في طبعة شعبية مزيدة صدر كتاب "ان تكون عربياً" منشورات بابل، آكت سود باريس 2007، وفيه يواصل المثقفان العربيان المقيمان في باريس فاروق مردم بك والياس صنبر حواراً ثلاثياً مع الصحافي الفرنسي كريستوف كانتشيف، يعيدان خلاله قراءة الأحداث في العالم العربي، منذ انحلال الإمبراطورية العثمانية إلى ما بعد"غزوة نيويورك". ويرجعان إلى أصول الحركة العربية، وكيفية تبلورها على المستوى السياسي والثقافي. وإن كان عنوان الكتاب يوحي بالمعنى الفلسفي للكينونة الوجودية، فإنهما لا يتناولان العروبة بصفتها مقولة وجودية، بل هوية تاريخية، تكوّنت في ظروف داخلية وخارجية متشعبة. ولعل فكرة الهوية عموماً، فكرة أثيرة عند المفكرين الذين يعيشون في كنف حضارات مغايرة لحضارتهم، والذين يشعرون بهذه الفروقات والتباينات بينهم وبين الآخرين من أبناء الحضارة الأصيلة. وهو هاجس مقلق لا يمتصه تقلّب المؤلفين مردم بك السوري وصنبر الفلسطيني في أحضان الحياة الباريسية، منذ عقود، والتكيف مع أنماط حياة الفرنسيين وفكرهم ولغتهم. ولعل فكرة العروبة هي المحور الذي يربط مفاصل الحديث بين المتحاورين العربيين، اللذين يعرجان على بعض العناصر الأساسية التي تتواشج مع الفكرة الأم ، مثل: القومية والعلمانية والإسلاموية والأصولية الدينية والقضية الفلسطينية والحرب العراقية. والسمة الغالبة في الحوار هي أن صوتي المتحاورين متكاملان، وانهما يتخطيان بأطروحاتهما المقولات والمصطلحات التاريخية والسياسية التي تواطأت عليها أقلام المؤرخين والساسة العرب. ويدرجان في قراءة متأنية وعميقة هذه"المسلمات"الفكرية والوقائع التاريخية في سياق موضوعي، يتجرد من الأوهام التي علقت منذ عقود في أذهان الباحثين والمؤرخين العرب. ومن بين هذه الموضوعات التي ارتكز عليها الحوار، يستعيد فاروق مردم بك النظر في تسمية"عصر الانحطاط"ويرى في هذه التسمية إجحافاً، مرده نظرة خاطئة إلى هذا العصر الذي شهد فعلاً نهضة فارسية وتركية وهندية في مجالات وميادين عديدة. وفي هذا المقام يذكر العديد من الحكام العثمانيين النشيطين والمصلحين الذين أصلحوا الإدارة والجيش، وشجعوا الصحافة. ويصف حركات التنظيمات التي بدأت عام 1830 في الدولة العثمانية بغاية تحديث الدولة والمجتمع"بالثورة من فوق". والتي عبرت آنذاك عن جرأة الحكام ومعاونيهم العسكريين والمدنيين الذين قادوا هذا التغيير. مراجعة الذات وبمثل هذا التحديث المنشود أنقذت الإمبراطورية من الانهيار، وكان للسلطان عبدالمجيد اليد الطولى في إرساء أسس الدولة الحديثة، حينما أصدر عام 1856 مرسوماً ساوى فيه بين رعايا الإمبراطورية المسلمين، وغير المسلمين في فرص التعليم ودفع الضرائب والخدمة العسكرية وفي التوظيف والقضاء المدني. وكان من ثماره إلغاء ازدواجية الولاء بين العقيدة الدينية والوطنية العثمانية. وقد نحا عبدالمجيد في ذلك إلى عقلنة القوانين والاستفادة من قانون بونابرت، على رغم رسوها على قاعدة المذهب الحنفي. ومن المفارقات أن الهزيمة العسكرية العثمانية أمام أساطيل الغرب، خصوصاً على يد روسيا عام 1774 كانت من الدواعي الملحة إلى ضرورة مراجعة الذات، وقيام حركة إصلاحية حديثة، تعيد ترميم قوة الدولة العثمانية التي قامت في جوهرها على فكرة الحرب والقوة العسكرية. وهذه الحركة الإصلاحية اقتبست من الغرب المنتصر التقنيات الحديثة التي تساعدها على إعادة البناء مجدداً. وإن كان مردم بك توقف طويلاً عند الحركة العثمانية الإصلاحية، إلا أنه لم يفصّل ظروف جدلية الممانعة التي أفاض في وصفها برنارد لويس في كتابه"الإسلام والغرب والمعاصرة"حيث لم تكن عملية الاقتباس سلسة منذ بدايتها، خصوصاً عند رجال الدين المسلمين الذين رفضوا التماثل مع الغرب"الكافر"، لكن بعد مخاض، أباحوا اقتباس العلوم العسكرية المتطورة، أي الجانب العسكري من دون سواه، بهدف الدفاع عن حياض الإمبراطورية الإسلامية. بذلك سعت تركيا إلى التحديث لتقف في وجه أوروبا الحديثة، أي باستخدام سلاحها نفسه وادواتها وتقنياتها وعقلنتها وتنظيمها الإداري. هذا التماثل، أو هذا التعاون المضمر بين المنتصر والمهزوم، يجلي مردم بك خلفيته التاريخية التي قامت على حضّ الأوروبيين العثمانيين الأتراك على الإصلاح الإداري والمالي والاقتصادي، لخلق بنية ملائمة تؤطر لعلاقات اقتصادية وزبائنية مع السلطنة. كانت غاية التحديث ازدياد النفوذ الاقتصادي الغربي، بينما رأى العثمانيون المتنورون أن الإصلاح يفضي إلى قيام دولة قوية حديثة مبنية على أساس المواطنية، لا على أساس الدين. وكان رجال الدين المسيحيون والمسلمون يناصبون العداء" للتنظيمات"لأنها تقلص من صلاحياتهم وتهمش دورهم في الحياة السياسية والعامة. لم يكن الأخذ بالإصلاح في رأي الياس صنبر خياراً حراً ومسبقاً، إنما هو أمر فرضته ظروف التدهور العسكري الخارجي، وتراجع الإمبراطورية العثمانية في وجه المد الأوروبي، والمآزق الداخلية. وطرحت فكرة الإصلاح إشكالية عند المفكرين العرب والعثمانيين، إذ افترض المشايعون للفكرة من الطرفين انها خطوة إلى الأمام، لفتح باب المستقبل، و رأى البعض من المسلمين المؤيد لها على طريقته، انها خطوة لاستعادة العصر الإسلامي الذهبي. ولا يزال لمقولة الأخذ بالتقنية الأوروبية"الحيادية"من دون اقتباس القيم الإيديولوجية الغربية صدى واسع في أوساط المفكرين العرب لليوم، منهم طه عبد الرحمن مثالاً. يعيد الكاتبان معاينة فكرة العروبة فيريان فيها إحساساً قديماً شاب النفوس، لكنه لم يتبلور على المستوى السياسي إلا أثناء تكوّن الحركات القومية في الغرب، أواخر القرن التاسع عشر. وجاءت الفكرة ملتبسة بالفكرة الإسلامية، كما عند عبدالرحمن الكواكبي، حيث لم يعترض على الدولة العثمانية بصفتها دولة إسلامية. لماذا ترك العرب العثمانيين؟ ولم يطلب العرب الاستقلال عن الدولة العثمانية، وانما طالبوا باللامركزية. بل يذهب مردم بك إلى ان الشوفينية التركية هي التي حرضت العرب على الاستقلال. وكانت الثورة العربية التي قادها الشريف حسين في جانب منها، ثورة على العثمانيين لأنهم تركوا الشريعة الإسلامية، وتبنوا القيم الغربية. كان رضوخ العرب للسلطنة العثمانية قبل ذلك، ينطلق من مقولة أن التعسف واللاعدالة أفضل من الفوضى. ولم تكن الإمبراطورية العثمانية و سواها من الإمبراطوريات الإسلامية انتقالاً من المجتمع إلى الدولة. إنما كانت الدولة تفرض سلطتها وهيمنتها على المجتمع من فوق. وكانت الممالك الإسلامية تتعاقب من دون ان يقف الرعايا موقفاً سلبياً ، ما دام الخلف يعتنق دين السلف، وهو الإسلام. لذلك يذكر مردم بك أن احتلال السلطان سليم الأول لسوريا عام 1516 لم يثر عند المؤرخين في ذلك العصر أي سؤال حول سقوط النظام المملوكي، وعومل الاحتلال العثماني بكثير من الحيادية، ما دام السلاطين الذين يتولون الأحكام من المسلمين. والعروبة في رأي المحاورين وإن كانت إحساساً مشتركاً بالتضامن والتآلف منذ القدم. إلا أن تفتح هذه الفكرة و ذبولها محدودان في الزمان والمكان بوصفها مشروعاً أو حركة سياسية. ومعضلة الهوية العربية الواحدة، ان ادلجتها على أيدي الأحزاب العربية أساء إلى العروبة، وإلى الفكرة العربية التي قامت على الضرورة العاطفية، بدلاً من الشروط الحياتية والانتاجية المتناغمة. وعليه فإن الأسس المعاصرة لبناء الوحدة العربية المنشودة يكون من خلال المصالح المشتركة، عوض الأفكار والشعارات المجردة من كل محتوى. ويجب بالدرجة الأولى ألا تحجب العروبة تحت تلابيبها التوحيد القسري الذي ينقض الشعور الوطني الحديث، أو تنازعه المكانة في القلوب. فيمكن للمرء أن يكون عربياً ووطنياً سورياً أو لبنانياً او فلسطينياً في الآن عينه. وأن يكون عربياً مسلماً أو مسيحياً. ويبشر الياس صنبر بإعادة تعويم العربية لغة للثقافة والإعلام. لذا فإن نزعة عربية جديدة في طور الولادة، تختلف عن تلك التي عرفناها. وهذه النزعة لا تحلّق فوق الدول، ولا تتنابذ مع الشعور الوطني، داخل إطار الدولة القطرية التي عُدّت سابقاً على أنها صناعة إستعمارية. وعندما يعرّج الكاتبان على مسألة العروبة في المغرب، يكتشفان أن الفكرة العروبية ليس لها الصدى نفسه في المشرق ولا مكوناتها. حيث ظروف التحدي الأوروبي عند المغاربة، يختلف عن ظروف التتريك عند المشرقيين. وقد شكلت مناوأة أهل المغرب لعملية" التحضير"الفرنسية حالة هي اقرب إلى تكوين فكرة عربية تماهي بين العروبة والإسلام. العروبة خياراً ثقافياً وسياسياً إن فكرة الهوية العربية التي يتناولها الكتاب، لا تماثل عند صنبر ومردم بك، أية فكرة حيادية أو استشراقية. بل تحمل جانبين: جانباً ذاتياً ينخرطان فيه، بصفتهما ملتزمين بتاريخهما العربي ومنفعلين به، ويتحملان مسؤوليتهما كمواطنين ومفكرين. وجانباً آخر،هو الجانب الموضوعي الذي يجعلهما يضعان هذه الأفكار والالتزامات الناجمة عنها موضع التحليل العقلي والتاريخي. فالعروبة لديهما إلى كونها ماهية تاريخية، فهي أيضاً خيار ثقافي وسياسي. وعلى هذا فإن موقفهما من القضايا العربية الراهنة، يحمل هاجساً ذاتياً من جهة، ونظرة نقدية من جهة. ففي القضية الفلسطينية يضع الياس صنبر الذي انضوى في صفوف منظمة التحرير وكان أحد ممثليها الأساسيين في المحافل الدولية، يضع يده على نقاط الضعف والقصور التي شابت المواقف العربية إزاء القضية العربية المركزية. وينتقد في استعراضه هذه القضية منذ البدايات بكل تعقيداتها السياسية والإيديولوجية، حجب العرب الخصوصية الوطنية لقضية فلسطين باعتبارها فقط قضية عربية. وكذلك وقوعهم في فخ الأصول الميتولوجية اللاتاريخية الذي نصبه اليهود للعالم. فرد العرب انهم جاءوا قبل اليهود إلى أرض فلسطين. كذلك افتقد العرب إلى الخطاب الحداثي البراغماتي الذي خاطبت به اسرائيل العالم، عبر اعتبارها حركة تحرر وطني . واستطاعت من خلال برغماتيتها التحول من الوصاية البريطانية الصديقة، إلى التحالف مع القوة الأميركية العظمى بعد الحرب. وكسبت تعاطف النظام العالمي. ولا يعدم صنبر آصرة عميقة تربط القضية الفلسطينية بكل أحداث المنطقة العربية المعاصرة، بدءاً من العدوان الثلاثي، وصولاً إلى حرب العراق التي استعادت فيها أميركا النمط الاستعماري الكولونيالي الكلاسيكي، ممتزجاً بالتكنولوجيا المستقبلية. وينتقد المحاوران"أمركة"الديمقراطية الاستنسابية التي تحاول اميركا فرضها على العالم منذ أحداث أيلول. ومع ذلك فإن الديمقراطيين والليبراليين والعقلانيين العرب لا تُسمع أصواتهم في الدوائر الغربية. ويتوجس مردم بك من أن غزو العراق، بدأ يثير شهية القوى الدينية والطائفية المتعاظمة لتمزيق النسيج العراقي على حساب وحدة الدولة الجامعة. مقابل ضمور الأحزاب السياسية العلمانية. وهذا التشخيص لم يمنع المحاورين من المطالبة بضرورة ممارسة الطرق الديمقراطية في العالم العربي حتى لو كانت شكلية وسطحية. وضرورة الخروج من الطائفية والقبلية، وإعادة الاعتبار للفرد العربي وإرادته الحرة. وإلا فإن الأنظمة العربية ستتداعى أركانها، وتخلق مسوخاً طائفية وقبلية وعرقية. * كاتب لبناني