تتخبط الإدارة الأميركية وحكومات أوروبية في البحث عن جدوى سياسات العزل مقابل سياسات الانخراط مع دول وقوى من أمثال ايران وسورية و "طالبان" في أفغانستان. دعاة التحاور والتفاهم مع أي كان يتعاركون مع معارضي الحوار والتأهيل المجاني كمكافأة. والحرب بين المعسكرين مستعرة في الصفوف الأكاديمية والفكرية والإعلام والحملات الانتخابية والرأي العام. الحكومات من جهتها، تتقدم هنا وتجازف هناك، إما بحثاً عن وسائل للخروج من أوضاع صعبة أو استطلاعاً لاحتمالات المراحل المقبلة. وليس واضحاً إذا كان ما صدر في الأسبوعين الماضيين من مؤشرات على إقبال أميركي على إيران، وفرنسي على سورية، وبريطاني على"طالبان"، مجرد صدفة تزامن، أو إن كان بتنسيق مسبق. الواضح أن هذا التوجه أصابه التصدع حتى في مراحله الأولى مع سورية بسبب احتراق أصابع الذين كافأوا بفك العزلة ثم اكتشفوا عمق تعقيد الأسباب الأساسية التي أدت إلى ضرب العزلة. ولذلك تحولت لغة الديبلوماسية الفرنسية من الافراط بالترغيب إلى الابتعاد عن الورطة والتهديد بكشف ما حدث إذا استمرت دمشق في التعطيل في لبنان. أما ما حدث ويحدث بين الولاياتالمتحدةوإيران، فإنه ما زال في طيات الغموض والتفسيرات المتضاربة والمعلومات المتناقضة التي يؤكد بعضها شكوك الصفقات، ويؤكد بعضها الآخر حاسماً أن كلام الصفقات مجرد هراء. الأمر يختلف في ما يتعلق بالسياسة الأميركية نحو سورية ولبنان. فلقد برز تطور في الأيام الأخيرة لنقل تلك العلاقة إلى مكان مختلف عما كانت عليه قبل أسبوعين. فلقد أخذت الإدارة الأميركية زمام المبادرة والقيادة المشتركة مع فرنسا في موضوع لبنان بعدما كانت تركته حصراً لفرنسا وانصبت على ترغيب سورية بحضور مؤتمر أنابوليس، وفي أعقاب الاجتماع الدولي الذي عقد في باريس مطلع هذا الأسبوع من أجل انشاء دولة فلسطين، أدرك اللاعبون الأساسيون أن لا ضرورة للعب المسارين الفلسطينيواللبناني واحداً منافساً للآخر. ولقد أحسن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون التقاط الفرصة بترؤسه اجتماعاً مهماً في باريس حول لبنان أعاد إليه زخم المبادرة وأسفر عن دعم دولي لجهوده الماضية قدماً في انشاء المحكمة الدولية لمحاكمة الضالعين في الاغتيالات السياسية الإرهابية للقيادات السياسية والفكرية والإعلامية في لبنان. هذه المحكمة قطعت أشواطاً مهمة نحو تأسيسها ودخولها حيّز العمل. فهذا الأسبوع انجزت"اتفاقية المقر"بين الأممالمتحدة وهولندا، ووصلت الأموال والتعهدات الضرورية بالموازنة إلى المحكمة. الأمين العام على وشك الانتهاء من اختيار القضاة بعدما كان أوكل إلى رئيس التحقيق الدولي في هذه الجرائم الإرهابية دانيال بلمار الذي يخلف سيرج براميرتز مهمات المدعي العام. وكل المؤشرات تفيد إلى أن المحكمة الدولية ستكون جاهزة بحلول شباط فبراير المقبل بحسب ما أبلغته الدائرة القانونية إلى السفير الأميركي زلماي خليل زاد. سيرج براميرتز تحدث بلغة ازدياد الثقة عندما خاطب الإعلام قبل أسابيع في أعقاب احاطته الأخيرة إلى مجلس الأمن. قال ما فحواه إنه يعرف من هم الذين ارتكبوا ونظموا جريمة اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية السابق رفيق الحريري ورفاقه والاغتيالات الأخرى التي أثبت التحقيق ترابطها. قال إنه سلّم إلى خلفه أدلة ووثائق تمكنه من الادعاء في المحكمة. لم يكشف عن هوية المتورطين، لكنه قال بوضوح إن هذه الاغتيالات منظمة من جهات ذات قدرات كبرى. لم يتهم سورية بصورة مباشرة، كما فعل سلفه ديتليف ميليس الذي توصل إلى استنتاج بأن مسؤولين سوريين كباراً وراء الاغتيالات. لكن براميرتز ترك الانطباع بأنه لم يتوصل إلى استنتاجات تناقض ما توصل إليه التحقيق في عهد ميليس. كل هذا مهم، لأن اجهاض المحكمة الدولية هو المطلب الاساسي والرئيسي لسورية وحلفائها في لبنان. وهذا مطلب لن تتمكن لا الولاياتالمتحدة ولا فرنسا ولا إسرائيل ولا بان كي مون نفسه من تلبيته. فلقد خرجت المحكمة الدولية من لغة المقايضات والصفقات الثنائية أو المتعددة الجنسية على رغم اعتقاد البعض أنها ما زالت مرشحة للأخذ والعطاء. البيان الذي صدر عن اجتماع باريس الذي ترأسه بان كي مون كان مهماً لأسباب عدة، أبرزها أن الدول المشاركة فيه حشدت دعمها وراء بان كي مون وجهوده لانشاء المحكمة بأسرع ما يمكن لمحاكمة المسؤولين عن حملة جرائم الاغتيالات السياسية"اينما كانوا". هذه الدول ضمت مصر والسعودية والأردن والإمارات العربية المتحدة، إلى جانب فرنسا وايطاليا واسبانيا الترويكا المعنية بلبنان وبريطانيا والولاياتالمتحدة، وكذلك رئاسة الاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي والمفوضية الأوروبية. هؤلاء قالوا للأمين العام للأمم المتحدة: نحن وراءك وأنت تقود قطار المحكمة إلى محطة ابلاغ من يعنيه الأمر أن لا افلات من العقاب. حتى روسيا، التي تزداد تحجراً في مواقفها في مجلس الأمن في حمايتها لسورية، لن تتمكن، مهما فعلت، أن تطيح بالمحكمة الدولية. قد لا ترغب بذلك أساساً، ولكن حتى إن رغبت، فإنها لن تكون قادرة على حماية أي كان من المحاسبة على هذه الجرائم الإرهابية أمام العدالة في المحكمة الدولية. إذن، بان كي مون يستحق الاطراء على التقاطه مبادرة القيادة في باريس في لحظة حرجة جداً للبنان، إذ كان يتخبط في رياح المخاوف من صفقات على حسابه ومن تراجع دولي عن دعمه ودعم القرارات الصادرة حوله. جاء الاجتماع ليؤكد للبنانيين أن الأسرة الدولية لن تتخلى عنهم. جاء ليصحح ما اسفر عنه اللااكتراث، فانطلق من جملة افتتاحية في بيان جاء فيها:"اننا نجتمع هنا لنعيد تأكيد دعمنا القوي - غير القابل للتفاوض - للبنان وشعبه". وانتهى بجملة شددت على ضرورة"التنفيذ الكامل لقرارات مجلس الأمن 1559 و1680 و1701، وجميع قرارات المجلس المتعلقة بلبنان". تلك القرارات نصت على استقلال لبنان وسيادته وتحرره من هيمنة سورية عليه. قبيل اجتماع باريس بحفنة أيام كانت فرنسا واثقة من صحة خيال اقبالها على سورية للانخراط معها في شبه مساومات اعتقدت الديبلوماسية الفرنسية أنها مفيدة للبنان. كانت شخصيات بارزة في الإدارة الأميركية تتحدث بلغة اللااهتمام واللااكتراث عن شيء اسمه لبنان، باعتباره بلا أهمية تُذكر في المعادلات الاستراتيجية الكبرى. بعد الاجتماعات، الثنائية والمتعددة في باريس، حدث تغيير مهم في المواقف والسياسات، أبرزها عودة الاهتمام الأميركي البارز بدور قيادي في لبنان من جهة، ومن جهة أخرى، انحسار الثقة الفرنسية بالنظام في دمشق الذي سبب لها الكثير من الاهانة والاحراج. المصادر المطلعة على تفكير الإدارة الأميركية على أعلى المستويات عزت انحسار الاهتمام الأميركي بلبنان الى انصباب التركيز على اقناع سورية بالاشتراك في لقاء أنابوليس الذي جمع إسرائيل والسلطة الفلسطينية ودولاً عربية ومسلمة مهمة والأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي والأمين العام لجامعة الدول العربية ورئاسة القمة العربية المتمثلة بالمملكة العربية السعودية. خطأ وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس كان في اعتقادها أن أنابوليس تستحق تخدير أو تنويم ملف لبنان ارضاء لسورية. كان الأجدى بها أن تفكر استراتيجياً بأكثر من موضوع واحد فقط في آن، وأن تزن معنى ترك الانطباع بالتخلي الأميركي عن لبنان في خضم معركته المصيرية. أضعف الايمان تطلّب من رايس - ومن أصدقائها العرب - تأجيل موعد مؤتمر أنابوليس إلى حين انتهاء الاستحقاق الرئاسي في لبنان. هذا لا يعني أبداً أن أنابوليس لم تكن مهمة، وإنما المشكلة كانت في الظهور وكأن موضوع فلسطين يتطلب الاستغناء عن لبنان. إن الموضوعين مترابطان في أكثر من ناحية، منها النفوذ والتدخل السوري والإيراني فيهما معاً. يقال الآن إن وزيرة الخارجية استدركت خطأها وأنها بعدما حققت أهدافها في مؤتمر أنابوليس باحضار سورية إليه، عادت الآن لتركز على الدور السوري نحو لبنان والتصدي له. المطلعون على أجواء الإدارة الأميركية في المناصب العليا يقولون إن أجواء الإدارة الآن - في أعقاب استمرار الرئيس السوري بشار الأسد في تعطيل الانتخابات الرئاسية في لبنان ومنع البرلمان من الانعقاد - هي أجواء إلقاء اللوم على الأسد وأجواء معادية للنظام. يؤكد هؤلاء أن الأجواء نفسها تسود الديبلوماسية الفرنسية"التي باتت على بعد سنتيمترات من العداء لسورية مما كان عليه الرئيس السابق جاك شيراك". يقولون حتى وزير الخارجية الفرنسي برنارد كوشنير، الذي يستحيل قراءة من هو وماذا سيفعل في اللحظة المقبلة، غاضب شديد الغضب مما فعله به وبفرنسا رجال الحنكة في دمشق الذين عاملوه"باستهبال". رئيس فرنسا الجديد نيكولا ساركوزي أراد أن يعطي دمشق فرصة طازجة للخروج من العزلة التي وضعها فيها شيراك في أعقاب اختباره لها بالحوار والانخراط العزلة التي بدأها شيراك في أعقاب اغتيال الحريري. رأي ساركوزي الآن، وبحسب تعبيره"قمت بالمخاطرة"مع بشار الأسد"بينما لم يكن أحد يحادثه"، و"وصلت معه إلى نهاية المسار، فالآن، لم تعد تكفيني الكلمات. أريد أفعالاً، وآخر فرصة لذلك هي السبت"غداً، الموعد الجديد لجلسة مجلس النواب اللبناني لانتخاب رئيس للجمهورية. إذا سهّلت سورية الانتخابات الرئاسية اللبنانية، فإنها ستحصل من فرنسا على ما تعهدت به باريس لها من انفتاح وكسر العزلة وتأهيل أوروبي وفتح صفحة جديدة من العلاقات. إذا استمرت في تعطيلها، فإنها ستخسر ما أتت به إليها"بحسن نية"، وإن كان في رأي بعضهم بغباء سياسي وبجهل للأولويات السورية. فما فعلته فرنسا، على رغم حسن نياتها، هو أنها قدمت لسورية"شرعية استعادة دورها في لبنان باعتراف وتقدير فرنسي وأوروبي". وهذا خطأ فادح، لأن كامل المعركة مع سورية انطلقت من القرار 1559 الذي كانت فرنسا وراءه والذي دفع النظام السوري إلى الغضب وارتكاب أخطاء فادحة اسفرت عن خروج القوات السورية من لبنان رغماً عن دمشق. ما غامرت به الديبلوماسية الفرنسية هو تفكيك القرارات الدولية والايحاء لسورية أن بوسعها ضرب تلك القرارات بعرض الحائط، إذا تعاونت مع المبادرة الفرنسية. وفي هذا أخطأت أيضاً. تركت الانطباع أنها في صدد مقايضة المحكمة الدولية ذاتها في الصفقات. تركت الانطباع بالاستعداد للمسامحة وقلب الصفحة والافلات من المحاسبة. فعلت كل ذلك من دون أن تنجح، لأنها نسيت قراءة بديهيات المطالب السورية في لبنان. قد تقرر دمشق التقدم بمفاجأة تسهيل الانتخابات الرئاسية غداً، على رغم أن هذا مستبعد. فلو فعلت، أول ما على فرنسا كشفه هو"الثمن"الذي وعدت به لبنانياً واقليمياً وأوروبياً. فاذا كانت قايضت لبنان مع سورية مع أن ذلك من وجهة نظرها من أجل لبنان، فعلى الأسرة الدولية ايقاف تلك المقايضة. الأرجح أن أياً من ذلك لن يحدث. الأرجح أن تستمر دمشق، ومعها طهران، مع حلفائهما في لبنان، بالمماطلة وشراء الوقت. فهم لا يريدون رئيساً للجمهورية اللبنانية غير خاضع لهم، كما كان اميل لحود خاضعاً لسورية وحلفائها. قائد الجيش المرشح للرئاسة ميشال سليمان، بات مرفوضاً لدى سورية وإيران والمعارضة بعدما كان مرشحهم افتراضاً. والسبب أنه أبدى استقلالية واعتزاماً على احترام منصب رئاسة الجمهورية. دمشق تفضل عدم وجود رئيس على رئيس لا يخضع لسيطرتها. تتصرف وكأنها رابحة من الفراغ الرئاسي بعد نجاحها في تعطيل مؤسسة البرلمان على أيدي حليفها رئيس البرلمان نبيه بري، وكانت تأمل بشرذمة مؤسسة الجيش. لكن واقع الأمر هو أن الوضع الراهن، أي الفراغ الرئاسي، هو أفضل بكثير للدولة وللحكومة وللغالبية البرلمانية وقوى الموالاة مما كان عليه الوضع أثناء تولي اميل لحود الرئاسة وانصياعه لأوامر دمشقوطهران. فمن الأفضل لهذه القوى ألا يكون في الرئاسة رجل تسيطر عليه سورية وإيران. ولذلك ان قوى الغالبية في وضع أفضل مما أرادت لها دمشق والمعارضة ان تكون. إيران صامتة نسبياً لأنها في صدد"هضم"المؤشرات الآتية من واشنطن والتي يفيد بعضها بأن ما حصل من الكشف العلني عن تقرير وكالات الاستخبارات الأميركية عن توقف إيران عن البرنامج العسكري النووي عام 2003"كان غلطة كبرى غير مقصودة"، حسب أحد المطلعين. هذا المعسكر الذي يصر على أن"لا صفقات"أبرمت يقول إن الخيار العسكري لم يُستبعد، وإن لدى الاستخبارات الإسرائيلية معلومات تفنّد ما توصلت إليه الاستخبارات الأميركية، وإن التقرير بحد ذاته أخطر من الخلاصة التي كُشف عنها، وان مضي إيران بتخصيب اليورانيوم وتصنيع الأسلحة والصواريخ يجعلها عرضة لعمل عسكري. هذا رأي معسكر واحد وليس بالضرورة الرأي الصحيح. فهناك بلبلة داخل الإدارة الأميركية وفي المؤسسات الفكرية والأكاديمية، ولا أحد يعرف حقاً ماذا سيحدث لاحقاً في أعقاب مفاجأة تقرير الاستخبارات الأميركية. المعسكر الذي يعتقد أن العراق فرض تفاهماً أميركياً - إيرانياً استراتيجياً يصر على رأيه، وهو يرى فوائد جمة في الانخراط والتحاور مع إيران لطي الصفحة مهما فعل في الماضي ومهما كانت الخلافات. لا يبالي ان كان التحاور مكافأة الأمر الواقع للنظام في إيران، ولا يبالي ان كانت الغايات الايرانية الاقليمية تحويل لبنان قاعدة لها. رأي هذا المعسكر أن المصلحة الأميركية تقتضي بالخروج من العراق بأي ثمن كان. هذا النقاش حول التحاور والانخراط مع إيران أو سورية أو"حزب الله"أو"حماس"أو"طالبان"في أفغانستان نقاش سيستمر لفترة. مع ان أولى مؤشرات الفشل في استخدام الحوار والانخراط في سياسة ارضاء ومسامحة وافلات من العقاب قد بدأت. وكي لا تكرر الإدارة الأميركية أخطاء الماضي القريب، أول ما عليها أن تقوم به هو أن تتعلم كيف يمكن لها أن تركز على أمرين معاً وفي آن. هذان الأمران هما فلسطينولبنان. ولأن الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش يجهز نفسه لزيارة مهمة على المسار الفلسطيني مطلع السنة المقبلة، من مصلحته استعادة زعم اهتمامه بلبنان ليصحح أخطاء وانطباعات اساءت الى نموذج الديموقراطية وإلى السمعة الأميركية وإلى بوش نفسه. فلبنان ما زال سبيله الى نفض صفة"البطة العرجاء"ليتمكن من صنع السلام في فلسطين.