هناك روايات لا يكون الموضوع فيها هو الأهم، بل الأجواء... وخصوصاً حيث يكون هذا الموضوع قد طرق مرات ومرات من قبل، وعولج في العديد من الأعمال الروائية، ثم خصوصاً إذا كان هذا الموضوع بسيطاً ساذجاً لا يمت بصلة إلى الأعمال الأدبية الكبيرة، والحقيقة ان معظم ما كتبه الأديب الفرنسي بيار لوتي ينطبق على هذا الوصف. فهو أبداً ما اعتبر أديباً كبيراً، حتى وان كان قرئ دائماً من قبل مئات الألوف وترجم إلى لغات عديدة، من دون أن ينتمي حتى إلى النوع الجماهيري الساذج. أدب بيار لوتي ما كان لا هذا ولا ذاك، أي لم يكن أدباً ساذجاً ولم يكن أدباً كبيراً يمهد لحداثة ما أو يؤرخ كلاسيكية معينة، كان أدب أجواء، وأدب أحداث رومانسية شرقية في غالبية الأحيان، ذلك أن هذا الكاتب البحار الذي اشتهر بغرابة أطواره كان من محبي الشرق، كل أنواع الشرق حتى وان كان حبه الأكبر راح صوب الشرق الإسلامي الذي أولع به وتجسد فيه إلى حد أن كثيرين اعتقدوا انه مات مسلماً أو انه اعتنق الإسلام ذات لحظة من حياته، لكن الحقيقة أن لوتي لم يعتنق الإسلام أبداً. بل دافع عنه دائماً وأولع به وأهله، وكان في آخريات سنواته يتزين بأزياء يعتقدها إسلامية وكان يحلو له أن يصور بها. - وإذا كان عالم الإسلام قد شغل معظم صفحات نصوص بيار لوتي، سواء أكانت تلك النصوص روايات أو كتابات في السيرة الذاتية أو تنتمي إلى أدب الرحلات، فان الرجل شغل كذلك بمناطق أخرى من العالم لم تقل في نظره روعة عن عالم الإسلام وشرقه الأوسط، ونفى هنا جزء الباستيك وأجواء الشرق الأقصى، بل يمكن القول أن توغل بيار لوتي في تلك المناطق سبق اطلاعه على البلدان العربية وتركيا، فهو كان في أول حياته بحاراً وكان يعمل على سفن تتجه إلى جزء المحيط الهادي، وهناك واتته على إيه حال أول أفكاره الأدبية، في خط كان من المنطقي له بعد ذلك أن يقوده إلى الشرق الأقرب إلى وطنه فرنسا، بل أن اسم بيار لوتي الذي لم يكن أصلاً اسمه ركبه هناك في تلك الجزر الباسيفيكية، حيث أظهره أول ما أظهره في رواية أولى عنوانها زواج لوتي نشرت للمرة الأولى عام 1880 وعمر الكاتب ثلاثين سنة، هو الذي كان لا يزال يعرف بعد باسمه الأصلي جوليان نيو، والحقيقة أن روايته"زواج لوتي"التي نظر إليها كثير على إنها جزء من السيرة الذاتية له، ليست رواية سيرة ذاتية بل رواية خيالية صرفه، عاد الكاتب وسمى نفسه باسم بطلها، ما خلق ذلك الخلط وسوء الفهم. - غير أن هذا لا يعني، بالطبع، أن الرواية لم تكن في الأصل مستقاة مما يشبه التجربة الشخصية التي عاشها جوليان نيو، أو على الأقل خيل إليه انه عاشها، كما هي الحال مع رواية أخرى له تدور أحداثها في اسطنبول وعنوانها"آزيادة"المهم أن"زواج لوتي"كتبت في انطلاق واضح من مغامرات الكاتب كيمار على متن سفينة فرنسية رست ذات مرة في تاهيتي، غبر إنها كتبت إيفاء، وكما يبدو واضحاً تأثره في لوحات غوغان التي كان نيو مطلعاً عليها، والتي كان الرسام يحققها في تلك الجزر الاستوائية البعيدة ثم يبعث بها لتباع في فرنسا وغيرها، وهذا الأمر الأخير يبدو من خلال قراءة الرواية إذ كلما تقدم القارئ في صفحاتها كلما خيل إليه انه يتجول في معرض يضم لوحات غوغان الاستوائية، نعيش مع شخصيات تلك المناطق ونسائها وبيوتها وألوانها والجلسات المسترخية بعد الظهر، وحكايات الغرام التي تروى بنظرات العيون، ومن هنا ما قلناه أول هذا الكلام من أن هذا الأدب أدب جو ومناخ أكثر منه أدباً روائياً كبيراً. - تتحدث"زواج لوتي"إذاً التي تدور أحداثها في تاهيتي تحديداً عن زواج الملازم في السفينة الحربية بيار لوتي من فتاة حسناء من سكان الجزيرة الأصليين، تدعى راراهو، وهذه الفتاة كما تصورها لنا الرواية مراهقة حسناء ضارية، كان التقاها لوتي حين رست سفينته في الجزيرة حيث بقيت بضعة أشهر، وحين كان اللقاء الأول كانت راراهو تلعب مع مجموعة من رفيقاتها في نهر تدفق. وهكذا على الفور تبدأ حكاية الغرام بين الاثنين وسط الغابات إلى جانب النهر، ثم بعد أيام من الحب والتنقل والتمتع بجمال الطبيعة حيث موعد الزواج الذي يتم الاتفاق عليه، ويصف لنا الكاتب في صفحات بالغة الجمال تفاصيل العرس على الطريقة المحلية وزفة العروسين ومواقف الأهل والطقوس الدينية وغيرها، والرفيقات المراهقات، وما إلى ذلك، ولكن وقبل أن يوصل الكاتب الوصف إلى أقصاه تدق السفينة نفير الإقلاع من دون أن يتم الزواج، ما يضطر لوتي إلى ترك حبيبته والرحيل تاركاً لها حريتها، غير انه يغفل هذا مرغماً لم يكن ليتصور أن الفتاة أخذت المسألة كلها على محمل الجدية المطلقة، إذ ها هي بعد رحيله تتصور انه سيعود إليها سريعاً، من دون أن تعتقد لوهلة إنها واهمة، وهكذا تمضي الأيام ثم الأسابيع والشهور وهي تتزين على الدوام ناظرة إلى الأفق متيقنة من ظهور السفينة والمحبوب على متنها ذات يوم، وفي النهاية لا تعود الفتاة قادرة على تحمل الانتظار وتصاب بسل يقضي عليها. وقد يئست من عودة لوتي، وعلى إيه حال ها هو لوتي يعود بعد شهور ولا يعثر من حبيبته إلا على قبر صنعت له رفيقات راراهو شاهدة كتبن عليها:"هنا ترقد راراهو زوجة لوتي". وهكذا تنتهي الأحداث التي من المؤكد أن شيئاً لا يبقى منها في الذاكرة، على عكس المناخ العام والعطور والروائح والألوان التي تملأ الرواية كما ملأت أعمالاً أخرى لبيار لوتيپ1850-1923 قبل روايته السباهي، وشقيق ايف، والسيدة خزامى، إضافة إلى مئات الصفحات التي كتبها عن مدن الشرق وعواصمه التي فتن بها، وكانت خزائن حياته وكتاباته.