جورة حوّا" هو اسم حي شعبي قديم معروف في مدينة حماة تهدّم في الأحداث الأليمة التي مرّت على المدينة في الثمانينات... وأعيد بناء أو ترميم بعض أقسامه... ان اختيار هذا الاسم بالذات عنواناً لرواية منهل السرّاج الجديدة بعد روايتها الأولى التي قيل إنها نشرت خارج البلاد ولم تصلنا لنقرأها - يكاد يعلن عن المقولة الأساسية لعملها الجديد، أي أنها تكتب عن"جورة"- حفرة، وحماة كلها تقع أصلاً في أرض منخفضة إلى جوار"العاصي"أشبه بالحفرة - تعيش المرأة الحموية في أعماقها، ولكن الرواية - كما يبدو - جهد فني يحاول اخراجها منها... وهذا ما سوف يكتشفه القارئ بعد فراغه من مطالعة الرواية. في كلّ كتابة ابداعية جيدة نَفَس طيب ممتع يأخذك اليه منذ الصفحات الأولى... هكذا منذ هذه الصفحات أخذ في النص اليه من خلال لغة السرد الشفافة عن ذكاء واضح في اختيار الأحداث والوصف واستخدام الحوار عبر أداءٍ لغوي يشبه الطيران في قفزات متنوعة الاتجاهات - لعصفور رشيق لا لصقر ضخم - وبأسلوب يشعرك جملةً بعد أخرى ان هذا الرقص باللغة ليس عشوائياً بل هو محسوب بدقة، وأنه متوجه نحو غاية مرسومة سلفاً، وهكذا تتجلى"الحدوتة"الأساسية للعمل على أنها حكاية فتيات ثلاث كن رفيقاتٍ على مقعدٍ واحد في المدرسة، وحين كبرن وتخرّجن من مراحل التعليم الأعلى لم يتباعدن بل ظلت هناك رابطة بينهن على رغم اختلاف الشخصيات والطموحات، وحين توغل في القراءة تفهم فصلاً بعد آخر - الرؤية مؤلفة من 37 فصلاً و290 صفحة من القطع المتوسط - ان الحكاية ليست حكاية الفتيات بل هي حكاية مدينة حماة بالذات كبيئةٍ محافظة جداً ولكن"الأحداث"غيّرت بعض الشيء من ملامحها التقليدية - الاجتماعية والعمرانية - غير أنها لم تذهب عميقاً في طبيعتها المحافظة الأصيلة والمعروفة بها منذ أمد طويل. من هنا يبدو ضرورياً تحليل هذه الشخصيات النسائية الثلاث ذلك أن مقولة الرواية تتلامح وتكتمل من خلال التحولات التي طرأت عليهن بالذات. فالشخصية المركزية الأولى هي بالتأكيد المسمّاة"ميّ"التي تقدمها منهل السراج نموذجاً جذاباً للفتاة الحموية الجديدة بموهبتها المتألقة كرسامة مبدعة عاشقة للألوان وما يعنيه كل لون من رمز يتصل بحياتها اليومية، والمتميزة بجمالها الجسدي الرائع وروحها النظيفة الصافية والجريئة في المواجهة مع الآخرين من دون اغضابهم مع ميل للعبث البريء الذي يعبر عن نزعة تحررية متمرّدة على التقاليد البالية، وأكثر ما يعبّر عن نظافتها الداخلية هو مشهد اعترافها الصريح المدهش الذي فاجأت به زوجها الذي اختاره لها أخوها بعد سفرها اليه في السعودية بعد غضب المدينة عليها بسبب رقصتها الطليقة التي قامت بها وهي في خلوة مع نفسها في"بيت الفنانين"بشلحتها الداخلية وهي تحسب أن أحداً لا يراها ولكن جاراً فضولياً استرق النظر اليها من فوق سطح داره المجاورة وأذاع الخبر بين الناس كجريمة أخلاقية... هذا الاعتراف الذي أعلنت فيه وبكل بساطة ونظافة لفتاة لا تكذب ولا تريد أن تكذب انها عاشقة لرجل آخر تخلّى عنها... وكيف عادت مطلقة الى بلدها بكل شجاعة كي تواجه الجميع بفنها الرفيع وشخصيتها القوية بنزعتها الاستقلالية وقدرتها على ممارسة مهنة تنقذها من الاتكال على غيرها... أما الشخصية الثانية فهي"كوثر"بالتأكيد وهي النموذج المقابل - أو المعارض - لشخصية"ميّ"- كفتاة خاضعة حتى العبودية للأوامر والنواهي الصادرة عن معلّماتها الداعيات للأصولية الدينية المتشددة في فهم الإسلام، وهي في الوقت ذاته ? بعكس ميّ ? ذات جسد هذيل مسكون بهواجس الكبت الجنسي وأوهام خرافة لطخة"الوحام"على جبينها والخوف من العقاب الإلهي المريع على رغم أنها تحمل في أعماقها ميولاً فنية رقيقة كرسّامة محدودة الفهم والانتاج، غير أن الكاتبة وهي تلاحق"كوثر"الفقيرة المعقدة نفسياً وفكرياً تميل بها الى مراحل جديدة من التطوّر وصولاً الى النضج النفسي والفكري والاعتدال الديني بعيداً عن الوصايات المتسلّطة... في حين أن الشخصية الثالثة"ريمة"تبدو كنموذج آخر مختلف تماماً من حيث هَوَسها بحياة الرفاه المادي في اختيار الزوج الثري، وأسلوب الحياة اليومية الحافل بالتسوق لاقتناء منتجات"الموضة"، والتي ضاق بها زوجها ذرعاً وقد استحالت الى امرأة فارغة الا من سخافاتها الناجمة عن مبالغتها في التعلق بمظاهر الوجاهة فتزوج عليها، خسرت مستواها المادي ولكن من دون أن تتحول الى امرأة يائسة اذ استطاعت أن تتوازن مع صدمتها فتعود الى أسرتها العادية وأصدقائها القدامى من النساء والرجال وتعود صاحبة أحلام كبيرة عن اعمار مدينتها التي خربتها الأحداث. قد يقال الكثير عن هذه الرواية، غير أن المجال المحدود لا يسمح بقراءة تفصيلية أكثر ولا بأس هنا بأن نذكر أخيراً بأن"منهل السراج"في هذا العرض الروائي الجذّاب كانت تدين مدينتها بقدر ما كانت تحبها وتدافع عنها، وان الانتقاد الوحيد الذي يمكن توجيهه اليها من حيث الشكل الفني أنها في الفصول الأخيرة بدت متعجلة في تسريع الأحداث وتوصيل المعلومات مما جرّها الى بعض المباشرة كتقديم بعض المعلومات مثلاً على رغم من أنها تحصيل حاصل أي ان القارئ كان في وسعه الوصول اليها من دون التدخل المباشر للكاتبة كما في الصفحة 265 وهي تتحدث عن التحولات التي طرأت على"ريمة"بعد طلاقها. أو في استخدامها في الصفحة السابقة 264 مثل هذه العبارة في السرد:"وهكذا ظلت"ريمة"تحصد كل يوم نتائج ما زرعت..."وهي عبارة تعليمية ناشزة على السياق اللغوي الجميل والذي يعود الى مستواه في الفصل الأخير 37 كخاتمة في منتهى الذكاء واللطف حين تجمع الرفيقات الثلاث ومعهن زميلهن الفنان"خالد"بالبصارة التي تكشف عن الغيب وپ"البخت"وخاصة في الجملة الأخيرة التي وجهتها"البصارة"الى ميّ وقد سمعتها تتنهد:"لا تكثري من التنهدات... ففي كل تنهيدة تفلت منك لفحة سعادة"كي نفهم أخيراً أن الرواية تعبير عن تحذير للبكائين الشكائين في مجتمعاتنا - وما أكثرهم ? يجب أن يفهموا منه أن الحياة كانت دائماً ساحة لصراع لا يهدأ، وأن الغلبة فيه نسبية دائماً ولا يُخطئ بها الا المتحررون من سطوة الألم والقادرون على مجابهته وإبعاده إن لم يستطيعوا الغاءه تماماً.