تسارعت الأحداث خلال الساعات القليلة الماضية على الساحة اللبنانية وفي اتجاهها الأمر الذي يُشير إلى أن الأيام المتبقية من العام 2007 ستشهد المزيد من التطورات المهمة بعد شهر من حال الفراغ الرئاسي وصولاً إلى الفشل في التوافق بين فريقي الموالاة والمعارضة على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وباتت مسألة"التهريب العلني"للنصاب في مجلس النواب مسرحية"منظمة"من فصول عدة ولم تعد ترفاً سياسياً أو وطنياً يتحمله الشعب اللبناني ولأطراف كثيرة متدخلة ومتداخلة في هذا الشأن، إلا إذا اعتبر البعض أن هذه المشهدية تدخل ضمن مفهوم"الديموقراطية التوافقية"التي تقوم عليها صيغة التعايش والتي تبدو مهددة أكثر من أي وقت مضى. وأكدت التطورات المتسارعة تظهيراً أكثر وضوحاً لاشتداد"أم المعارك"بين التوجهات الأميركية والطموحات الإيرانية عبر البوابة السورية، حيث يبدو لبنان عند المفترق الأكثر خطورة، وأمامه اشارات ضوئية عدة متشابكة ومتناقضة. ففي اتجاه اللون الأحمر وفي اتجاه آخر اللون البرتقالي وفي ثالث اللون الأخضر، الأمر الذي زاد في حال الارتباك السائدة اقليمياً ودولياً. وفيما بدا في فترة ما أن المبادرة الفرنسية تتم بالتنسيق مع واشنطن وتولى خلالها الرئيس نيكولا ساركوزي"التفاوض"مع دمشق، كشفت الساعات الأخيرة عن انهيار هذه المبادرة وعن ارتفاع في حدة التصعيد من جانب الرئيس جورج دبليو بوش، وهو الذي أعلن أن صبره نفد مع الرئيس بشار الاسد، وبدا أن"ديبلوماسية الهاتف"التي اعتمدها الرئيس الفرنسي باجرائه ثلاثة اتصالات مع دمشق لإزالة العقبات من أمام انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية اللبنانية لم تكن فاعلة. على أن الكلام الأكثر خطورة الذي ورد على لسان الرئيس الأميركي كان إعلان موافقته وموافقة دول العالم على أن يتم ذلك وفق معادلة الأكثرية البسيطة النصف زائداً واحداً، فهل هذا من نوع"تحريض"فريق الموالاة في لبنان على السير في هذا الاتجاه؟ علماً بأن تجمع الرابع عشر من آذار مارس أعلن عن تخليه عن اعتماد هذا الخيار، نظراً لما له من تداعيات خطرة على حاضر ومستقبل صيغة التعايش، خصوصاً أن احتمال اللجوء إلى ذلك سيدفع تلقائياً بالمعارضة اللبنانية إلى الاتجاه نحو تأليف حكومة ثانية مع ما يستتبع ذلك من خطوات تقسيمية تباعد أكثر فأكثر بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم وتوجهاتهم. وفيما بدا أن الأمور بدأت تسلك طريق الحلحلة والتفاهم على آلية اجراء الانتخابات الرئاسية مع التعديل الدستوري المطلوب عادت الأمور إلى المربع الأول من الأزمة. وسبق إعلان الرئيس بوش نشاط مكثف ولافت من جانب ديفيد ولش مساعد وزيرة الخارجية الأميركية، الذي التقى الوجوه البارزة من تجمع الأكثرية النيابية، متجاهلاً كلياً واقع المعارضة، وهو الذي أطلق من بيروت نداءات عدة إلى دمشق وطهران من أن المجتمع الدولي لن يقف مكتوف الأيدي حيال الوضع في لبنان، وردد هذا الأمر مرات عدة حتى بُح صوته. وفي موقف داعم لتوجهات"مسيحيي 14 آذار"، أبلغ ولش الذين التقاهم في دارة الرئيس امين الجميل:"ستكون للبنان أهمية خاصة في جولة الرئيس بوش المرتقبة على عدد من دول المنطقة في الأسبوع الثاني من كانون الثاني يناير 2008". ولم ينسَ الموفد الأميركي الطلب إعلامياً من رئيس مجلس النواب نبيه بري دعوة مجلس النواب إلى الالتئام فوراً وانتخاب الرئيس، وهذا ما جعل اللقاء في"عين التينة"متوتراً، حيث كرر بري القول لولش:"انني أعرف واجباتي تماماً وماذا عليّ أن أفعل. لكن ماذا عن الأطراف الأخرى ومن يعطيك منها؟ هل ناشدتها التجاوب مع المساعي القائمة؟"، وأضاف:"إذا ما حدث التوافق، فسأدعو المجلس النيابي إلى الاجتماع ولو يوم رأس السنة". وتزامنت هذه التطورات مع معلومات عن"تدخل سوري في الشأن اللبناني"، وأن مساعي الحل قطعت شوطاً بعيداً وبلغت التفاصيل النهائية حول شكل الحكومة الجديدة التي ستؤلف فور انتخاب رئيس الجمهورية مرحلة التفاهم حول عدد الوزراء وتوزيع الحقائب، لكن انهارت كل المساعي وعاد كلام باريسوواشنطن عن اعتبار يوم أمس السبت"الفرصة الأخيرة"للحل وإلا... حيث بدا أن انعقاد مجلس النواب وفق النصاب المطلوب أكثرية الثلثين يحتاج إلى معجزة أو اعجوبة وسط تجدد المخاوف من عدم التئام المجلس النيابي قبل نهاية كانون الأول ديسمبر الجاري، الأمر الذي يعني ترحيل الأزمة وحلولها إلى آذار مارس المقبل، موعد الدورة العادية للمجلس، وسط تداول بعض الاجتهادات الدستورية التي تجيز للنواب الاجتماع خارج الدورة العادية. وفي ما يبدو في ظاهر الأمور أن الخلاف القائم هو دستوري وسياسي، فإن بواطن الأزمة اللبنانية تتعدى ذلك إلى المواجهة القائمة بين الولاياتالمتحدة من جهة وسورية وإيران من جهة ثانية. وعندما طرحت الأسئلة حول المهمة التي جاء من أجلها ديفيد ولش، جاء الجواب من أحد أركان الموالاة أن الغرض الأساسي من زيارته العاجلة والمتكررة إعادة"التموضع الأميركي في لبنان". فيما ساد الاعتقاد أخيراً بأن سياسة واشنطن في لبنان والمنطقة منيت بالهزيمة. وهذا ما يطرح مصير المنازلة الكبرى بين التوجهات الأميركية ودول محور الممانعة في المنطقة والساحة المشرعة لها على الأراضي اللبنانية. ووسط هذه الصورة القاتمة تنكشف على المشهد اللبناني تطورات آتية تحمل الكثير من المخاطر والمتغيرات وتجعل الوطن الصغير من جديد في مهب"لعبة الأمم". وماذا عن الاستحقاقات الأميركية؟ * دخل الرئيس بوش مرحلة العد التنازلي لانتهاء ولايته الثانية والأخيرة، وهو يتصرف الآن للتاريخ محاولاً القيام بخطوات استدراكية للكثير من الممارسات الخاطئة لسياسته في المنطقة، وتركيزه ينصب على الجبهات التالية: لبنان والعراق وفلسطين وإيران. لبنانياً: المطلوب انجاح"ثورة الأرز"ودعمها حيال المخاوف من"سقوط المسيرة الديموقراطية"، لكن حقيقة الأمر تكشف عن واقع آخر. فالحضور الأميركي في لبنان يتجلى بالدعم السياسي والإعلامي لفريق الموالاة وبتحديد أكثر لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، في حين أن الحضور السوري والإيراني أكثر دينامية في الواقع الميداني من أي حضور آخر. والسؤال: إلى أي مدى يمكن أن يؤثر هذا الواقع غير المتكافئ على مستقبل لبنان وسط العديد من المؤشرات التي لا تبعث على الاطمئنان ولا على الارتياح الى المستقبل الآتي على المديين القريب والمتوسط؟ * لقاء"أنابوليس"لم يكن لقاء تفاوضياً، بل لإطلاق مرحلة التفاوض على الوضع النهائي بين الفلسطينيين والإسرائيليين تمهيداً لقيام"دولة فلسطينية قابلة للحياة تعيش جنباً إلى جنب مع دولة إسرائيل". وكان في نية رئيس وزراء إسرائيل ايهود أولمرت أن يطرح في اللقاء الدولي الحاشد فكرة قيام دولة حصرية لليهود، لكنه تراجع، فيما تولى المضيف الرئيس بوش استخدام هذا التعبير في كلمته التي كان يتلوها وهي بخط اليد، الأمر الذي اضطره للاستعانة بنظارتيه. وفكرة قيام"دولة يهودية"هي واحدة من أخطر الطروحات التي يمكن أن تواجه المسار الفلسطيني - الإسرائيلي بين جملة أخطار، وفي طليعتها ممارسة المزيد من الضغوط لاسقاط حق العودة بصورة نهائية، الأمر الذي يطرح هواجس توطين الفلسطينيين حيث هم، فلا الدولة الإسرائيلية ستقبل بعودة اللاجئين إلى أراضيها ولا الدولة الفلسطينية العتيدة تتسع لعودة أهلها من أراضي الشتات، وهذا ما سيفرض توطين الفلسطينيين في لبنان كأمر واقع. * طرحت أوجه المقاربة بين مؤتمر مدريد في التسعينات، ولقاء أنابوليس الأخير. فمؤتمر مدريد، وكما هو معلوم، أعقب حرب الخليج، فيما يرى بعض المتابعين عن قرب لشؤون المنطقة أن"مؤتمر أنابوليس"قد تعقبه حرب أخرى استدراكية لتمرير التسوية الآتية، من تطبيع عربي - إسرائيلي، وما سيرافق هذه المرحلة من تداعيات ومضاعفات على غير صعيد وفي أكثر من اتجاه وفي أكثر من مكان. * ما اجتمع رئيس برئيس ومسؤول بمسؤول إلا وكان الهم اللبناني ثالثهما... ومع هذه المفارقة ودرجة الصحة أو المبالغة فيها، تبدو المقاربة صحيحة إلى حد بعيد لشدة تداخل الأزمة اللبنانية بالأوضاع الاقليمية والدولية. وهذا الغلو في التدخل والتداخل الخارجي في الشأن اللبناني لا تبعث نتائجه على الارتياح. وإذا كانت مقولة ان لبنان يشهد حروب الآخرين على أرضه صحيحة، فالصحيح أيضاً أن نتائج هذه الحروب هي من أجل الآخرين. * ما زال الحوار على أشده حول تقرير الاستخبارات الأميركية الذي أكد أن إيران أوقفت بناء برنامجها النووي في العام 2003، ومحاولة الرئيس بوش التنصل منه، فهو يطرح الأمور بشكل معكوس، إذ قال على هامش اجتماع الستة الكبار في باريس لمناقشة تطورات الملف النووي الإيراني:"أتعهد بأن تدافع الولاياتالمتحدة عن إسرائيل إذا هاجمتها إيران"، وكأن الرئيس الأميركي يومئ بنشوب مواجهة إسرائيلية - إيرانية قد تكون الحرب البديلة عن المواجهة الأميركية - الإيرانية. لماذا تم اختيار مدينة أنابوليس لاستضافة اللقاء الفلسطيني والعربي - الإسرائيلي؟ أنابوليس لها قصة في التاريخ الأميركي تعود إلى القرن الثامن عشر عندما كانت تحكم الولاياتالمتحدة زمرة قبائل على اختلافها. ونجح الرئيس جيمس ماديسون في دعوة ممثلين عن الأطراف المتقاتلين إلى أنابوليس وانتهت المداولات في حينه إلى الاتفاق والتفاهم على الصيغة الفيديرالية: الولاياتالمتحدة الأميركية. فهل هبّت رياح"الفدرلة"ودقت ساعة"العمل الثوري"لها؟ * الرئيس نيكولا ساركوزي يصرّ على"الفرصة الأخيرة"وهي انقضت، لكن وزير خارجيته برنار كوشنير بدا أكثر حكمة منه عندما قال:"لا يوجد في لبنان فرصة أخيرة، بل هناك العديد من الفرص". ومن ضمن مفارقات المرحلة الراهنة أن الرئيس الفرنسي سعى من خلال فتح الحوار مع الرئيس بشار الأسد الى تحقيق"الفصل في المواقف"بين سورية وإيران، فيما سعت دمشق الى"الفصل"بين الموقفين الفرنسي والأميركي. * إذا كان الرئيس بوش قد نفد صبره، فإن الرئيسين بشار الأسد والإيراني محمود أحمدي نجاد يعتمدان سياسة النفس الطويل والأمر يتوقف على من سيصرخ أولاً! * إعلامي وكاتب لبناني