تلقي حادثة "القنبلة البشرية" الضوء على شخصية الرئيس الفرنسي نيقولا ساركوزي. ففي 1993، كان ساركوزي يومها عمدة الضاحية الباريسية الفخمة نويي، احتجز مختل عقلي تلاميذ مدرسة رهائن، وارتدى حزاماً ناسفاً، وهدد بقتل الجميع. وأطلق المختل لقب"القنبلة البشرية"على نفسه. وطالب المسؤولين الفرنسيين بالنزول على لائحة طلباته. فدخل ساركوزي المدرسة بمفرده، وتكلم مع الخاطف، وسأله عن مطالبه ومشكلاته، وعرض عليه مساعدته في حل هذه المشكلات شرط إطلاق الرهائن. وبعد نصف ساعة، خرج ساركوزي من المدرسة وفي صحبته الأطفال. وذاع صيت ساركوزي بفرنسا بعد هذه الحادثة. وعدا الشجاعة، كشفت هذه الحادثة جوانب من شخصية الرئيس الفرنسي الحالي. فهو، على خلاف السياسيين التقليديين الفرنسيين، متهور، ويقبل على المخاطر ويهواها، ويملك رغبة عارمة، وشبه مجنونة، في الحياة. ومنذ انتخابه، بدا أن ساركوزي قنبلة بشرية من الصعب التكهن بلحظة انفجارها، وبما قد تخلفه وراءها. ويشبه بلوغ ساركوزي سدة الرئاسة لحظة تسنم الرئيس الاميركي بيل كلينتون الرئاسة الاميركية. فقوته ودهاؤه دحضا طعون المشككين بأداء هذا الرئيس الجديد. وهو نجح في تقويض نفوذ معارضيه المتربصين به، والمنتظرين اللحظة المناسبة للانقضاض عليه. فخطا خطوات تكتيكية سلبت المعارضة هامش المناورة والاعتراض، واستمال اثنين من أبرز رموزها الاقوياء والنافذين، برنارد كوشنير، الناشط في الشؤون الانسانية، ودومينيك ستروس - كان، وزير المالية في حكومة رئيس الوزراء الاشتراكي ليونيل جوسبان. فعيّن الاول وزير خارجيته، والثاني رئيساً لصندوق النقد الدولي. وفي الحملة الانتخابية، أضعف ساركوزي القومي المتطرف اليميني، جان - ماري لوبن، وتعهد انتهاج سياسة صارمة في مسائل الهجرة، ومكافحة الجريمة. واستمال ناخبي اليمين المتطرف. وتلوح مبادئ الپ"بونابرتية"وراء سعي ساركوزي الى تجاوز الأحزاب والهيئات السياسية. ولا تقتصر البونابرتية على إمساك رجل قصير وطموح بمقاليد السلطة. فهي ايديولوجيا متماسكة ازدهرت في القرن التاسع عشر عندما ترشح لويس - نابوليون ابن أخي الامبراطور الى الرئاسة، وفاز بالرئاسة قبل اعلان الإمبراطورية الفرنسية الثانية. وحكم لويس - نابوليون فرنسا، ووضعها على طريق الحداثة بين 1848 و1871، تاريخ الحرب البروسية - الفرنسية التي انتهت وبالاً على فرنسا. وأرسى نابوليون الثالث، المؤمن بالقوة الفرنسية، أسس البونابرتية. فجمع بين إقرار تدخل الدولة في الاقتصاد وبين تشجيع التوسع الرأسمالي الخاص. ولم يتوان عن تبني خطط معمارية ومدنية كبيرة، واحتفى بالتجديد. وهذا الصنف من الحكم البونابرتي يختلف عن الحكم الملكي، أو الجمهوري، أو الحكم الهجين الديغولي الملكي - الجمهوري. ففي حين يميل هؤلاء الى المحافظة والتقاليد الريفية، ويخاطبون الشعب الفرنسي، ويمدحون تراثه وعاداته الثابتة، ويشددون على اتصال الحاضر بالماضي، تخل البونابرتية، المدينية النازع والميل، بالنظام، وترحب بدور رؤوس الأموال الكبيرة، وتسعى سعياً حثيثاً الى الإصلاح الاقتصادي. ويحن اليسار الفرنسي الى الماضي، ويجمِّل المجتمع الزراعي. وذاع صيت سيغولين رويال بفرنسا إثر تسلمها شهادة تضمن جودة جبنة"كابيشو"، وارتدائها زياً تقليدياً في المناسبة. وكانت هذه الحادثة لحظة القنبلة البشرية الخاصة برويال. وهذا ما حمل مقربين من شيراك على استبعاد فوز ساركوزي بالانتخابات الرئاسية. ولم يكن الشطر اليهودي من تراث ساركوزي أو تحدره من أسرة أجنبية وراء الاستبعاد هذا، بل صنعته الباريسية والمدينية الصارخة. والارث البونابرتي هو إرث شخص دخيل على جماعة ما، سواء كان مجرياً أو كورسيكياً مثل آل بونابرت أو يونانياً. ولكن هذا الدخيل يشبه الباريسيين. فالبونابرتي انتهازي وسلطوي وفاعل وناجح وشخصاني. ويعود الفضل الى لويس - نابوليون في ما آلت اليه باريس. ففي عهده شقت الجادات وافتتحت المقاهي. ولا شك في أن زعم ساركوزي أن فرنسا"تعاني كثرة إعمال التفكير"هو رأي بونابرتي بامتياز. وقد يبدو أن البونابرتية هي عقيدة فظة ومبتذلة وضعيفة الصلة بالثقافة. ولكن أنصار هذه العقيدة يضعون نصب أعينهم جعل باريس عاصمة العالم. وهذه المرة لا يتربص بأحلام البونابرتية الفرنسية التوسعية بيسمارك جديد، بل صديق ألماني صدوق. عن آدم غوبنيك، "نيويوركر" الاميركية، 27/8/2007