بنيله بامتياز شهادتي البكالوريا اللبنانية والفرنسية، مع اهتمام فكري مبكر زرعه في شخصية جنبلاط اليافع وفي صف"الفلسفة"تحديداً أساتذة فرنسيون نجحوا كما تبيّن في شدّ اهتمامه إلى موضوعات إنسانية وفكرية لم تفارقه البتة بعد ذلك، وفي توجّهاته وممارساته على حد سواء. وترجمت هذه الاهتمامات الثقافية الجادة ومن دون إبطاء وعلى نحو أكاديمي في دخول جنبلاط"السوربون"في باريس لحوالي ثلاث سنوات، قطعها اندلاع الحرب العالمية الثانية. ومع أهمية الدبلومات التي أنهاها جنبلاط في السنوات الثلاث في الفلسفة، وعلم الاجتماع، والحقوق، فإن الأكثر أهمية هو ما رواه رفاق جنبلاط في سنوات باريس من أنه كان شبه مقيم في مكتبة السوربون، وأنه كان آخر من يغادرها مساءً. كانت دراسته الأكاديمية المعمقة، وصرامته الثقافية، في السنوات تلك كافية لتأسيس جذور جانب علمي وفكري وأدبي وثقافي في شخصيته ظلّ لصيقاً بها على الدوام. ومن المفيد، بل من الضروري، قبل الدخول في بعض مضمون الأدب والفكر الجنبلاطيين، وخطوطهما، التمهيد بإطلالة بيبليوغرافية على أعمال جنبلاط الفكرية والأدبية تسمح بالتعرّف على حجم ثقافته ونوعها. ويضم تصنيف أعمال جنبلاط الفكرية والأدبية المنشورة والموثّقة المواد التالية: الافتتاحيات في الصحافة اللبنانية، وعددها 1113، المؤلفات والمؤلفات الفكرية المنشورة، وعددها63، الدراسات والتحقيقات، وعددها 464، المحاضرات والندوات والمقابلات، وعددها 888، الخطب والكلمات، وعددها 301، البيانات والتصريحات والمقابلات السياسية، وعددها 1270، بيانات رئاسية في جمعيات"الحزب الاشتراكي"العامة، 15، رثاء، أدب، أشعار، فنون مختلفة، 103، وثائق حول الحزب الاشتراكي والأحزاب السياسية، 129، وثائق ثقافية مختلفة 285. والمجموع 4715. ولا يستطيع القارئ إلاّ أن يتوقف ملياً عند هذا النتاج الثقافي الضخم، باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية، وفي حقول متنوعة، وأن يتساءل: كيف أمكن لرجل شغلته السياسة حتى وفي عمر قصير نسبياً، أن يكون له هذا النتاج الكثيف الجاد والمتعدد المجالات، وصولاً إلى الشعر. وعندي أن ذلك إنما يعود في جزء كبير منه إلى التأسيس الثقافي العلمي الصارم الذي توافر لجنبلاط في مطلع حياته، من جهة أولى، وإلى تعدد مصادر هذه الثقافة شرقاً وغرباً، من جهة ثانية. وإذا تجاوزنا مادة الفكر الجنبلاطي وشكله إلى مضمونه واتجاهاته العامة، لرأينا أن فكرة أساسية واحدة ملأت صفحات هذا الفكر، من الأربعينات إلى السبعينات، هي الإنسان. كانت الفكرة مهيمنة، على تنوع المجالات، والى الحد الذي يسمح باعتبار جنبلاط امتداداً لرعيل الفلاسفة الأوربيين الإنسانيين، بمقدار ما هو امتداد إيضاً لفكرة الإنسان في الفكر الهندي- الذي يعود إليه جنبلاط باستمرار- كما لدى المتصوفة المسلمين. الإنسان هذا هو لجنبلاط الهدف والغرض والغاية من كل حضارة:"إنما الحضارة الحقيقية هي حضارة الإنسان، فالحضارة وُجدت من أجل الإنسان، ولم يوجد الإنسان من اجل الحضارة". أو في قول آخر:"الإنسان لم يوجد ليكون غرضاً وعبداً للحضارة، وإنما وجدت الحضارة ونمت وتطورت لأجله، أو على الأقل هكذا يجب أن تكون"ثورة في عالم الإنسان، ص 154، 171. كذلك المؤسسات السياسية والاجتماعية، من الدولة إلى التربية، إلى الاقتصاد، إلى سواه، إنما هدفها الانسان، أو هكذا يجب أن تكون عليه الأحوال:"إن الغاية الوحيدة لكل عمل ومؤسسة بشريين هي تفتح كامل ومتناسق لدور الفرد، هذا الفرد هو الإنسان الذي علينا أن نبلغه ونصيره. وإن المجتمع في كل مؤسساته السياسية، ومنها السياسية، ليس في ذاته هدفاً بل وسيلة إلى بناء الإنسان". المصدر نفسه، 171 هذا هو المقياس الذي يستخدمه جنبلاط للتمييز بين الدولة الصالحة والدولة الفاسدة. يقول:"الدولة تقدّس أو تُلعن، تُخصب مؤسساتها أو تعقم، بقدر ما تخدم أو لا تخدم هذا الإنسان". وكما الإنسان هذا هو الهدف الحقيقي للحضارة والمجتمع والدولة، فهو كذلك هدف الاشتراكية بالمعنى الحقيقي، أو يجب أن يكون كذلك برأي جنبلاط. ليس هدف الاشتراكية الحقيقي زيادة الثروة، أو إعادة توزيعها، أو تغيير علاقات الإنتاج، وما شابه، إلا بمقدار ما يزيد ذلك من إنسانية الإنسان الواقعي، وبمقدار ما يوفر الشروط الأفضل لتحقيق إنسانية الإنسان. هي ليست إذاً هدفاً في ذاتها، أو لذاتها، وإنما مجرد أداة أخرى في خدمة الإنسان، وتحقيق إنسانيته. هوذا العيب الكبير، برأي جنبلاط، الذي شاب الاشتراكية الماركسية التي جعلت زيادة الثروة المادية والتوزيع الحسابي لها هما الهدف بمعزل عن حرية الإنسان-الفرد وشخصيته وكرامته وحرياته. لذلك تساوى هذا اللون من الاشتراكية مع الرأسمالية الفردية نفسها في تغييب الإنسان عن عملية التنمية أو زيادة الثروة وتوزيعها. وهو كذلك العيب الذي شاب الاشتراكيات العربية التي ضيّعت نفسها حين أضاعت الإنسان كهدف حقيقي ودائم. يقول جنبلاط:"في العالم العربي، بكل أسف، تجاربنا الاشتراكية فشلت بمعظمها، إن لم نقل كلها، لأنها... لم تحترم الأسس الحقيقية للديموقراطية، لم تحترم الإنسان بالمعنى الصحيح للكلمة". لكن جنبلاط يعود فيتجاوز هذا الإنسان الظاهر نفسه فيرى فيه مظهراً لإنسانية واحدة كبرى، هي في البدء وفي النهاية جوهرنا الحقيقي الذي كان لنا وأضعناه، وطفقنا من بعد ذلك نفتّش عنه ونحاول استعادته في تحوّلات حضارتنا وفي تقلّباتها، في نجاحاتها وإخفاقاتها، وفي سعينا الدائم إلى إعادة الاتحاد بحقيقتنا الواحدة الشاملة. هذا الإنسان الباحث أبداً عن ذاته الواحدة الحقيقية هو ما نختم به، في تجليات من شعر جنبلاط، يقول: "هذه السواقي، مولاي، تنحدر في الخيال، كأنها الكوثر الموعود.. يجري من الأصول، يهدر في الأعماق، في فرحة التكوين، وفيه ألف صورة وصورة مطوية،.... وهو لا يزال يجري في العروق، يذكّرنا ... بأننا من البحر، كالأمواج اقتطعنا، فلا يفارقنا الحنين إلى مياه أمواجه". * كاتب لبناني